حكم الصلاة بالوشم القديم الذي تتعذر إزالته
تاريخ النشر: 13th, December 2024 GMT
قالت دار الإفتاء المصرية إن الوشم القديم الذي فيه حبس الدم تحت الجلد حرامٌ شرعًا، ولا يجب إزالته إن كان في ذلك ضررٌ على صاحبه، وتكون الصلاة به صحيحةً شرعًا على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء.
الأسباب الشرعية لتحريم الوشم الدائموأوضحت دار الإفتاء أن الوشم الثابت هو الذي يتم عن طريق إحداثِ ثُقْب في الجلد باستخدام إبرة معينة، فيخرج الدم ليصنع فجوة، ثم تُملَأ هذه الفجوة بمادة صِبغية، فتُحدِث أشكالًا ورسوماتٍ على الجلد.
وقالت الإفتاء إنعه قد اتفق الفقهاء على نجاسته ومن ثَم حكموا بحرمته؛ لما رواه الشيخانِ في "صحيحيهما" عَنْ علقمةَ، عن عبد اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَال: «لَعَنَ اللهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ».
وفي هذا الحديث دليل على حرمة الوشم بالصورة السابقة؛ لأنَّ اللعن الوارد في الحديث لا يكون إلا على فعل يستوجب فاعلُه الذَّمَّ شرعًا؛ قال العلامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (1/ 70، ط. مكتبة القاهرة) بعد ذكر حديث النهي: [فهذه الخصال محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن فاعلها، ولا يجوز لعن فاعل المباح] اهـ.
الأسباب الشرعية لتحريم الوشم الدائم
وكشفت الإفتاء عن الأسباب الشرعية لتحريم الوشم الدائم، وهي ترجع إلى أمور:
أولًا: ما يترتَّب على بقاء الوشم من التدليس والتغييرِ لخلق الله سبحانه وتعالى، كما جاء في نصِّ الحديث السَّابق ذِكْره: «الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ».
وما جاء في قول الله تعالى -على لسان الشيطان-: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ [النساء: 119].
قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 393، ط. دار الكتب المصرية): [وهذه الأمورُ كلُّها قد شهدت الأحاديثُ بلَعْنِ فاعلِها وأنها من الكبائرِ، واختُلِف في المعنى الذي نهي لأجلها، فقيل: لأنّها من باب التدليس، وقيل: من باب تغيير خلق الله تعالى، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، وهو أصحُّ، وهو يتضمَّنُ المعنى الأول] اهـ.
ثانيًا: ما فيه من إيلام للجسد بغرز الإبرة. وغرزُ الإبرةِ ضررٌ بالإنسان من غير ضرورة؛ ومن المعلوم شرعًا حُرمة الإضرار بالنفس أو بالغير؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، وقوله عز وجل: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29]، فقد نصت الآيتان على النهي عن الإضرار بالنفس، والإلقاء بها في المهالك، والأمر بالمحافظة عليها من المخاطر والأضرار؛ فمن مقاصد الشريعة الإسلامية المحافظة على النفس، ولهذا حرم الله تعالى كلَّ ما يؤدي إلى إتلاف الإنسان أو جزءٍ منه.
ثالثًا: أنَّ الوشم فيه مشابهة لما يفعله الفُسَّاق والجُهَّال؛ قال الملا علي القاري في "مرقاة المفاتيح" (5/ 1895، ط. دار الفكر): [وإنما نهي عنه؛ لأنه مِن فِعل الفُسَّاق والجُهَّال، ولأنه تغيير خلق الله؛ وفي "الروضة": لو شق موضعًا من بدنه وجعل فيه وعاءً أو وشمَ يدَه أو غيَّرها، فإنه ينجس عند الغرز] اهـ.
رابعًا: ما يُحدِثه من نجاسةٍ للموضع الموشوم بسبب الدم المختلط بالصبغ؛ قال الإمام النووي في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (14/ 106، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال أصحابنا: هذا الموضع الذي وُشِم يصير نجسًا] اهـ.
وجاء في "اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح" (14/ 508، ط. دار النوادر): [قال الفقهاء: ما وُشِمَ يصير نجسًا، فإن أمكنَ إزالتُه وجبَتْ، وإن أَورَثَ ذلك شَينًا أو تَلفَ شيءٍ فلا] اهـ.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الوشم الوشم الدائم الصلاة بالوشم الصلاة الله تعالى
إقرأ أيضاً:
العشر الأواخر وصناعة الرّجولة
يمكننا وصف العشر الأواخر من شهر رمضان التي تمثّل الشوط الأخير من ميدان التسابق بأنّها "المعسكر التدريبيّ المكثّف لصناعة الرّجولة".
والرجولة عماد صناعتها تقوية الإرادة وزيادة التحمل ورفع مستوى الجهد والتخلي عن العادات، وكل هذا هو ما يتمّ في الدورة المكثفة في العشر الأواخر من شهر رمضان.
ولو تأملنا الأحاديث التي جاءت في العشر الأواخر من شهر رمضان لوجدناها تحمل معالم صناعة الرّجولة، فقد جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره"، و"زاد مسلم: وجَدَّ وشد مئزره".
