قال الشيخ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي، إمام وخطيب المسجد الحرام ، إن حلم الله تعالى على عباده ليس عن عجزٍ أو ضعفٍ حاشاه سبحانه، بل يحلُم عن مقابلة العاصين بعصيانهم، ويستعتِبُهم كي يتوبوا، ويمهلُهم كي ينيبوا، ولِيُقيم الحجة عليهم بأنهم لم يُصلِحُوا قلوبَهم وأعمالَهم بعدَ حلمِه عليهم.

حاشاه سبحانه

وأوضح “ غزاوي ” خلال خطبة الجمعة الثانية من جمادي الآخر من المسجد الحرام بمكة المكرمة، أنه تعالى لو عاجَلَ العصاة بالعقوبة لما بَقي أحدٌ على وجه الأرض، قال تعالى: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ».

وأضاف أن من أسماء الله الحسنى الحليم، قد وَصَفَ تبارك وتعالى نفسَه بالحلْم فقال: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ»، وقال سبحانه «وَٱللَّهُ غَنِيٌ حَلِیمࣱ»، وهي صفة كمال تقوم على الحكمة والعلم والصبر، والحليم سبحانه هو الصبور ذو الصفح والأناة.

وتابع: الذي لا يستخفُّهُ جهل الجاهلين، ولا عصيان العاصين، وهو يُشاهد جحودَ الكفار وفجورَ الأشرار وكيدَ الفجّار، ولكنه لا يُعجّل بالعذاب، ولا يسارع في الانتقام، مع كمال قدرته وقوته وجبروته، فيؤخّرُ وينْظر، ويؤجّل ولا يعجّل، ويستر ويغفر.

يدر على خلقه النعم 

وأشار إلى أنه الحليم الذي يُدِرُّ على خلقِه النِّعمَ الظاهرةَ والباطنة، مع معاصيهم وكثرة زلاتهم، فالله عز وجل لا يغيب عنه من أمرنا شيء؛ فهو سبحانه مطلع على أعمالنا في كل وقت وحين، وعالمٌ بجميع أحوالنا فِي كل ساعة وفي كل نفَسٍ وكلِّ طَرفةِ عين.

واستشهد بما قال تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا یَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةࣲ فِی ٱلۡأَرضِ وَلَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ وَلَا أَصۡغَرَ مِن ذَ لِكَ وَلَا أَكۡبَرَ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینٍ﴾.

وبين أن في هذا تذكرة لكل من استحوذ عليه الشيطان، وسولت له نفسه العصيان، منوهًا بأن الله جل وعلا كان معه حين عمل السيئات، وكان معه عندما فرط في جنب الله وارتكب الموبقات.

يقدر أن يأخذه

وأفاد بأنه سبحانه لو أراد أخذه في وقته أخذه، ولم يُمهله حتى يوافيَ أجلَه، كان يقدر أن يأخذه وهو يخالف الحق ويتبع غير سبيل المؤمنين، مضيفًا: فمَن أعظمُ مِن ربنا جودًا وكرمًا؟! ومن أوسَعُ منه مغفرةً وحلمًا؟!.

وأردف : كم من خير منه على خلقه نازل، وكم من شرٍّ منهم إليه صاعد. يعصيه العاصون ويتجرأ عليه المتجرئون وهو شاهدٌ غيرُ غائب ولأفعالهم مراقب، يكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يَعْصُوه، ويتولى حفظَهم كأنهم لم يُخالفوه، فما أحلمَ اللهَ على من عصاه! .

ولفت إلى أن جهلَ العاصين قد يبلغ مداه، فالمشركون مِنْ عُتُوِّهم وَعِنَادِهِمْ وَشِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ اسْتَفْتَحُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَاسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ، وَتَقْدِيمَ الْعُقُوبَةِ، قال سبحانه: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.

كان الأولى لهم 

ونبه إلى أنه كَانَ الْأَوْلَى لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: "اللَّهُمَّ، إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَاهْدِنَا لَهُ، وَوَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِهِ". إنه الحليم سبحانه الذي «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا».

وأكد  أن حلم الله تعالى يستوجب محبته لأن الحليم محبوب، فكيف بربنا الجليل سبحانه الموصوف بكمال الحلم وتمامه. كما أن الحلم من الخِصَال العظيمة التي يُريد الله من عباده أن يتخلقوا بها.

واستند لما قال القُرطبيُّ رحمه الله: "فمن الواجب على من عَرَفَ أن ربَّهُ حليمٌ على من عصاه، أن يحلُم على من خالف أمره، فذاك به أولى حتى يكون حليمًا، فينال من هذا الوصف بمقدار ما يكسر سَوْرَة غضبه، ويرفع الانتقام عمن أساء إليه، بل يتعود الصفح حتى يعودَ الحِلم له سجية، قال تعالى: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور﴾ فكما تحب أن يحلُمَ عنك ربك، فاحلُم أنت عمن تحت يديك؛ لأنك متعبَدٌ بالحلم مُثابٌ عليه".

وأوصى المسلمين بتقوى حق تقاته، وتعظيمه، والخضوع لأمره، والانقياد لشرعه، قال تعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾.
 

