كيف تنظر الولايات المتحدة إلى سوريا ما بعد الأسد؟
تاريخ النشر: 14th, December 2024 GMT
قوبل سقوط الرئيس السوري بشار الأسد بتصريحات أميركية مرحبة ومحذرة في الوقت نفسه. فهذه اللحظة التي انتظرها الأميركيون كثيراً وعملوا عليها من خلال تطويق الأسد ومحاصرته بالعقوبات والضغوطات الاقتصادية والسياسية، فاجأتهم بتطوراتها المتسارعة، وخاصة أنها حصلت على يد تنظيم مدرج على لوائح الإرهاب الأميركية، وهو «هيئة تحرير الشام»، وزعيمها أبو محمد الجولاني، المعروف اليوم بأحمد الشرع، والذي وضعت أميركا مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يتقدم بمعلومات عنه.
يستعرض «تقرير واشنطن»، وهو ثمرة تعاون بين «الشرق الأوسط» و«الشرق»، كيفية تعامل إدارة بايدن مع الأمر الواقع في سوريا، وما إذا كانت سترفع «الهيئة» من لوائح الإرهاب، بالإضافة إلى توجهات إدارة ترمب المقبلة، وما إذا كان سينفذ وعوده السابقة بسحب القوات الأميركية من هناك.
سقوط صادم
فاجأ سقوط الأسد السريع الكثيرين في واشنطن، كالسفير الأميركي لدى سوريا والإمارات ثيودور قطّوف الذي أعرب عن صدمته حيال مجريات الأحداث وتسارعها، مشيراً إلى أنه على الأرجح أن «هيئة تحرير الشام» لم تتوقع أيضاً أن تحقق هذا النوع من النجاح بهذه السرعة. ويعتبر قطّوف أن ما جرى أثبت «ضعف الأسد وعدم ولاء قواته العسكرية والأمنية».
من ناحيته، وصف السفير الأميركي السابق لدى البحرين ونائب المبعوث السابق للتحالف الدولي لهزيمة تنظيم «داعش» ويليام روبوك، سقوط الأسد بـ«التحول الصادم والمثير للدهشة». واعتبر روبوك أن رفع الغطاء الإيراني والروسي عن الأسد تركه «مكشوفاً وضعيفاً جداً»، مشيراً إلى أن «هيئة تحرير الشام» بدأت بهذا الهجوم في البداية على أنه هجوم صغير في حلب، ثم حققت نجاحاً تلو الآخر. وأضاف: «حتى قبل يوم أو يومين من سقوط دمشق، كان البعض يعتقد أنه قد تمر أسابيع، لا بل شهور، على السيطرة عليها، غير أن الأمر حدث في يوم واحد فقط».
ويقول الكولونيل أنتوني شافر المسؤول الاستخباراتي السابق في وزارة الدفاع الأميركية ومستشار حملة ترمب السابقة، إن سبب الأحداث المتسارعة يعود إلى تحييد العنصرين الأساسيين في الدفاع عن الأسد، وهما «حزب الله» وروسيا؛ ما أدى إلى «بقاء جيش غير فعال وهزيل تحت إمرته انهار بسرعة فائقة». لكن شافر يسلّط الضوء في الوقت نفسه على الدور التركي، وتحديداً دور الرئيس رجب طيب إردوغان، مشيراً إلى أنه «رأى فرصة مع خسارة دعم روسيا وتراجع قوة (حزب الله) كوسيلة لاستعادة نفوذ تركيا». وأضاف: «السؤال الآن: ماذا نفعل حيال تركيا؟ فتركيا حليف في (الناتو)، لكنها غالباً ما تعمل باستقلالية ومن دون اعتبار للمصالح الأميركية. وبرأيي، هذا ما حصل هنا».
القوات الأميركية ومصير «قسد»
وهنا يشدد قطّوف على الدور الكبير الذي لعبته تركيا في الأحداث، مشيراً إلى وجود «همّين رئيسين لإردوغان» هما «أولاً عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم والذين يبلغ عددهم 3 ملايين لاجئ، وهذه مسألة سياسية محلية تشكل ضغطاً هائلاً على إردوغان. وثانياً بالطبع تزايد سلطة الأكراد في شرق سوريا لدرجة تقلقه، وهو الآن قادر على مواجهتهم».