وكذلك روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ ما لا يَجْتَهِدُ في غيرِهِ".
ولقد روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ". والاعتكاف هو لزوم المسجد والمكث فيه لطاعة الله تعالى.
هذه المعاني تحتاج إلى رجولة، التشمير للعبادة، والزيادة فيها، واعتزال الشهوات لأجل التفرغ للعبادة، فكل هذا تدريب عملي على صناعة الرجولة
وأمّا معالم صناعة الرجولة في العشر الأواخر من رمضان كما رسمتها الأحاديث وصاغها فعل وسلوك النبيّ صلى الله عليه وسلم، والذي هو تشريع إلهيّ ووحيٌ من عند الله يوحى إليه به فما ينطق عن الهوى صلوات ربي وسلامه عليه، فهي كالآتي:
المَعلَم الأوّل: إحياء الليل
وهذا يحتاج إلى الرجولة في مسارين اثنين؛ رجولة نفس ورجولة بدن، أما رجولة النفس فهي التي يغالب فيها الإنسان أهواءه وشهواته، ويتغلب فيها على الدعة والرّاحة والسكون، وينتصر فيها على رغباته في زيادة النوم وإطالة الرّاحة، فمن الشباب اليوم من يبرع في رفع الأثقال ولعب الحديد وصناعة العضلات وبناء الرشاقة في النوادي الرياضيّة، لكنه لا يستطيع رفع لحافه عنه ليقوم بين يدي الله في ساعة من الليل، وما ذلك لضعف بدنه بل لاستسلام جسده لرغبات نفسه وأهوائها.. ورجولة بدن؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتورم قدماه، ويعلل ذلك عند سؤال عائشة له عن هذا الجهد وقد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر؛ "يا عائشة؛ أفلا أكون عبدا شكورا؟".
ولقد تربّت الأجيال التي عاشت في مدرسة النبوّة بحق على معاني رجولة النفس والبدن معا؛ فها هو أبو مسلم الخولاني رحمه الله يقدم نموذجا تطبيقيا في هذه الصناعة؛ فقد كان حازما مع نفسه، وقد علق سوطا في بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفن بك زحفا إلى الله حتى يكون الكَلَل منك لا مني؛ فإذا فتر وكَلَّ وتعب تناول سوطه وضرب ساقه، ثم قال: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا؟! كلا! والله لنزاحمنَّهم عليه زحاما حتى يعلموا أنهم خلفوا وراءهم رجالا.
المَعلَم الثّاني: إيقاظ الأهل
وصناعة الرجولة في هذا المعنى تقوم على أمرين اثنين؛ الأوّل: الشعور بالمسؤوليّة عمّن هم تحت رعايتك وولايتك، فلا يكون رجلا من يضيع مسؤوليّاته عن رعيته سواء كانت رعيته الأمة والشعب أو أسرته الصغيرة، والثاني: التطهر من الأنانيّة والخلاص الفردي بل إن من معالم الرجولة العمل للآخرين وإنقاذهم من النيران الدنيويّة والأخرويّة، وأولى الناس بذلك هم أهل المرء وخاصّته؛ قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (التحريم: 6).
المَعلَم الثّالث: شدّ المئزر
يقول الإمام النووي: "اختلف العلماء في معنى "شد المئزر" فقيل: هو الاجتهاد في العبادات زيادة على عادته صلى الله عليه وسلم في غيره، ومعناه: التشمير في العبادات، يقال: شددت لهذا الأمر مئزري، أي: تشمرت له وتفرغت، وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء للاشتغال بالعبادات.
فكل هذه المعاني تحتاج إلى رجولة، التشمير للعبادة، والزيادة فيها، واعتزال الشهوات لأجل التفرغ للعبادة، فكل هذا تدريب عملي على صناعة الرجولة.
المَعلَم الرّابع: الاعتكاف
اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه
وهو معسكر مغلق داخل المسجد وانقطاع عن الناس، وهو أحد معالم صناعة الرجولة من خلال التدريب العملي على القدرة على الانقطاع عن معايش الناس ومشاغل الحياة الدنيا.
ولعلّ من أجلى التعبيرات عن تأثير الاعتكاف في صناعة الرّجولة ما قاله ابن القيّم في زاد المعاد: "لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى، متوقفا على جمعيته على الله، ولَمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإنَّ شعث القلب لا يلمُّه إلا الإقبال على الله تعالى! وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثا، ويُشتته في كل واد، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه، أو يعوقه ويوقفه.
اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه: عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيتُه عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبُّه، والإقبال عليه في محلِّ هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهمُّ كلُّه به، والخطراتُ كلُّها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسُه بالله بدلا من أنسه بالخلق، فيعده بذلك؛ لأنه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصودُ الاعتكاف الأعظم".
فهذه المعالم الأربعة لصناعة الرجولة هي التي تقوم عليها أفعال العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، فطوبى لمن خرج من هذا المعسكر التدريبي المكثف وقد حقق قسطا وافرا من صناعة الرجولة التي يحتاجها الفرد اليوم في خضم الحياة الماديّة الطاغية، وتحتاجها الأمة في ظل استنسار البغاث من الطغاة والمحتلين.
x.com/muhammadkhm