بعد سقوط النظام البعثي الطائفي في سوريا، يبدو أن هذا الحدث سيمثّل مناسبة أخرى -بعد الثورتين المصرية وما أعقبها من انقلاب عسكري، والثورة الليبية وما أعقبها من تقسيم واقعي، وإن كان غير مُدستر، لليبيا- لتكريس الانقسام العميق بين النخب التونسية. وبصرف النظر عن المآلات الكارثية لهذا الانقسام ودوره في إفشال الانتقال الديمقراطي، فإننا نستطيع رده إلى الموقف من الحركات الإسلامية وموقعها في بناء المشروع الديمقراطي أو المشترك المواطني من وجهة نظر النخب "العلمانية" المهيمنة والمتعامدة وظيفيا مع الدولة العميقة، ويمكن رده أيضا إلى حقيقة "الربيع العربي" وعلاقته بأجندات الدوائر الاستعمارية والصهيونية في سرديات الأنظمة القديمة والنخب العلمانية، بما فيه الكثير من النخب "الثورية" أو المعارضة للنظام الاستبدادي في لحظتيه الدستورية (نظام الراحل الحبيب بورقيبة) والتجمعية (نظام المخلوع بن علي).



وسنحاول في هذا المقال قراءة أهم تلك المواقف من خلال البيانات الرسمية للسلطة وللمنظمات المدنية خلال الثورة وبعد سقوط النظام، كما سنقوم باستقراء عفوي -أي لا يدعي العلمية- للسجال العمومي في وسائل التواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية التقليدية التي تعبّر عن "التوجهات العامة" لأصحاب السرديات الكبرى داخل ما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية" قبل سقوط النظام وبعده.

الملف السوري هو جزء من الأمن الداخلي والخارجي في تونس (خاصة في ملفي الإرهاب والتسفير)، ولا شك أيضا في أن المواقف الديبلوماسية يجب أن تكون مدروسة وغير متسرعة. فالموقف التونسي لا يمكن فصله عن التوازنات السياسية الداخلية، بل لا يمكن فصله عن موقف حلفاء النظام التونسي إقليميا ودوليا
من جهة السلطة الرسمية في تونس، فإن الرئيس قيس سعيد قد جاء إلى قرطاج سنة 2019 بمواقف علنية لا تختلف عن الموقف الذي اتخذه الرئيس الأسبق منصف المرزوقي؛ بقطع العلاقات الديبلوماسية مع النظام السوري في شباط/ فبراير 2012، ولكنّ الرئيس سعيد وجد أيضا خطوة رسمية كانت قد ذهبت في الاتجاه المعاكس -أي اتجاه الانفتاح على النظام السوري- بعد أن قررت حكومة مهدي جمعة -على عهد رئاسة الباجي قائد السبسي- فتح مكتب لإدارة شؤون التونسيين في سوريا. وهو ما يعني أن "التطبيع" مع النظام السوري قد بدأ زمن "التوافق"، مما يوجب تنسيب المزايدات الحالية لأنصار حركة النهضة وحلفائها.

بعد أن دخلت تونس "حالة الاستثناء" منذ 25 تموز/ يوليو 2021، توالت خطوات التطبيع مع النظام السوري وبدأت مرحلة التقارب العلني التي انتهت بعودة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين في نيسان/ أبريل 2023. وبحكم القاعدة الشعبية لـ"تصحيح المسار" ولموالاته النقدية -وهي قاعدة تنتمي أساسا إلى التيارين القومي واليساري وورثة المنظومة القديمة- فإن الموقف الرسمي من سوريا كان موقفا منتظرا، بل كان موقفا متماهيا مع انتظارات الأغلب الأعم من "القوى الديمقراطية" المدنية والسياسية، بما فيها بعض القوى المعارضة للنظام في مسار "تصحيح المسار" ومآلاته الحالية.