ومع تزايد الحديث عن احتمال سحب ترمب القوات الأميركية البالغ عددها نحو 900 عنصر في شمال شرقي سوريا، يعرب قطّوف عن قلقه حيال مصير حلفاء الولايات المتحدة الأكراد، مضيفاً: «أخشى أننا سنتخلّى مرة أخرى عن حلفائنا الأكراد الذين تم التخلي عنهم مرات عديدة من قبل إدارات عديدة، من ضمنها إدارة هنري كيسنجر في سبعينات القرن الماضي».
ويشارك روبوك الذي عمل عن قرب مع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في إدارة ترمب الأولى، هذا القلق، مشدداً على أنهم كانوا «شركاء قيّمين وتحملوا الكثير من الخسائر». وأضاف: «أنا قلق حيال توجه قرار الولايات المتحدة. أعتقد أن تركيا تقود الوضع حالياً، والولايات المتحدة تتمتع بعلاقة قريبة لكن صعبة مع تركيا من بعض النواحي، وأنا لست متأكداً أننا سنكون حازمين وأقوياء بما فيه الكفاية في إيصال رسالتنا إلى تركيا، ومفادها أننا نريد الحفاظ على أمان هذه القوة لكي تستمر بالقتال ضد (داعش) في شمالي شرقي سوريا». وأشار روبوك إلى أن «تركيا تملك نفوذاً كبيراً في الوقت الحالي، وهذا ما يضع الأكراد في موقف صعب». ويتحدث شافر عن المسألة الكردية فيصفها بـ«المعقدة جداً»، ويضيف: «ليس من العدل أن يتم استخدامهم كحليف رئيس وشريك قتال فعال، ثم يتم تجاهلهم مجدداً». لكن شافر الذي عمل مستشاراً لترمب يرجح أن الرئيس المنتخب سيعيد تقييم الدور الأميركي في سوريا، وسيعيد النظر في قواعد القوات الأميركية من حيث التكلفة، مشيراً إلى أنه سينظر كذلك في احتمال «تنفيذ المهمة من القاعدة الأميركية في أربيل وفي الأردن».
عودة «داعش»؟
ويحذر الكثيرون من أن سحب القوات الأميركية من شمال شرقي سوريا سيعني عودة تنظيم «داعش». ويتوقع روبوك الذي لعب دوراً أساسياً في مكافحة التنظيم في إدارة ترمب، أن «يعود التنظيم». ويضيف: «عندما يزول الضغط أعتقد أن الفوضى والاضطرابات في سوريا ستكون مثل الأكسجين لـ(داعش). إن (هيئة تحرير الشام) هي الخصم الآيديولوجي لـ(داعش)، لكن لا أراهم قادرين على مواجهة هذا التحدي في الأشهر المقبلة».
ويشكك روبوك في أن تتمكن «قوات سوريا الديمقراطية» من التصدي لـ«داعش» أو البقاء في حال انسحاب الولايات المتحدة، مشدداً على ضرورة بقاء هذه القوات في عهد ترمب.
من ناحيته، يتحدث شافر عن تحدٍّ آخر يواجه الولايات المتحدة، وهو سجناء «داعش» في سوريا والذين يصل عددهم إلى قرابة 50 ألفاً، بحسب تقييم للسيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، فيقول: «سنضطر إلى مواجهة هذه القضية مباشرةً، وهو ما لم ترغب إدارة بايدن في التعامل معه. فهناك مشاكل متعلقة بالاحتجاز غير المحدود، والتي يجب أن نجد حلاً لها، وهي (مشاكل) مشابهة للنقاش المرتبط بـ(غوانتنامو)».