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: خطيب المسجد الحرام خطبة الجمعة من المسجد الحرام إمام و خطيب المسجد الحرام المزيد قال تعالى على من

إقرأ أيضاً:

إبراهيم نصر يكتب: تحويل القبلة والمؤامرة على الأقصى

تحويل القبلة من المسجد الأقصى فى فلسطين، إلى بيت الله الحرام فى مكة المكرمة، من الأحداث العظيمة التى وقعت فى النصف من شهر شعبان، وهذه الذكرى تجعلنا دائما وأبدا نتذكر المؤامرة على هذه الأراضي المقدسة وعلى المسجد الأقصى الأسير، هذا المسجد الذي حكم عليه بالأسر على أيدي أعداء الله على مر التاريخ.

وفى يقينى أن الله تعالى حين أمر رسوله بالتوجه إلى بيت المقدس، فإنما أراد سبحانه وتعالى أن يلفت المسلمين جميعا إلى أهمية هذا البيت، باعتباره أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومن يفرط فيه، فهو يوشك أن يفرط فى الكعبة المشرفة بيت الله الحرام، ومن هنا فإن قضية تحرير القدس ليست مسؤولية الفلسطينيين، ولا المصريين، ولا الأردنيين وحدهم، بل هى قضية المسلمين أجمعين فى مشارق الأرض ومغاربها، وهذا ما ظهر جليا فى الموقف العربى والإسلامى الموحد، الذى تقوده مصر، الرافض لتصفية القضية الفلسطينية بتهجير الفلسطينيين من أرضهم، والتمسك بضرورة إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧وعاصمتها القدس الشرقية.

ولعله من المناسب أن نتذكر الآن احتلال القدس من قبل الصليبيين الذين انطلقوا من جميع دول أوروبا في أشرس حملة ضد الإسلام والمسلمين، فاستولى الصليبيون عليه سنة 1099م، وقتلوا في جوار البيت المقدس أكثر من سبعين ألفا من المسلمين، ثم قيض الله المجاهد صلاح الدين الأيوبي الذي حرره من أيدي الصليبيين في السابع والعشرين من رجب سنة 583هـ، يوم الجمعة من شهر أكتوبر 1187م بعد 88 عامًا من الاحتلال، فكان يومًا مشهودًا.

إن قبلتنا الأولى تذكرنا بحقيقة الصراع، وأن اليهود قوم بُهت: قال تعالى في معرض حديث الآيات عن القبلة: "وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُل آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ"، ومن هنا ندرك مدى عداوة هؤلاء للإسلام والمسلمين، فقد شنوا حربا إعلامية ضارية في أمر القبلة، قبل وبعد التحويل، ولقد فُتن ضعاف الإيمان بقولهم: "يجحد ديننا ويتبع قبلتنا"، وقول المشركين: "يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته"، وقولهم: "رجع إلى قبلتكم فيوشك أن يرجع إلى دينكم".

وكان مما انطلقت به أبواق أعداء الله قولهم: "إن كان التوجه أولًا إلى المسجد الأقصى باطلًا، فقد ضاعت صلاتكم إليه طوال هذه الفترة، وإن كان حقًّا فالتوجه الجديد إلى البيت الحرام باطل وضائعة صلاتكم إليه".

وفي سيرة ابن هشام عن ابن عباس، قال: ولما استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة أتى رفاعة بن قيس، وكعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق، وهم زعماء اليهود، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم، عليه السلام، ودينه، ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك، وإنما يريدون فتنته عن دينه، فأنزل الله تعالى: "سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [البقرة: 142]، ثم قال المسلمون: يا رسول الله، كيف بمن مات من إخواننا قبل استقبال الكعبة. فأنزل الله تعالى: ".. وما كان الله ليضيع إيمانكم.. "، يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس.

وإن المتأمل لآيات تحويل القبلة - وهي ترد شبهات اليهود - يتبين له مدى ضراوة الحرب الإعلامية والفكرية التي شنها اليهود، وما زالوا، وكل همهم هو تشويه صورة المسلمين وتشتيت شملهم، وحالهم كما قال الله تعالى: "وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا" [المائدة: 33].

اللهم فى هذا الشهر الفضيل، وببركة ليلة النصف منه التى ترفع فيها الأعمال، نسألك سبحانك أن ترفع عنا الغمة، وتجمع شتات الأمة، وتنصرنا على القوم الظالمين الكافرين، أعدائك أعداء الدين.

[email protected]

مقالات مشابهة

  • علي جمعة: يغفر الله لكل عباده ليلة النصف من شعبان إلا لهذا الشخص
  • إبراهيم نصر يكتب: تحويل القبلة والمؤامرة على الأقصى
  • عضو مركز الأزهر العالمي للفتوى: التسامح والعفو فضيلة أخلاقية وعلاج نفسي
  • حكومة التغيير والبناء: الهروب المُذل للمارينز من صنعاء مثل انتصارا للإرادة الشعبية على قوى الاستكبار
  • حكومة التغيير والبناء تحذرت من المخططات الأمريكية الرامية للنيل من شعبنا
  • قصة تحويل القبلة وهل حدثت فى ليلة النصف من شعبان ؟
  • فهو يخلفه
  • اليهود هم الخطر الحقيقي على الأُمَّــة
  • القصة والحكمة من تحويل القبلة في منتصف شعبان
  • رحلة بنداء رباني