حرصت الديبلوماسية التونسية حتى آخر أيام النظام السوري على إصدار مواقف مساندة له، بل متماهية معه. فقد أصدرت الخارجية التونسية قبل أيام من سقوط النظام بيانا ندّدت فيه "بشدة بالهجمات الإرهابية التي استهدفت شمال سوريا في المدة الأخيرة" مُعربةً عن "تضامنها التام مع الجمهورية العربية السورية"، وداعيةً "المجموعة الدولية لمساندتها حتى تحافظ على سيادتها وأمن شعبها واستقرارها ووحدة أراضيها".

رغم تذكير وزارة الخارجية إثر سقوط النظام السوري بأن "تونس تتمسك بالتفريق بين الدولة من جهة والنظام القائم داخلها من جهة أخرى"، فإن هذا المبدأ الديبلوماسي لم يدفع بالوزارة إلى تهنئة الشعب السوري أو إلى التعبير عن الرغبة في بناء علاقات أمتن مع النظام الجديد على قاعدة المصالح المشتركة للبلدين، بل اكتفى البيان بالتأكيد على "ضرورة تأمين سلامة الشعب السوري والحفاظ على الدولة موحّدة كاملة السيادة بما يحميها من خطر الفوضى والتفتيت والاحتلال، وعلى رفض أي تدخل أجنبي في شؤونها".

ولا شك في أن المتتبع للشأن السوري سيجد في هذا البيان الكثير من "الإنشاء" الذي لا علاقة له بـ"الخبر" السوري (واقع الفوضى والتفتيت والاحتلال، وواقع التدخل الأجنبي في شؤونها، بل واقع عدم سلامة الأغلب الأعم من الشعب السوري زمن النظام البعثي البائد).

لا شك في أن الملف السوري هو جزء من الأمن الداخلي والخارجي في تونس (خاصة في ملفي الإرهاب والتسفير)، ولا شك أيضا في أن المواقف الديبلوماسية يجب أن تكون مدروسة وغير متسرعة. فالموقف التونسي لا يمكن فصله عن التوازنات السياسية الداخلية، بل لا يمكن فصله عن موقف حلفاء النظام التونسي إقليميا ودوليا.

ومن المنتظر أن يعيد سقوط النظام السوري ملف "التسفير" إلى الواجهة. ونحن لا نعني بالتسفير فقط أولئك المتورطين في تسفير التونسيين لمقاتلة النظام السوري، بل نعني أيضا أولئك الذين ذهبوا لدعم النظام (كتيبة محمد البراهمي). فكلا الفعلين قد تم خارج الإطار الرسمي، بل ضد التوجه الرئاسي القائم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وهو ما يوجب بناء مقاربة مختلفة لملف التسفير تمهيدا لبناء علاقات جيدة مع النظام السوري الحالي.

استقراء مواقف المنظمات/ النخب "الديمقراطية" يضعنا أمام حقيقتين متعامدتين: أولا، اختزال الثوار ومطالبهم المشروعة في كونهم "إرهابيين" و"عملاء" للغرب في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد أو "الربيع العبري"؛ ثانيا، اختزال النظام في بُعد "المقاومة والممانعة" والتصدي لذلك المشروع الصهيوني- الإمبريالي مع تهميش نسقي لكل جرائمه في حق الشعب السوري
لفهم مواقف أغلب النخب "الديمقراطية" التونسية من سقوط النظام السوري، سيكون علينا أن نعود إلى مواقفها من ذلك النظام منذ انطلاق الثورة السورية بصورة سلمية. إن استقراء مواقف المنظمات/ النخب "الديمقراطية" يضعنا أمام حقيقتين متعامدتين: أولا، اختزال الثوار ومطالبهم المشروعة في كونهم "إرهابيين" و"عملاء" للغرب في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد أو "الربيع العبري"؛ ثانيا، اختزال النظام في بُعد "المقاومة والممانعة" والتصدي لذلك المشروع الصهيوني- الإمبريالي مع تهميش نسقي لكل جرائمه في حق الشعب السوري.

