سقط النظام الحاكم في سوريا ولجأ رئيسه بشار الأسد إلى موسكو، وحدث ذلك كلّه بسرعة مذهلة لم يكن بمقدور أحد أن يتوقّعها ولو في أكثر خيالاته جموحاً، لم يكد الناس في كلّ أنحاء العالم العربي يستفيقون من ذهولهم حتى بدأت صيحات التكبير تعلو وزخات الرصاص تطلق في الهواء تعبيراً عن الفرح والابتهاج من جانب أناس يظنون أنهم تخلّصوا من نظام مستبدّ طاغٍ وعنيف، وذلك بالتوازي مع سماع أصوات تنتحب ودموع تذرف من جانب أناس يطنون أنهم فقدوا نظاماً عروبياً أصيلاً ومقاوماً صلباً لمشروع الهيمنة الصهيوأمريكي على المنطقة.
ولأنّ صيحات العويل هنا وصخب الفرح هناك لن يعيدا عقارب الساعة إلى الوراء ولن يغيّرا من الأمر الواقع شيئاً، فربما يكون من الأجدى للجميع الآن أن لا يتوقّفوا طويلاً عند سؤال كيف ولماذا انهار نظام عربي يزيد عمره على نصف قرن بمثل هذه السرعة والسهولة، وأن يهتموا أكثر بمحاولة الإجابة عن سؤال ماذا سيحدث في اليوم التالي؟، والتعمّق في بحث تأثير ما جرى على أوضاع العالم العربي وموازين القوى في المنطقة.
تواجه سوريا الآن تحدياتٍ جساماً، يتعلّق أهمّها بطبيعة النظام السياسي المرشّح للاستقرار ولقيادة هذا البلد العربي البالغ الأهمية في المرحلة المقبلة. فالقوى التي حملت السلاح ضد نظام الأسد، وتمكّنت من إسقاطه في النهاية، كثيرة ومتنوّعة وتكاد تكون كراهيتها له هي القاسم المشترك الأعظم بينها.
أما وأنّ هذا النظام قد سقط الآن وأصبح ذكرى من الماضي، فمن المتوقّع أن تبدأ التناقضات الأيديولوجية والسياسية والطائفية الكامنة بين هذه القوى في الظهور تدريجياً، وربما يكون من الصعب جداً عليها أن تتوافق فيما بينها على صيغة موحّدة لإدارة الدولة وشؤون الحكم تتسع للجميع، أو أن تبني رؤية مشتركة تساعدها على التعامل بفاعلية مع مختلف القضايا والتحديات التي ستواجه “سوريا الجديدة” على الصعيدين الداخلي والخارجي.
إذا احتكمنا للسوابق التاريخية التي شهدها العالم العربي خلال العقدين السابقين فسوف نلاحظ أن قوى المعارضة نجحت في إسقاط وهدم أنظمة حكم مستبدة في دول عربية عديدة، خصوصاً إبان موجات متعاقبة من ثورات “الربيع العربي”، لكنها فشلت في كلّ مرة في بناء أنظمة حكم بديلة أكثر ديمقراطية وقابلية للاستمرار.
حدث هذا في تونس، التي نجحت في الإطاحة بزين العابدين بن علي وتمكّنت من هدم نظامه، وفي مصر وفي ليبيا وفي السودان.
ولأنّ القوى التي أطاحت بنظام بشار هي في معظمها ميليشيات مسلّحة تدعمها أطراف خارجية، وبالتالي يصعب النظر إليها باعتبارها قوى أو تيارات سياسية أصيلة أو وطنية، فليس من المستبعد أن تلجأ إلى القوة المسلحة لحسم ما قد يثور بينها من خلافات سياسية أو يحتدم بينها من تناقضات أيديولوجية، وربما أيضاً لحسم ما قد يثور من خلافات بين الأطراف الخارجية التي تدعمها بسبب صراعها على النفوذ في سوريا، وهو ما قد يمهّد الطريق لاندلاع حرب أهلية ربما تفضي إلى تقسيم سوريا إلى كانتونات طائفية.