الجولاني ولوائح الإرهاب
الجولاني في صورة أرشيفية له في 28 يوليو 2016 عندما كان زعيماً لـ«جبهة النصرة» (أ.ف.ب)
وفي ظل تطورات الأحداث وسيطرة زعيم «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني، المعروف اليوم بأحمد الشرع، على المشهد، يدعو روبوك إلى رفع تصنيف «تحرير الشام» كمنظمة إرهابية أجنبية، وإلى رفع القيود الاقتصادية «القاسية جداً» على سوريا.
ويفسر هذه المقاربة قائلاً: «يجب أن نكون ملتزمين، وأن نحاول العمل مع حلفاء تعاونوا معنا في التحالف العالمي ضد (داعش)، وإشراك حلفائنا من الخليج؛ فهم لاعبون مهمون جداً ولديهم مصالح كبيرة في سوريا، وأعتقد أن الشعب والحكومة في سوريا لديهما مصلحة في بناء مجموعة أوسع من الأصدقاء بدلاً من الاعتماد على تركيا».
اقرأ ايضاًمن ناحيته، يتوقع شافر «انقساماً في السياسة» فيما يتعلق بالتعاطي مع «الهيئة»، مشيراً إلى أن ترمب «سيحاول تحديد ما يجب القيام به لتشكيل تحالف، والقيام بما هو ضروري لإعادة الحوكمة إلى المنطقة»، محذراً: «إن لم نكن حذرين فسيعود تنظيم (داعش)، فهذا ما يحصل حالياً في أفغانستان». ويضيف شافر: «يجب أن نكون حذرين جداً عندما نساعد في إسقاط حكومة، قد تكون حكومة لا تعجبنا، لكن على الأقل هي تملك بعض السيطرة على الأراضي. فزعزعة الاستقرار هي الخطر الأكبر للاستقرار الإقليمي، ولكل من يعيش في هذه المناطق أيضاً».
ويتحدث شافر عن الجولاني، معرباً عن شكوكه في الصورة التي يعرضها حالياً، فيقول: «هناك تقارير صادرة حول هذا الرجل، هذا الإرهابي الذي يريد الانتقام من أعداء (هيئة تحرير الشام)، ومن ضمن ذلك قتل بعض الأشخاص. آمل أن أكون على خطأ، آمل أن يكون رجل الدولة الذي يظهره للجميع، لكن أعتقد أن الأمور ستكون أشبه بكاسترو في 1960-1961 حين ظن الجميع أنه سيكون الرجل المناسب، لكنه أصبح حاكماً توتاليتارياً».
ويغوص قطّوف في تفاصيل هذه المقاربة، فيقول عن أميركا وسياساتها: «نحن لا نجيد هندسة المجتمعات أو بناء الدول. إذا كان التاريخ الحديث قد علّمنا شيئاً، فيجب أن يكون هذا ما استنتجناه». ويستكمل قطّوف: «لا يمكننا فرض النتائج من خلال فوهة البندقية. يجب أن يكون لدينا قوة موثوقة عندما تصل إلى طاولة المفاوضات». وعن الجولاني يقول قطّوف: «عندما نتحدّث عن المتطرفين أو عن شخص في السلطة يقدم جانباً جيداً للعالم، نكتشف بعدها أنه شخص مختلف تماماً في الواقع. عموماً، من خلال تجربتي، فإن الثورات تميل إلى أن تأكل أبناءها، وغالباً ما يكون أكثر العناصر تشدداً لهذه الثورات هو الذي يصل إلى المسرح».
Via SyndiGate.info
Copyright � Saudi Research and Publishing Co. All rights reserved.
يتابع طاقم تحرير البوابة أحدث الأخبار العالمية والإقليمية على مدار الساعة بتغطية موضوعية وشاملة
الأحدثترنداشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن
اشترك الآن
المصدر: البوابة
كلمات دلالية: القوات الأمیرکیة الولایات المتحدة هیئة تحریر الشام فی سوریا هذا ما إلى أن یجب أن
إقرأ أيضاً:
العلويون.. القصة الغامضة لحكم سوريا
على مدار أكثر من ستين عاما تمكن العلويون الذين اتخذوا من حزب البعث تُكأة للصعود السياسي والاجتماعي والسيطرة على السلطة في سوريا، وتُعد هذه المرحلة "الأسدية" هي الحقبة الذهبية في تاريخهم السياسي الحديث في سوريا والشرق الأوسط منذ ظهورهم كطائفية دينية قبل أكثر من ألف عام، فلأول مرة لا يتمكنوا من حكم أنفسهم في مناطقهم الحصينة في أعالي الجبال الممتدة من الساحل التركي شمالا إلى سواحل اللاذقية وطرطوس جنوبًا فقط؛ إذ أنهم بسطوا هيمنتهم على كامل الأراضي السورية.