ونحن هنا أمام براديغم/ نموذج تفسيري تم تفعيله في الشأن التونسي وإسقاطه بعد ذلك على مجمل الثورات العربية. ففي تونس، أُسند إلى الإسلام السياسي -بما في ذلك حركة النهضة- دور "الإرهابي" و"العميل"، وأُسند إلى "القوى الديمقراطية" -بما فيها ورثة النظام القديم- دور "الممانع" و"المقاوم". وهو ما يضع الصراع السياسي في مدار وجودي لا يقبل التسوية أو العمل المشترك بين "الديمقراطيين" و"الإسلاميين"، سواء في تونس أو في خارجها.

إن اعتماد هذا النموذج التفسيري هو ما دفع بأغلب "القوى الديمقراطية" إلى مناصرة النظام السوري -ومن قبله الانقلاب العسكري المصري باعتباره "ثورة تصحيحية"- وهو ما دفعهم إلى التواصل العلني مع النظام السوري، كما فعل وفد اتحاد الشغل سنة 2017 ونقيب الصحافيين التونسيين ناجي البغوري سنة 2018. بل إن هذا النموذج التفسيري هو ما دفع الرابطة التونسية لحقوق الإنسان إلى الدعوة إلى استئناف العلاقات الديبلوماسية مع النظام السوري ورفع الحصار عنه. فرغم الطابع الكوني لمنظومة حقوق الإنسان، فإن "الحقوقيين التونسيين" لم يروا في الملف السوري من التجاوزات السلطوية ومن القمع للحقوق الفردية والجماعية ما يدعو إلى انتقاد النظام.

أما المنظمات النسوية (مثل النساء الديمقراطيات والاتحاد الوطني للمرأة التونسية) فإنها لم تر في واقع النساء السوريات ما يدعو إلى التضامن أو انتقاد النظام البعثي القائم. ولا شك في أن الاحتكام إلى المنطق الاختزالي في فهم الثورة السورية ومجمل الثورات العربية -مع إسقاط الصراعات الهوياتية التونسية على الواقع السوري، بالإضافة إلى العلاقات النوعية مع محور الثورات المضادة- كل ذلك قد جعل من الحتمي أن يكون أغلب الديمقراطيين التونسيين ظهيرا للنظام السوري ومدافعا شرسا عنه حتى بعد سقوطه.

بعيدا عن المواقف الرسمية، فإن استقراء مواقف أغلب النخب "الديمقراطية" في مواقع التواصل الاجتماعي وفي منابر الإعلام التقليدية يظهر أنها كانت داعما قويا للنظام البعثي السوري. وقد يكون علينا في هذا الموضع أن نشير إلى أن الملفات الخارجية كلها (الملف السوري، الملف المصري، الملف الليبي.. الخ) هي عند النخب "الديمقراطية" مواضيع متاحة وليست الموضوع المقصود أو الموضوع الأصلي.

فالمواقف من الملفات الإقليمية هي عملية تعميم نسقي للموقف من الإسلاميين بمختلف مرجعياتهم في تونس. فالإسلامي -سواء قبل العمل القانوني ومنطق الحقل السياسي الحديث أم لم يقبل- هو عدو وجودي لأي مشروع ديمقراطي. وهي عداوة تتجاوز الإسلاميين لأنها تتعلق بـ"الاستثناء الإسلامي"، أي بذلك التعارض الجوهري والنهائي الذي يفترضه العلمانيون بين الإسلام في ذاته وبين الديمقراطية. وإذا أضفنا إلى ذلك إصرار أغلب "الديمقراطيين التونسيين" على "عمالة" الإسلام السياسي السني وطابعه الوظيفي المعادي لمحور "المقاومة والممانعة" والخادم لمشروع الشرق الأوسط الجديد، فإننا نفهم البنية العميقة لمواقف النخب "الديمقراطية" من الإسلاميين في تونس وخارجها.