ولأن المجتمع السوري شديد التنوّع إثنياً وطائفياً، فقد يؤدي حرص المليشيات المتصارعة على إحداث قدر من التوازن في القوة بين الطوائف الرئيسية إلى إقامة نظام في سوريا أشبه بالنظام السائد في لبنان أو في العراق، وهو ما سيقود حتماً إلى كارثة كبرى تساعد المشروع الصهيوني على تحقيق حلمه في تفتيت العالم العربي إلى كانتونات ترسم الحدود فيما بينها على أسس طائفية، ويمهّد الطريق أمام الكيان للهيمنة على المنطقة برمّتها في الأمد المنظور.
على صعيد آخر يتوقّع أن تواجه “سوريا الجديدة” تحديات هائلة في إدارة علاقاتها الخارجية، خصوصاً مع دول الجوار بصفة عامة ومع كلّ من تركيا والكيان الصهيوني بصفة خاصة، وسرعان ما ستكتشف أن هذه العلاقات تكتنفها تعقيدات هائلة وتنطوي على تناقضات كثيرة تبدو غير قابلة للحلّ. ولأنّ سوريا ظلّت لأكثر من ثلاثة عشر عاماً مسرحاً لصراع مفتوح تشارك فيه قوى إقليمية ودولية كثيرة، إما بوصفها أطرافاً داعمة ومساندة للنظام الذي سقط، مثل روسيا وإيران وحزب الله، وإما بوصفها أطرافاً داعمة ومساندة للفصائل المعارضة للنظام، مدفوعة في ذلك بأطماع تجاه سوريا نفسها أو بمطالب تريد فرضها على النظام الحاكم، مثل تركيا والكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية.
ناهيك عن بعض دول الخليج التي وجدت في “الربيع العربي” فرصة للتخلّص من نظام مناكف، ومن ثم اكتفت بتقديم التمويل والدعم اللوجستي لقوى المعارضة. ورغم أنّ سقوط نظام بشار يعدّ في الوقت نفسه هزيمة للأطراف الإقليمية والدولية التي ساندته، إلا أنّ روسيا لا تزال تحتفظ بقواعد بحرية وجوية في سوريا، وليس من المعروف ما إذا كانت ستنسحب بإرادتها من هذه القواعد أم أنها ستصرّ على البقاء فيها وربما تناور بمحاولة مقايضة انسحابها بانسحاب الولايات المتحدة من القواعد والمناطق التي تحتلها، وفي مقدّمتها المناطق الغنية بالنفط والغاز.
تعيش تركيا حالياً لحظة نشوة عارمة بعد سقوط نظام بشار، ولذا تعتقد أنها أصبحت في وضع يتيح لها ممارسة تأثير هائل على الأوضاع في سوريا في مقبل الأيام، خصوصاً وأنّ الفصيل الذي ساندته ودعمته بالمال والسلاح، وهو هيئة تحرير الشام، يتبوأ موقع القيادة في المرحلة الانتقالية التي ستتولّى وضع أسس النظام السياسي الذي سيقود “سوريا الجديدة” في المرحلة المقبلة. غير أنّ أيّ نظام وطني قابل للاستقرار في سوريا لا بدّ وأن يصطدم حتماً مع تركيا، أياً كان نظام الحكم السائد فيها، على خلفيّة مسألتين مترابطتين على جانب كبير من الأهمية، الأولى: أطماع تركيا التاريخية في سوريا، والثانية: الموقف من المسألة الكردية.
ففيما يتعلّق بالمسألة الأولى، يُلاحظ أنه سبق لتركيا أن احتلت لواء الاسكندرونة وضمّته إليها عام 1939، غير أن مطامعها في سوريا لم ولن تتوقّف عند هذا الحد، خصوصاً وأنّ عدداً من المسؤوليين الكبار في تركيا صرّح مؤخّراً بأنّ حلب مدينة تركية ويجب أن تعود إلى الوطن الأم. وفيما يتعلّق بالمسألة الثانية، يلاحظ أن تركيا تعتبر قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وغالبية مقاتليها من الكرد السوريين، حركة إرهابية تشكّل امتداداً لحزب العمال التركي الذي يطالب بانفصال الكرد وإقامة دولة كردية موحّدة، فيدرالية أو كنفدرالية، تشمل المناطق التي يعيش فيها الكرد في كلّ من تركيا وإيران وسوريا.