يعود نشأة طائفة العلويين أو النّصيرية إلى مؤسسها محمد بن نصير النُميري البصري، الذي وُلد في العراق في إبان القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وقد أصبح ابن نصير جزءًا من حركة عُرفت بالغلو في القرن الثامن الميلادي في مدينة الكوفة.
ووفق عدد من المصادر التاريخية، فقد كان محمد بن نصير شخصية دينية ذات طابع غامض وجاذبية واسعة بين أتباعه خلال القرن التاسع الميلادي، ينتمي إلى قبيلة بني نمير الشيعية التي استوطنت قرب نهر الفرات في جنوب العراق، والتي كانت متحالفة مع قبيلة بني تغلب، العمود الفقري للدولة الحَمدانية الشيعية التي تأسست في حلب خلال القرن العاشر الميلادي، وقد بزغ نجم ابن نصير عندما أعلن عام 850م أنه "الباب" الذي يُولج منه للإمام الشيعي المعصوم.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2لماذا أراد صدام حسين قتل حافظ الأسد؟list 2 of 2لماذا أراد رفعت الأسد القضاء على أخيه حافظ؟end of list إعلان الفرنسيون يعتمدون على العلوييناليومـ يمثل العلويون ما يقارب 8% من السكان في سوريا، والأمر اللافت الذي يذكره كمال ديب في كتابه "تاريخ سوريا المعاصر" أن بزوغ نجم العلويين بدأ مع الاهتمام الفرنسي بهم من قبل احتلالهم الفعلي لسوريا بعامين كاملين، ففي 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1918 وبعد خروج العثمانيين وهزيمتهم بشهر كامل، وصلت قوة فرنسية صغيرة إلى مرفأ اللاذقية، "وكان هذا الحضور الفرنسي المبكر لافتًا للنظر؛ إذ إن دخول القوات الفرنسية إلى سورية سينتظر عامين إضافيين، فكان خيار البدء باللاذقية دليلا على اهتمام الفرنسيين بالعلويين".
وعقب الاحتلال الفرنسي الفعلي للبلاد عام 1920 سعت فرنسا إلى تشكيل ما يُسمى بـ"جيش المشرق السوري" التابع لها من عامة السوريين، ولكنها واجهت حينئذ رفضا واسعا من الأغلبية السنية التي تصل ل80% من جملة السكان لأسباب متعددة، كان على رأسها الرفض الوطني للاحتلال، فضلا عن النفور من العسكرية؛ إذ كان لدى السنة ذكريات مريرة من الخدمة العسكرية حيث فقدوا أعدادا كبيرة من أبنائهم في الحرب العالمية الأولى التي دخلوها ضمن الفرق والجيوش العثمانية.
وكان للوضع الاقتصادي الجيد للسنة دوره في ابتعادهم عن الالتحاق بالجيش؛ إذ كانوا يسيطرون على التجارة والصناعة ويمتلكون الإقطاعيات، مما قلل من حاجتهم للانخراط في الجيش. وأمام هذا الرفض للأغلبية السُّنية وجد الفرنسيون أن الطائفة العلوية هي الأنسب لدعم مصالحهم الاستعمارية وترسيخ نفوذهم، لعدة أسباب مهمة؛ إذ كان العلويون يتركزون في منطقة واحدة هي شمال غرب سوريا، على عكس المسيحيين المنتشرين في مختلف أنحاء البلاد. هذا التمركز الجغرافي جعل من السهل التخطيط لتقسيم سوريا وتكوين دولة خاصة بالعلويين.