يبدو أن العقل السياسي الذي أفشل الانتقال الديمقراطي في تونس يعيد إنتاج نفسه (بمصادراته وصوره النمطية ومصالحه المادية والرمزية) عند مقاربة الثورة السورية بعد سقوط النظام البعثي الطائفي في سوريا. فهو يُصر على "طيّ" كل جرائم ذلك النظام وعلى إنكار المطالب المشروعة للثوار السوريين، كما يصر على اختزال الثورة في مشروع إرهابي هدفه ضرب الدولة السورية وخدمة الكيان الصهيوني
إن نقد هذا الطرح وبيان تهافته لا يحتاج إلى حجج كثيرة. فمن جهة التعارض المتوهم بين الإسلام والديمقراطية، فقد أثبتت العديد من التجارب السياسية عدم صوابية هذا الحكم (تجارب جنوب شرقي آسيا والتجربة التركية)، أما حجة "عمالة" الإسلاميين السنة فيكفي لنقضها التذكير بالنواة الصلبة للمقاومة الفلسطينية وهي نواة إخوانية (أي سُنّية). أما التخويف من الإسلاميين في بناء البديل الوطني السوري، فيكفي أن نذكّر "الديمقراطيين" بأن الأنظمة التي دافعوا عنها وما زالوا يدافعون -في سوريا وليبيا ومصر وإيران.. الخ- لا يمكن أن تكون نماذج سياسية صالحة للدفاع عن الديمقراطية أو عن احترام الحريات الفردية والجماعية. فإقصاء الإسلاميين -وبصورة أصح استهداف أي معارض للأنظمة الاستبدادية- لا يجعل من أي نظام نظاما ديمقراطيا بالضرورة، بل إن اعتماد حجة "الممانعة والمقاومة" لا يمكن أن يكون مبررا للدفاع عن نظام دموي طائفي لم يحرر شبرا من أرضه (الجولان)، ولكنه نجح في تدمير بلده وبناء منظومة استبداد لا تختلف في بشاعتها عن بشاعة المشروع الطائفي المقابل بقيادة القاعدة وداعش.

ختاما، يبدو أن العقل السياسي الذي أفشل الانتقال الديمقراطي في تونس يعيد إنتاج نفسه (بمصادراته وصوره النمطية ومصالحه المادية والرمزية) عند مقاربة الثورة السورية بعد سقوط النظام البعثي الطائفي في سوريا. فهو يُصر على "طيّ" كل جرائم ذلك النظام وعلى إنكار المطالب المشروعة للثوار السوريين، كما يصر على اختزال الثورة في مشروع إرهابي هدفه ضرب الدولة السورية وخدمة الكيان الصهيوني.

ورغم تهافت هذا المنطق فإن الرهانات الداخلية في تونس تجعله يتصلب أكثر بعد سقوط النظام السوري. فـ"الديمقراطيون" يعلمون جيدا أن نجاح الإسلاميين السوريين وشركائهم من مختلف الأطياف في بناء الدولة بعد خرابها سيؤثر بالضرورة على الداخل التونسي، بل ستكون له تأثيرات مؤكدة على مواقف القوى الدولية من الإسلاميين في الإقليم كله. ولذلك يسارعون إلى بناء سيناريوهات كارثية لمستقبل سوريا (وكأنها كانت تعيش في جنة البعث)، وإذا خانتهم الوقائع بادر الكثير منهم إلى اختلاقها وترويجها على الأقل لمنع أي تعديل في مواقف من يشبهونه. فالمهم ليس القاعدة الأخلاقية لإدارة الخلاف مع الخصوم، بل المهم هو التصدي للموجات الارتدادية للطوفان السوري ولو على حساب الحقيقة والموضوعية.

