تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

الحروب على أشكالها تقع، سواء كانت غزوًا بالجيوش الأجنبية أو الجماعات الإرهابية أو حتى الحروب الأهلية أو الصراع بين أطراف متعددة فى الدولة الواحدة.. تعانى الشعوب من كل هذه الحروب أيًا كان شكلها ونمطها، ذلك أنها تأتى على الأخضر واليابس ولا تفرق بين الحجر والبشر ومثلما راح ملايين من الناس ضحية الحروب، فقد دُمرت الآلاف من الآثار التى تمثل هوية أى شعب وتعبر عن ماضيه وتجعله يزهو بتاريخه العظيم.

سمعنا عما أحدثته الحرب العالمية الثانية من تدمير للآثار فى العديد من الدول الأوروبية التى كانت طرفًا فى القتال، ولعلنا رأينا بأنفسنا بعد تطور وسائل الاتصال ما فعلته التنظيمات الإرهابية من تدمير لآثار الشعوب سواء فى العراق أو سوريا أو فلسطين أو اليمن أو أفغانستان أو غيرها من البلدان، فى حملة محمومة ومجنونة فيما يمكن اعتباره «إبادة ثقافية» لذاكرة الشعوب.

وبعد أن سكتت المدافع فى الحرب العالمية الثانية يوم ٧ مايو ١٩٤٥ باستسلام القوات الألمانية للحلفاء، تم الإعلان عن انتهاء الحرب رسميًا فى اليوم التالى ٨ مايو والذى أُعتبر يوم النصر فى عموم أوروبا.

وظل المجتمع الدولى يفكر ويفكر فى كيفية حماية تراث الشعوب، واستمر التفكير نحو تسع سنوات حتى تفتق الذهن عما يُعرف بـ«اتفاقية لاهاى لحماية الملكية الثقافية فى حالة النزاع المسلح»، وهى معاهدة دولية تطلب من الموقعين عليها حماية الملكية الثقافية فى الحرب، وتم التوقيع عليها فى ١٤ مايو عام ١٩٥٤ فى مدينة لاهاي، فى هولندا، وصدق عليها أكثر من مئة دولة ودخلت حيز التنفيذ فى ٧ أغسطس ١٩٥٦.

كانت الاتفاقية انتصارًا للإنسانية وعم الارتياح بين الشعوب والمسؤولين وكل عارفى ومقدرى قيمة الأثر فى تاريخ الشعوب وحياتها، فقد وضعت قواعد لحماية السلع الثقافية أثناء النزاعات المسلحة. وكانت أول معاهدة دولية تهدف إلى حماية التراث الثقافى فى سياق الحرب، وسلطت الضوء على مفهوم التراث المشترك وأدت إلى إنشاء «اللجنة الدولية للدرع الأزرق» لحماية التراث.

ومرت الأيام والسنوات حتى رأينا اليوم «الأزرق»، ونحن نتابع تدمير الآثار فى أكثر من دولة دون أى وازعٍ من ضمير أو أى إحساس بقيمة البشر والحجر. ولم يقتصر الأمر على هذا التدمير، فقد تواترات الأنباء عن سرقة الآثار بفعل فاعل هو جيش الغزاة، وكان أوضح مثال على ذلك ما أقدم عليه جنود وضباط من الجيش الأمريكى عقب احتلال العراق، والتفاصيل يعرفها القاصى والدانى فى كل بقاع الأرض.. [هامش: من غرائب الطبيعة ما ذكره كاتب أمريكى يدعى بيتر ستون فى تقرير بموقع «ذى كونفرزيشن» الأمريكي، إذ قال إن «الولايات المتحدة أول دولة تجعل حماية الممتلكات الثقافية جزءًا من سياستها العسكرية من خلال قانون ليبر لعام ١٨٦٣ الذى كتب دليلًا مخصصًا للقوات الفيدرالية خلال الحرب الأهلية آنذاك»، ويبدو أن هذا «القانون» صُنع خصيصًا للحرب الأهلية داخل حدود دولته، لكن نهب وسرقة آثار الشعوب الأخرى فهو جائز شرعًاّ!].