والأمر الآخر الذي شجع الفرنسيين على ذلك كان بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي عانى منها العلويون، وحاجتهم للأموال حيث انضم عدد كبير منهم إلى الجيش الفرنسي، ووجدوا فيه فرصة للعمل والحصول على امتيازات مادية واجتماعية.
إعلانوالأهم من ذلك أن الفرنسيين وثقوا في العلويين واعتبروهم حلفاءهم بهدف تهميش السنة وهو الأمر الذي أكده العديد من الساسة السوريين، منهم الرئيس الأسبق أمين الحافظ في برنامج "شاهد على العصر" على قناة الجزيرة، وهو الرئيس السوري والضابط الذي شارك في انقلاب البعث مع حافظ الأسد ومحمد عمران وصلاح جديد وغيرهم في مارس/أذار 1963.
وقد قام الفرنسيون بعد احتلالهم بتقسيم سوريا إلى أربعة دول؛ واحدة في دمشق والأخرى في حلب والثالثة للدروز في الجنوب والأخيرة دولة العلويين في الساحل السوري، حيث ضمت محافظتي اللاذقية وطرطوس، ورغم هذا التقسيم، فقد فشلت الدولة العلوية الصغيرة بسبب افتقارها إلى العمق الجغرافي والاقتصادي؛ إضافة إلى الضغوط المتزايدة من القوى السنية، وعلى رأسها الكتلة الوطنية، التي طالبت بإعادة توحيد الأراضي السورية.
وعلى الرغم من هذا الفشل، قدم بعض وجهاء العلويين طلبا للفرنسيين يدعون فيه لاستمرار الفصل بين دولة العلويين وسوريا، وكان من بين الموقعين على هذا الطلب سليمان الأسد، جد الرئيس السابق حافظ الأسد، وقد كشفت فرنسا عن هذه الوثيقة في عام 2012 إبان الثورة السورية، ولا تزال الوثيقة التي تحمل هذا الطلب محفوظة في الخارجية الفرنسية تحت الرقم 3547 لسنة 1936.
والحق أن جيش المشرق الفرنسي في سوريا كان يعتمد بشكل كبير على رافد لا ينقطع من الجنود العلويين، وقد تشكلت غالبية قواته من 10 كتائب مشاة من العلويين، وعندما تم تأسيس الجيش السوري بعد جلاء الفرنسيين عام 1946، تم دمج جيش المشرق الفرنسي في الجيش الوطني الجديد، مما أدى إلى انتقال هذه النسبة الكبيرة من الضباط والجنود العلويين إلى الجيش السوري. وهكذا، تشكلت كتلة علوية قوية داخل الجيش، حيث بدت وكأنها "جيش داخل جيش".
ترقب الفرصكان حلم العلويين بعد الاستقلال وجلاء المحتل إعادة تأسيس دولة العلويين، ولكن برؤية أكثر توسعا وإحكاما، حيث خطط بعض الضباط العلويون لضم مدينة حمص ومساحات واسعة من محافظتها، لتوفير العمق الجغرافي لدولتهم، ولتحقيق ذلك كان الهدف يتمثل في تهجير السكان السنة من هذه المناطق، ليصبح العلويون هم الأغلبية السكانية، ما يمهد الطريق لتأسيس دولتهم المزعومة بقوة أكبر وهذا ما قاموا به بالفعل كما سنرى.
في ذلك الوقت كانت كتلة ضخمة من الجيش السوري في منتصف القرن العشرين متأثرة بنفوذ حزب البعث الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي، وهو ما دفع الضباط العلويين للانتماء إلى كلا الحزبين لضمان البقاء في صف المنتصر، واتخاذه ستارة لتحقيق أهدافهم الإستراتيجية.