فهل يختلف موقف حركة النهضة وحلفائها في المعارضة عن مواقف "القوى الديمقراطية" من الثورة السورية؟ وما هو تأثير سقوط النظام السوري على المشهد السياسي في تونس، وما هو الاتجاه المتوقع لذلك التأثير وماهي حدوده المتوقعة؟ وهل تمتلك حركة النهضة أية أفضلية أخلاقية أو سياسية على خصومها فيما يتعلق بالموقف من الثورة السورية بعيدا عن المزايدات الخطابية؟ إنها الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها في المقال القادم بإذن الله بعيدا عن الادعاءات الذاتية وعن منطق الرغبة وآلية الإسقاط المهيمنة على الأغلب الأعم من الفاعلين الجماعيين في تونس، بما في ذلك حركة النهضة.

x.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا التونسية الديمقراطية سوريا الأسد تونس ديمقراطية مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة سقوط النظام السوری القوى الدیمقراطیة مع النظام السوری بعد سقوط النظام الثورة السوریة من الإسلامیین الشعب السوری الملف السوری حرکة النهضة فی سوریا فی بناء فی تونس ولا شک بما فی وهو ما من جهة

إقرأ أيضاً:

7 أولويات للسوريين بعد سقوط النظام

سوريا ما بعد سقوط نظام الأسد أمام تركة ثقيلة لأنّ ما جرى يوم 8 ديسمبر/كانون الأول كان سقوطًا مدويًا بكل المقاييس.

وهو سقوط لأنه اختار ألا يواجه حتى النهاية، حيث غادر رأسه الأسد الابن تحت جنح الظلام تاركًا كل شيء حتى أخاه.

وهو مدوٍ لأنه انكشاف مذهل للمعلوم المستور من بنيته كنظامٍ تمركز حول قضية جعلها كقميص عثمان يستبيح بذريعتها شعبه وبلده لحدٍ أذهل العالم مما شاهده على الشاشات من معالم للقمع والتنكيل الذي مورس على أوسع مدى، فطال السوريين بمختلف انتماءاتهم وطوائفهم ومعهم عرب وأجانب، ولأن حقيقته المفجعة هي أنه ليس إلا نظامًا دعيًّا في قضيته المركزية، إذ سارعت إسرائيل لتدميرٍ نوعي ومكثف لمفاصل ما تبقى من قوة عسكرية سورية؛ لأنها لا تثق بالقادم، وفي طيات ذلك دلالات لا تخفى عن حقيقة المقاومة والممانعة، وعن حقيقة (الاندساس المفبرك)، والذي أفرز كل هذا التدمير المتوحش والاستئصال الدموي منذ مارس/آذار 2011.

وهي تركة؛ لأن الفرار الذليل، والسقوط المهين قد تركا سوريا في الفراغ وسط انقسام مفاهيمي، وفرز مجتمعي حاد وجارح، وواقع ميداني دامٍ، وهي ثقيلة؛ لأن شعب الدولة ذات العاصمة الأقدم في التاريخ سيواجه معضلته الداهمة بإرث "اللاكيان" بالمعنى المُضني للكلمة، إذ هناك بنى ومؤسسات دولة لكنها تفتقد للمأسسة المعتبرة، وتعشعش فيها مفرزات المحسوبية، وتسيّر بمعظمها وفق مقتضيات الفساد بتوظيف البنى والمؤسسات لصالح إبقاء النظام بدعاواه قائمًا على رؤوس مواطنيه وحالبًا لهم عند كل احتياج للتعامل مع مناحي الدولة.

إعلان

ولابد لشعب الأبجدية الأقدم في التاريخ من المسارعة إلى لعق جراحه، وترميم فجواته المجتمعية، وزج الطاقات لإخراج بلدهم من التشظي الذي حشروا فيه لعقود طويلة، وعليه الوقوف بشجاعة ووعي تاريخي باستحقاقات الخروج من أعباء التركة الثقيلة، وتحديات طي صفحة عهود أنهكته وأصمّت أسماع أبنائه بدعاوى جعلت واقعهم من الأسوأ عالميًا في مختلف الميادين.