وإذا سألنا أنفسنا: ماذا فعلت اتفاقية لاهاى وهل ساهمت فى حماية آثار العالم؟، فسوف نجد الإجابة واضحة للعيان فى العراق حيث اتفقت إرادة التنظيم الإرهابى «داعش» مع إرادة المحتل الأمريكى، فالأول استخدم معاوله للهدم والتدمير والثانى استخدم سطوته فى النهب والسرقة.. وإذا توجهنا قليلًا نحو سوريا المجاورة، نتحسر على ما دمرته التنظيمات الإرهابية.. ومن يدرى؟ فقد يكون أبو محمد الجولانى أحد الذين شاركوا فى التدمير إذ كان يتنقل بين التنظيمات الإرهابية على حسب مزاج مموليه وداعميه، أما لبنان فقد أصابت الغارات الإسرائيلية العديد من آثاره (بالأخص فى بعلبك) خلال الأشهر الماضية.. وإذا كانت عيوننا ترحل كل لحظة صوب غزة الجريحة، فيكفى أن نشير إلى أن المرصد الأورومتوسطى لحقوق الإنسان أكد فى تقرير حديث له، أن «إسرائيل تنتهك على نطاق واسع قواعد القانون الدولى لحقوق الإنسان والقانون الدولى الإنسانى لا سيما اتفاقيات جنيف، ومعاهدة لاهاى الدولية المتعلقة بحماية الإرث الثقافي، من خلال شنها لهجمات عسكرية منهجية ضد الأماكن والآثار التاريخية أثناء عدوانها المتواصل منذ السابع من أكتوبر على قطاع غزة». ولا نريد أن نسترسل فى هذا المجال وقد استعرض الزملاء والزميلات الكثير من أبعاد جريمة «الإبادة الثقافية» على صفحات هذا العدد الذى حاولنا فيه تقديم بانوراما عامة عن هذه الكارثة. 

ورغم ما نراه حولنا من أهوال، دعونا نحلم ونقول مثل ديباجة الميثاق التأسيسى لليونسكو «لما كانت الحروب تتولد فى عقول البشر، ففى عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام».. وقد يكون مفيدًا أن نشير إلى الديباجة التى تصدرت اتفاقية لاهاى.. فتعالوا نقرأها معًا:

«إن الأطراف السامية المتعاقدة؛ لاعترافها أن الممتلكات الثقافية قد منيت بأضرار جسيمة خلال النزاعات المسلحة الأخيرة، وأن الأخطار التى تتعرض لها تلك الممتلكات فى ازدياد مطرد نتيجة لتقدم تقنية الحرب؛ ولاعتقادها أن الأضرار التى تلحق بممتلكات ثقافية يملكها أى شعب كان تمس التراث الثقافى الذى تملكه الإنسانية جمعاء، فكل شعب يساهم بنصيبه فى الثقافة العالمية؛ ولاعتبارها أن فى المحافظة على التراث الثقافى فائدة عظمى لجميع شعوب العالم وأنه ينبغى أن يكفل لهذا التراث حماية دولية؛ ولاعتبارها أنه ينبغي، حتى تكون هذه الحماية مجدية، تنظيمها منذ وقت السلم باتخاذ التدابير اللازمة، سواء أكانت وطنية أم دولية؛ ولاعتزامها اتخاذ كل التدابير الممكنة لحماية الممتلكات الثقافية؛ قد اتفقت على ما يأتي»..

والمقصود بـ«ما يأتى» هو نصوص اتفاقية لاهاى التى جاءت فى أربعين مادة تعبر فى جمل متناسقة وجميلة ومحكمة وتناطح بعضها بعضًا فى إثبات حسن النية.. ولكن هل تكفى حسن النوايا فى إدارة مثل هذه الأمور؟.. العالم فى حاجة إلى تطوير أدواته، فلم يعد يكفى إبرام المعاهدات وإصدار البيانات والبكاء على الأطلال.