إعلانولكن كما يوضح باتريك سيل في كتابه "الأسد .. الصراع على الشرق الأوسط" تغيّرت المعادلة بعد مقتل العقيد عدنان المالكي عام 1955 وكان رجلا بعثيا على يد جندي علوي ينتمي للحزب السوري القومي، الأمر الذي أدى إلى اضطهاد كل من ينتمي لهذا الحزب، وهو الأمر الذي كان له أكبر الأثر في انتقال معظم الضباط العلويين إلى حزب البعث، وفي هذه المرحلة انتقلت قيادة الضباط العلويين من غسان جديد الذي قُتل عام 1957، إلى شقيقه صلاح جديد، الذي أصبح الشخصية المحورية في قيادة وتحريك هؤلاء الضباط.
خلال الفترة بين 1949 و1958، عانت سوريا من عدم الاستقرار السياسي نتيجة سلسلة من الانقلابات العسكرية المتكررة التي كان يقودها الضباط السنة ضد بعضهم البعض، وكل ضابط كان يصل إلى السلطة كان يقوم بفصل الضباط السنة المنافسين له واضطهادهم وسجنهم ونفيهم، ما فتح المجال أمام الضباط العلويين لتعزيز وجودهم، ووفق هذه التطورات تمكن هؤلاء من تقديم أنفسهم كعامل توازن يمكِّن أحد الأطراف من التغلب على الآخر، في حين أن الضباط السنة لم يعتبروا هؤلاء الضباط المنتمين إلى أقلية خطرا على منصب الرئاسة أو قيادة الجيش، مما ساعد العلويين على تعزيز نفوذهم بشكل تدريجي.
في عام 1958، ومع قيام الوحدة بين مصر وسوريا تحت مظلة الجمهورية العربية المتحدة، تم حل جميع الأحزاب السياسية وفقا لما اشترطت القاهرة، لكن الضباط العلويين تمكنوا من الحفاظ على هيكلية سرية خاصة بهم، استطاعوا من خلالها ملء الفراغ الذي تركه حزب البعث بعد حله مؤقتا، وكانت هذه الهيكلية بقيادة اللجنة العسكرية التي ترأسها صلاح جديد، وضمت شخصيات بارزة مثل حافظ الأسد، ومحمد عمران، وعبد الكريم الجندي (وهو إسماعيلي).
وبعد انفصال سوريا عن مصر عام 1961، استغلت اللجنة العسكرية الرغبة الشعبية العارمة في إعادة الوحدة إلى جانب الدعم الكبير من ضباط الجيش، لتعزيز نفوذها وإعادة تنظيم صفوفها، مما مهد الطريق لزيادة تأثيرها في الحياة السياسية والعسكرية في البلاد.
إعلان انقلاب علويوفي شهر مارس/أذار عام 1963، تمكنت اللجنة العسكرية التابعة لحزب البعث من استغلال شعار الوحدة العربية لإقناع الضباط الناصريين ومؤيدي الوحدة، وعلى رأسهم لؤي الأتاسي ومحمد الصوفي وزياد الحريري، بالتعاون لتنفيذ انقلاب عسكري بهدف إعادة الوحدة بين سوريا ومصر، وبالفعل نجح الانقلاب في إيصال هؤلاء الضباط إلى السلطة، ولكن بينما انشغل الضباط السُّنة بالمناصب الشكلية، ركز الضباط العلويون على السيطرة على مفاصل الجيش والدولة.
تم تعيين لؤي الأتاسي رئيسا للجمهورية، ومحمد الصوفي وزيرا للدفاع، وزياد الحريري رئيساً للأركان، في حين كانت اللجنة العسكرية العَلوية تعمل بذكاء لتثبيت قبضتها على المواقع الاستراتيجية؛ حيث سيطر صلاح جديد على مكتب شؤون الضباط، ما مكنه من نقل وفصل واستقطاب الضباط بما يخدم أهدافه، كما تولى حافظ الأسد قيادة القوات الجوية والمطارات، بينما تسلم محمد عمران قيادة القوات البرية، حيث عُين قائدا للواء الخامس في حمص واللواء المدرع السبعين.