لذا يتوقّع أن تماطل تركيا في الانسحاب من المناطق التي تحتلها في شمال سوريا، بدعوى أن وجودها في هذه المناطق يعدّ ضرورة أمنية لمحاربة “الإرهابيين الكرد”. وسوف يصعب جداً على أيّ نظام سوري يعتبر نفسه وطنياً أن يسلم بأطماع تركيا التاريخية في سوريا، أو يعطي لتركيا الحقّ في تحديد مستقبل الكرد السوريين، لأنّ هذا شأن داخلي سوري لا يجوز لتركيا أن تتدخّل فيه.
بقي أن نلقي نظرة سريعة على أطماع الكيان الصهيوني في سوريا، والتي يرى كاتب هذه السطور أنها ستكون المحك والاختبار الحقيقي لمدى وطنية النظام السوري الجديد، بل والكاشفة لحقيقة انتماءاته الدينية والحضارية. فأطماع الكيان الصهيوني في سوريا موثّقة ولا تحتاج إلى إيضاح أو تأكيد. فلم يكتفِ هذا الكيان باحتلال مرتفعات الجولان السورية لكنه قام بضمّها أيضاً وما زال ويؤكّد صباح مساء أنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من “إسرائيل” وستظل كذلك إلى الأبد ولن ينسحب منها مطلقاً.
وقد انتهز الكيان حالة الفوضى التي تمرّ بها سوريا حالياً ليعلن أنه بات في حرب حقيقية وشاملة معها، ليبرّر بذلك استيلاءه على قمة جبل الشيخ الاستراتيجية الواقعة على الناحية السورية من مرتفعات الجولان، وإقدامه على احتلال المنطقة منزوعة السلاح والإعلان عن إنهاء اتفاقية فضّ الاشتباك الموقّعة عام 1974م من جانب واحد، رغم أنها أبرمت بوساطة أمريكية قام بها هنري كيسنجر، واحتلّت كذلك مدينة القنيطرة وعدداً من القرى السورية المتاخمة للحدود مع فلسطين وأصبح “جيشها” بالتالي على مسافة تقل عن 40 كيلومتراً من دمشق.
ولم يكتفِ الكيان بذلك كلّه وإنما قام بشنّ مئات الغارات على مختلف أنحاء سوريا استهدفت تحطيم كلّ القدرات البرية والبحرية والجوية التي يمتلكها الجيش السوري. والغريب أننا لم نسمع كلمة إدانة واحدة لهذا السلوك من جانب من يحكمون سوريا الآن، إذ لا يخفى على أحد أن للكيان الصهيوني علاقات قوية بعدد من الفصائل السورية التي عارضت نظام بشار، وسبق أن كشفت وسائل إعلامية صهيونية عن استقبال الكيان لعدد من المقاتلين الجرحى والمرضى، بمن فيهم مقاتلون من جبهة النصرة، وتمّ علاجهم في مستشفياته.
وفي سياق كهذا، يصعب التنبّؤ بما سيكون عليه موقف النظام السوري الجديد من القضية الفلسطينية، ومن المقاتلين الفلسطينيين الموجودين حالياً فوق الأراضي السورية، ومن المكاتب التي تمثّل العديد من الفصائل الفلسطينية المسلّحة في دمشق، ومن بينها حماس والجهاد والجبهة الشعبية وغيرها.
لن يندهش كاتب هذه السطور إذا أعلنت دمشق في غضون عام أنها باتت جاهزة لإبرام معاهدة سلام مع الكيان. فتداعيات الزلزال الذي ضرب سوريا لم تظهر جميعها بعد، ولن تقتصر على النظام الإقليمي العربي، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة على كل حال، وإنما ستمتدّ لتشمل توازنات النظام العالمي أيضاً.
ليس من المهم أبداً أن يكون اسم رئيس الدولة السورية بشار الأسد، لكن الأهم أن تظلّ سوريا كما كانت دائماً، قلب العروبة النابض وقلعة المقاومة الصامدة في وجه جبروت المشروع الصهيوني.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
الإعلام الصهيوني يُسلط الضوء على المخاوف من رد اليمن واستنزاف الكيان
الثورة نت/..
سلطت وسائل إعلام العدو الصهيوني، السبت، على المخاوف التي تسود المنظومة الأمنية الصهيونية جراء رد مُحتمل للقوات المُسلحة اليمنية على القصف “الصهيوني الأمريكي البريطاني” المُشترك لأهداف يمنية، الجمعة.