وعلى أية حال، يمكنك أن تكتب على جوجل عبارة «اتفاقية لاهاى لحماية الملكية الثقافية فى حالة النزاع المسلح» كى تكون أمام ناظريك وأنت تتصفح معنا هذا العدد.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: الجماعات الإرهابية الحروب الأهلية

إقرأ أيضاً:

الثقافة: تسجيل أي عنصر تراثي لدى اليونسكو يتطلب تقديم ملفا متكاملا

قالت الدكتورة نهلة إمام، مستشار وزير الثقافة للتراث الثقافي غير المادي، إن التراث الحي هو التراث الذي يمارس في الوقت الحاضر، ويعكس ثقافة الشعوب واحتياجاتها، مشيرة إلى أهمية أن يكون التراث المسجل مرتبطًا بالممارسات الحالية، وليس مجرد بقايا تاريخية على جدران المعابد أو في الكتب.
وأوضحت، خلال حوارها ببرنامج الخلاصة، والمذاع عبر فضائية المحور، أن تسجيل أي عنصر تراثي لدى اليونسكو يتطلب تقديم ملف متكامل عبر استمارة محددة المعايير، يتم تقييمها من قبل لجنة مكونة من 12 خبيرًا دوليًا، مشيرة إلى أن اللجنة تركز على التراث الذي لايزال حيًا ويمارس اليوم.

وأضافت، أن تسجيل التراث لا يعتمد على أي سباق لتحديد الأقدمية، بل على اختيار الشعوب للحفاظ على عناصره الحية، مشيرة إلى أن الحناء كممارسة ثقافية وتراثية مشتركة بين 16 دولة، حيث شاركت مصر في صياغة ملف تسجيلها، كما أن الحناء تعد عنصرًا يحمل تنوعًا ثقافيًا كبيرًا، إذ ترتبط بالبهجة والاحتفالات في مناسبات مثل الأفراح، كما تستخدم بطرق متنوعة في دول مختلفة.

وتابعت، أن مصر على سبيل المثال، تستخدم الحناء في تجميل الأيدي وفي تزيين الحيوانات، بينما تستخدم في تونس في طقوس الوفاة، حيث تضاف إلى الكفن، موضحة أن هذا التنوع الثقافي يعكس الأوجه المختلفة للعناصر التراثية المشتركة بين الشعوب.

مقالات مشابهة

  • محمود ربيع يكتب: تدمير الحروب للآثار وطمس هوية الشعوب.. معركة على الذاكرة الثقافية
  • حروب الخراب.. كنوز لبنان الأثرية.. الغارات الإسرائيلية تدمر مواقع تاريخية مدرجة ضمن التراث العالمي
  • اقرأ غدًا في «البوابة».. حروب الخراب.. آثار العالم تناديكم.. الشعوب عمروها.. والأعداء دمروها
  • مستشار رئيس الجمهورية اليمني للشئون الثقافية في حوار خاص مع «البوابة نيوز»: الآثار اليمنية في خطر.. التعاون الدولى أساس للحفاظ عليها
  • عالم أزهري: حروب الجيل الرابع تهدد استقرار الأوطان
  • “محمد بن زايد للعلوم الإنسانية” تستقطب طلابا دوليين في “الانغماس اللغوي”
  • بعد الحرب الأخيرة|كيف يساهم علم الآثار الفضائي في حماية مواقع السودان الأثرية؟
  • الثقافة: تسجيل أي عنصر تراثي لدى اليونسكو يتطلب تقديم ملفا متكاملا
  • أهم أخبار مطروح.. توقيع بروتوكول تعاون لدعم الطلاب ذوي الهمم.. وورشة عمل للجنة حماية التراث