وخلال فترة قصيرة لا تتجاوز أربعة أشهر، نجح الضباط العلويون في بسط نفوذهم على الجيش والدولة، وفي يوليو/تموز 1963، وبينما كان الرئيس لؤي الأتاسي يجتمع مع جمال عبد الناصر لمناقشة إعادة الوحدة، شن الضباط العلويون حملة لإقصاء الضباط الناصريين ومؤيدي الوحدة، ومن اللافت أنه قد شارك في هذه الحملة أمين الحافظ وزير الداخلية آنذاك، وهو ضابط سني، والذي تولى لاحقا منصب رئيس الجمهورية، ومع ذلك، لم يستمر أمين الحافظ طويلا في منصبه، فقد اتخذه الضباط العلويون مجرد ستار لتحقيق أهدافهم، حيث تم الإطاحة به في انقلاب عام 1966 بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد، حيث وضعوا نور الدين الأتاسي كواجهة لرئاسة سوريا.
الأمر الذي يلحظه الباحث ريموند هينبوش في دراسته "علوّيو سورية وحزب البعث" أن السلطة العلوية الجديدة فتحت الباب أمام عامة العلويين من النزول من جبال وقرى النصيرية في الساحل إلى المناطق السهلية، وشجّعوا على هذه الهجرة خاصة إلى وادي الغاب وسهل عكار ومناطق في حمص يقول: "تضمن الإصلاح الزراعي في ستينيات القرن العشرين الاستيلاء على أراض زراعية شاسعة من أيدي النُّخب المدينية السُّنية والمسيحية غالبًا، وإعادة توزيعها على السكّان العلويّين… واستكملت تلك الإجراءات الإستراتيجية التي وضعها حافظ الأسد لتقويض المجتمعات السُّنية العربية والكردية التي سكنت تلك المناطق وعارضت نظامه".
إعلانعلى المستوى السياسي وفي هذه المرحلة الجديدة، نجح صلاح جديد وحافظ الأسد في إقصاء زميلهم محمد عمران، أحد أعضاء اللجنة العسكرية العلوية بسبب اعتراضه على بعض الإجراءات التي اتخذوها، مما عزز من نفوذهما، وفي تلك المرحلة تولّى حافظ الأسد منصب وزير الدفاع، بينما ارتكب صلاح جديد خطأ استراتيجيا بتركه قيادة الجيش لحافظ الأسد وانشغاله بإدارة الدولة والحزب.
في خلال ثلاث سنوات من تولي حافظ الأسد منصب وزير الدفاع، تمكن مِن إحكام سيطرته الكاملة على الجيش السوري، وقد نفذ انقلابه الشخصي في عام 1970 الذي أطاح فيه بـصلاح جديد والرئيس نور الدين الأتاسي، وألقاهما في السجون، وفي عام 1971، أعلن حافظ الأسد نفسه رئيسا للجمهورية، مستهلاً مرحلة جديدة في تاريخ سوريا.
في كتابه "الصراع على السلطة في سوريا"، يوضح المؤرخ والدبلوماسي الهولندي نيقولاس فان دام أن حافظ الأسد، بعد استيلائه على السلطة في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1970، اعتمد بشكل كبير على مجموعة من الضباط الموالين له، الذين شغلوا مواقع إستراتيجية بارزة في القوات المسلحة، ويشير فان دام إلى أن معظم هؤلاء الضباط كانوا من الطائفة العلوية، أما الضباط المنتمون إلى طوائف دينية أخرى، ورغم توليهم مناصب عسكرية رفيعة، فقد كانت أدوارهم شكلية فقط، حيث لم يكونوا في موقع يسمح لهم بتهديد سلطة الأسد.
ويضرب فان دام أمثلة للتأكيد على هذه الفكرة؛ فاللواء ناجي جميل، وهو ضابط سني من محافظة دير الزور، ترأس سلاح الجو السوري من نوفمبر/تشرين الثاني 1970 وحتى مارس/آذار 1978. ومع ذلك، لم يكن بإمكانه استخدام سلاح الجو بفعالية في مواجهة أي تهديد عسكري ضد حافظ الأسد؛ لأن الضباط العلويين كانوا وحدهم من يسيطرون على القواعد الجوية الرئيسية في البلاد.