الاستحقاقات السبعة

ومن أبرز الاستحقاقات التي ينبغي للسوريين بكليتهم المسارعة للتعامل الناضج معها:

1- ثنائية الدولة والمواطن:

"سوريا الأسد" هو شعار أشهر من نار على علم. وفي طياته اختزال الدولة في شخص، وتحويلها إلى مزرعة تسير بالاتجاه المرسوم بدقة متناهية وإلا. ولا بدّ من العمل لإعادة رسم مفهوم الدولة في أذهان حامليها أولًا، وفي سلوك منتسبي مؤسساتها، وفي وعي مواطنيها.

ومن الضروري أن تخرج سوريا بأداء قادتها الجدد ووعي طبقتها السياسية القادمة من كل ما يمت لسادية الدولة بصلة، وألا تغرق – بسبب ردة الفعل على ما كان –  في وُحول خلق نرجسية للمواطن، وأن تمتلك الدولة خطابها المتوازن والواقعي، وشراكتها الحقيقية مع المجتمع بدفعه لتشكيل قواه المجتمعية وفقًا لروح تُعلي مفهوم المواطنة وتكرّس شأنها، وتؤسس على حسّ المسؤولية والشراكة من مختلف الأدوار.

وينبغي أن يتعزّز في الوعي العام مفهوم الدولة الناظمة والميسّرة لا الدولة الآسرة ولا المحتكرة، دولة تفصل بين مؤسساتها بشكل واضح، وتنسج العلاقات البينية للمؤسسات بشكل متوازن يضمن سلامة أدوارها وانخراطها في آليات اتخاذ القرار وتحسينه.

2- الوطنية والمواطنة:

كانت الوطنية تختزل في الرضوخ للحاكم الفرد، والدندنة حول أطروحاته وتوجهاته، والدوران في فلك شخوص السلطة والبناء على تشابكاتٍ معهم.

ولا بدّ لسوريا المستقبل من حاضرٍ يجتهد لإعادة الاعتبار إلى وطنية السوريين، وخلق روح الانتماء والإحساس بالشراكة الإيجابية فيما للوطن من شؤون وشجون، والانتقال بمفهوم المسؤول الحكومي من مصدر ومركز إلى موظف له صلاحيات محددة، ودور مرسوم. وذلك لردم الهوة بين المواطن والمسؤول التي اتسعت – في زمن الأسد – الذي طالما عامل مواطنيه كمتهمين حتى يثبت العكس.

إعلان

وهذا يحتاج إلى إشراق روح المواطنة عبر مبادرات جماعية وجهدٍ مدني متناغم، وانطلاق جهود فردية ملهمة كتلك الجهود الفردية والجماعية لتنظيف شوارع المدينة فرحًا بيومها المجيد وأملًا بغدها المأمول.

كما يحتاج إلى خطاب إعلامي مدروس ومنظم، وإلى رجالات دولة، وإلى كفاءات إدارية، وإلى طبقة سياسية، يسهم أداء الكل في الانتقال بالوعي العام إلى صياغة المواطن الحريص على الحقوق والقائم على الواجبات، وإلى تعزيز شعب المبادرة عبر الإحساس الغامر بالمسؤولية الفردية والمجتمعية الرافدة لدور الدولة، لا المتربصة بها، ولا المنفضّة عنها، ولا المناكفة لها.

3- طمأنة الهويات:

يكثر الحديث عن حماية الأقليات وهو حديث يثير في نفوس السوريين الكثير من الدهشة والاستغراب؛ لأنهم لا يرون في تاريخهم ولا حاضرهم ما يستدعي هذا الإصرار.

وإن كانت عقود الاستبداد واستباحة الوطن والمواطن قد بنت جبروتها على سردية انتهكت الشعب باللعب على هوياته، واستعداء بعضها على بعض آخر، ومما يعيد للسوريين التئامهم في وطنيةٍ يحرصون عليها، هو العمل على طمأنة الهويات، والتي تحرص بطبيعتها على استمرارية نمطها الحياتي والسلوكي والاجتماعي الخاص، وعلى تقاليد بينية لا تتقبل أي ضغوط عليها، وهو أمر مفهوم من ناحية الحرية الشخصية، وينبغي أن يصان في إطار الحريات العامة التي تراعي القواسم المشتركة للشعب السوري بمجتمعاته المحلية، وفئاته، ومكوناته، ويصونها بما لا ينتهك أي خصوصية لأي هوية من الهويات.