وأفادت القناة 12 الصهيونية في بيان لها على موقعها الإلكتروني، بأن “المنظومة الأمنية الصهيونية في حالة يقظة عالية، تخوفا من رد حوثي متوقع على قصف الجمعة”.. حسب قولها.
وأكدت أن “هناك مخاوف صهيونية حقيقية من محاولة “الحوثيين” الرد على القصف المشترك خلال الساعات المقبلة”.. مُشيرة إلى أن الهجوم “الصهيوني الأمريكي البريطاني” المشترك على أهداف باليمن هو “الخامس من نوعه” منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة، في السابع من أكتوبر 2023.
وأضافت: إن “إسرائيل” أرادت من خلال الهجوم “توجيه رسالة واضحة إلى إيران تقضي بأن التنسيق مع الجانبين الأمريكي والبريطاني قد ارتفع إلى مستوى أعلى”.. حسب زعمها.
بدورها كشفت قناة “كان” الصهيونية، أن “استخبارات الكيان المُحتل جندت عشرات اليهود من أصول يمنية للتعامل مع ما وصفتها بتهديدات جماعة أنصار الله الحوثية”.
وأوضحت القناة الصهيونية، أن “من تم تجنيدهم يفهمون اللغة العربية باللهجة اليمنية، ومنهم من هاجر من اليمن، وبعضهم نشأ في بيت ناطق باللغة العربية باللهجة اليمنية.. مشيرة إلى أنهم سيخدمون في شعبة أمان الاستخباراتية؛ للمساعدة في المواجهة عبر جمع المعلومات الاستخباراتية وفهم الثقافة اليمنية”.
كما سلط إعلام العدو الضوء على الهجوم الصهيوني الخامس على اليمن.. مؤكدا أن هذا التصعيد يعكس دخول الكيان المُحتل في حرب استنزاف طويلة ذات تبعات اقتصادية وأمنية خطيرة.
ويؤكد محللون، أن اليمن نجح في استدراج الكيان الغاصب إلى مُواجهة مُعقدة يصعب الانسحاب منها، في حين أكد بعضهم أن “إسرائيل” ستكون الخاسرة في هذه الحرب الاستنزافية.
وكشفت وسائل إعلام العدو، أن نحو 100 طائرة صهيونية شاركت في الهجوم على اليمن، وقالت: إن سلاح الجو الصهيوني شن سبع غارات على صنعاء وثلاث غارات على الحديدة.
وتطرقت القناة الـ14 الصهيونية، إلى ضعف الدعم الأمريكي لكيان الاحتلال في هذا الصراع، إذ أشار مراسل الشؤون السياسية تامير موراغ إلى مشكلتين رئيسيتين: الأولى هي غياب رغبة الإدارة الأمريكية في تصعيد العمليات الهجومية ضد “الحوثيين”، والأخرى نقص الصواريخ الاعتراضية، مما يزيد صعوبة التصدي للهجمات اليمنية.. حسب قولها.
على الصعيد الاقتصادي، شدد خبراء على أن تعطيل ميناء إيلات بالكامل بسبب الهجمات البحرية اليمنية يمثل ضربة قاسية لـ”إسرائيل”.. مشيرين إلى أن الكيان الصهيوني لم يُعد يمتلك القدرة على الردع كما كان الحال في الماضي.
وأشار مراسل الشؤون العسكرية في قناة “12” نير دفوري إلى أن التقديرات في الكيان الصهيوني تشير إلى دخول الكيان في حرب استنزاف قد تمتد لأسابيع، إذ تواصل القوات اليمنية إطلاق الصواريخ والطائرات المُسيرة بشكل يومي، مما يؤدي إلى إرهاق المنظومات الدفاعية الصهيونية.
فيما توقع الخبير في شؤون الخليج يوئيل جوجانسكي، أن تستغل القوات اليمنية هذا الوضع لاستنزاف “إسرائيل” بشكل أكبر.. مؤكدا أن اليمن يُدرك تماماً تأثير هجماته على السياسة والمجتمع الصهيوني.
وأضاف جوجانسكي: “إسرائيل” تقع تدريجياً في المصيدة اليمنية، وأنا قلق من أن هذه الحرب قد تنتهي بهزيمتنا”.
ومنذ السابع من أكتوبر 2023، يشن العدو الصهيوني بدعم أمريكي حرب “إبادة جماعية” على غزة، أسفرت عن أكثر من 155 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.