وهذا الأمر ينطبق على ضباط سُنة آخرين، مثل اللواء مصطفى طلاس، الذي عُين وزيراً للدفاع في مارس/آذار 1972، وكذلك اللواء يوسف شكور، وهو مسيحي من طائفة الروم الأرثوذكس، الذي تولى منصب رئيس الأركان لاحقا، فقد كانوا في مناصب مرموقة من حيث الشكل، ولكن مفاصل القوات المسلحة ووظائفها الإستراتيجية كلها بيد الضباط العلويين.
إعلانوإذا كان الأمر سار بهذه الطريقة على مستوى الضباط والقيادات العسكرية في الجيش، فإن ريموند هينبوش في دراسته السابقة يرى أن الإستراتيجية ذاتها طُبقت على مستوى الجنود وضباط الصف في الجيش أيضًا؛ صحيح أن المجتمع السني أدّى دورًا بارزًا في القوات المسلحة السورية منذ تأسيسها غير أن المجندين السنة القادمين من المناطق الريفية مثل قرى حوران والمناطق المحيطة بحمص ونهر الفُرات كانت فرصتهم أقل في الترقي المهني في الوحدات المدرّعة والقوى الجوّية ووحدات النُّخبة في الجيش السوري مثل الفرقة الرابعة سيئة السُّمعة، التي بقيت تحت سيطرة قادة علويين فضّلوا تقليديا تجنيد أفراد علويّين.
وبعد حرب 1973 وبفضل هذه الخطوات أدرك حافظ الأسد أنه بات يمكنه تحقيق سيطرة العلويين على كامل سوريا، ولكن بشرط اتباع سياسة صارمة تعتمد على القمع والقبضة الحديدية وسحق السنة وهو ما حدث في العديد من المجازر في جسر الشغور وحماة وغيرها، ورغم هذا الانتصار العلوي الضخم والإستراتيجي، اتخذ بعض العلويين الآخرين مبدأ الرفض لهذا النهج؛ مُفضلين فكرة إقامة دولة علوية مستقلة خاصة بهم، وكان من بين هؤلاء كان الوزير والأديب العلوي المعروف بدوي الجبل.
عقب وفاة حافظ الأسد عام 2000، استمرت هيمنة العلويين على السلطة بارتقاء الابن بشار الأسد في عملية توريث حكم الجمهورية، ويلحظ ريموند هينبوش إلى أن الثورة السورية التي انطلقت في عام 2011 وانشقاق العديد من الضباط السُّنة رفيعي المستوى وانضمامهم للجيش السوري الحر مثل عبد الرزاق طلاس، ومناف طلاس الذي فر هاربًا بعد عجزه عن إخماد المعارضة في مدينة الرستن بحمص، جعل نظام بشار الأسد يُبقي الكتائب ذات الأغلبية السُّنية داخل ثكناتها لشكّه في ولائها، رغم إدراكه استنزاف احتياطي الجنود العلويين، لهذا السبب كان بطيئًا في مكافحة الثورة، وعانى صعوبة كبيرة في استعادة السيطرة على المناطق التي استولت عليها المعارضة.
ومنذ عام 2012 سرّع النظام من تجنيد علويي الساحل، واستدعى تقريبا كل الذكور الذين تترواح أعمارهم بين 20 و 40 سنة للخدمة العسكرية والقتال في محاولاته تدارك عدم التوازن المجتمعي داخل قوات الأمن، وتعويض الخسائر التي تكبدها الجيش، وقد تقبّل العلويون هذا الانضمام للقتال بكثافة وسرعة أكبر مقارنة بالسنة والدروز والمسيحيين كما يقول هينبوش.
إعلانوفي 8 ديسمبر/كانون الثاني 2024 انهار حكم عائلة الأسد، وقد حمل في ثناياه انهيارا واضحًا للسيطرة العلوية على السلطة في سوريا التي استمرت قرابة الستين عاما، وهي قصة لافتة رأينا فصولها وأحوالها التي بدأت بدعم من المحتل الفرنسي، واستغلال من الضباط العلويين لكثرة الانقلابات العسكرية التي قادها الضباط السنة وصراعهم على السلطة في البلاد، ليستأثروا وينفردوا بالمشهد.