ورغم ما هو معروف عن السوريين من براعتهم في التعايش البشوش، وقدرتهم على تماسك علاقاتهم البينية الطيبة والعابرة للفروق الإثنية والعرقية، إلا أنه أمر ينبغي تعزيزه من خلال عقد اجتماعي ثقافي إعلامي لا يقبل أي خدش للمشتركات أو مساس بها.

4- الوئام المجتمعي:

لا تكتمل الغاية من مساعي طمأنة الهويات إلا بجهد جمعي لا ينتظر السلطة ولا يعلّق على شماعتها كل المأمول والمطلوب. سوريا ليست بَدْعًا من الدول، فهي كغيرها في الموزاييك الإثني والقومي والديني والطائفي والعقائدي والأيديولوجي، وكل هذه التباينات ظاهرة ملموسة في معظم المجتمعات.

إعلان

ينبغي على مجتمعات الهويات أن تؤكد وعيها وقبولها لهذه الحقيقة، وأن تعي كل المكونات أنها جزء من كل، وأن الكل يأخذ أمنه واستقراره باحترام نسيجه، وأن كل مكونات الموزاييك السوري تأخذ اعتبارها من وجودها لا من كثرتها، وأنها تستحق الاحترام بقدر ما تقدم من الاعتبار لغيرها من المكونات.

وهنا ينبغي على رجالات الدين والطوائف أن يتحدثوا وبإسهاب عن (الطمأنة العقائدية) لمن سواهم في العقيدة والمذهب والطائفة، وأن يقرروا بوضوح أنه لا مجال للاستهداف بناء على الهوية أو الاعتقاد، فكما تقرر القاعدة القرآنية الشهيرة أنه "لا إكراه في الدين" فإن من مقتضياتها ألا إكراه بالدين، ولا على الدين، ولا بسبب الدين.

ومن جانب ثانٍ، فلا شك أن إعلاء شأن العدالة وكفران مظالم الماضي أساس لوئام اجتماعي لا يُزدرى فيه أحد. ومن هنا، يتوجب على قادة الرأي المحليين في كل المجتمعات والأطياف السعي لتكريس مناخ السلم الأهلي والوئام المجتمعي من خلال تفكيك الشحن، وتبريد مناخات القلق والاصطفاف ضمن الهويات، والعمل على إدارة انزياحها الواعي نحو مقتضيات المواطنة الجامعة التي تعطي الحقوق دون تهميش أو تمييز، وتفرض المسؤوليات دون محاباة أو تفريق.

ومن الأهمية بمكان امتلاك أولئك الرواد الشجاعة الأدبية والبصيرة النافذة بتحميل الجرائم لمرتكبيها والمسؤولين عنها، وألا يتحمل أي طرف سواهم وزرها، وألا يتورط أي طرفٍ في تسويغها والقفز فوقها وكأن شيئًا لم يكن، وهذا مدخل لا بد منه للوصول إلى مناخ مجتمعي يتقبل حدًا من العدالة الانتقالية التي قد لا تطال كل من أجرم وأساء، ولكنها لا تعطي لكل ما جرى صك غفران يمنحه طرف للبعض من المحسوبين عليه، لمجرد أنه من المحسوبين.

ولاشك بأن جانب الحقوق والحريات جانب عظيم الشأن عند السوريين بعد الثمن الباهظ الذي تكبّدوه، ومن المتوقع أن يرتفع سقف حرية التعبير وأن يتسع نطاقه، وينبغي ألا ينزلق المجتمع من حرية  التعبير عن الرأي إلى انفلات السخرية والانتقاص والتهييج وإثارة الغرائز والنعرات، وألا يُترك المجال للاتهامات المجانية، والتشهير، وتراشق التهم بلا دليل، إذ إن كل ذلك مما يطاله القانون في الدول المستقرة، ولكنها في الحالة السورية مادة سهلة لتفجير الأوضاع وخلق البلبلة.

إعلان

لذلك، فمما يحتاجه السوريون هو الوعي بحدود الحرية ونطاقاتها، وأنه لا مجال لحرية تنتقص حرية أخرى، ولا حق على حساب حق، والكل سواء في الحريات العامة التي تعلو على الحرية الشخصية، والكل سواء في الحرية المسؤولة، والحقوق المعتبرة التي تتضافر لتقيم مجتمعًا متعايشًا متناغمًا في صيانة الحاضر، وبناء المستقبل.

5- العدالة الانتقالية:

تدرج الحديث خلال سنوات الثورة عن العدالة، فالعدالة الانتقالية، فالتسامح، فالصفح المطلق.

والواجب على السلطات وقيادات المجتمعات والمكونات أن يبادروا للتوافق على محددات واضحة، تستأصل من الجسد السوري المسؤولين عن المظالم وعن تهييج المكونات على بعضها، بما يُشعر المجتمع أنه قد نال ما يستحقه من عدالة مع مراعاة مقتضيات التسامح بالقدر الكافي للانتقال إلى الاستقرار والسلم الأهلي.

يبدأ هذا بتجريم الممارسات السابقة واستئصال مسوغاتها، وهو ما يمهد لانخراط كامل المكونات في عجلة البناء وإعادة إعمار سوريا بما يحقق الازدهار والرخاء لكل السوريين.

6- جبر الأضرار:

عانى الكثير من مناطق سوريا وفئات شعبها من مظالم عامة وخاصة نتيجةً للجغرافيا الطبيعية والسكانية، ومنها مظالم مقننة، ومنها ما هو إجراءات ممنهجة، وهي مما أطلق شرارة ثورة 2011، وأضيف إليها الأضرار الفادحة التي خلّفتها سنوات القمع والعقاب الجماعي.

ولا بد لتسريع رفع تلك المظالم وجبر الأضرار من إجراء مسح ميداني شامل لا يقف عند إحصاء تدمير الحجر، ولا يركز على ما يعرف بإعادة الإعمار، وأن ينبني هذا الإحصاء على ما يحدده أبناء الجغرافيا السورية بمناطقها ومحافظاتها وفئاتها للوصول إلى ما يلزم من إجراءات قانونية، وتدابير تصحيحية، وإجراءات شافية.

7- التموضع والتموقع:

بعد سقوط سردية النظام ودعاواه التي قصمت ظهر سوريا والسوريين لا بدَّ من إعادة تموضع سوريا كخطاب وتوجهات وأولويات، وأن يكون الاهتمام العام ورائد السياسات هو الإنسان السوري أينما كان، وأن يكون حاضره ومستقبله ودوره الوطني والحضاري هو محور الوطنية السورية الجديدة.

إعلان

ولا بدّ لسوريا من صياغة تموقعها العام في المنطقة والعالم بما يتناسب مع شخصيتها التاريخية وعمقها الحضاري، وقضيتها الوطنية الأهم وهي بناء الإنسان الفاعل والإيجابي أينما كان وحيثما حل، وأن يلمس العالم أن سوريا رافد مهم لمجمل الجهود الإيجابية التي تركز على التنمية الشاملة جغرافيًا وديمغرافيًا.

التركة الثقيلة على السوريين هي قدرهم الذي لا بد لهم أن يعالجوه بأقصى ما يمكنهم. ولن يكفيهم الاتكاء على السلطة، ولا التعلّل بما يرونه لازمًا عليها وحدها، فما ينبغي على المجتمعات السورية إعطاء السلطة فسحة من الوقت لبناء السلم الأهلي، وترسيخ الأمن والاستقرار، وتفكيك مرتكزات الفساد.

كما أن استحقاقاتها تتطلب من الطامحين لخوض غمار السياسة وصولًا للسلطة التركيز أولًا على ترسيخ المشتركات وإرساء قواعد اللعبة السياسية التعددية التي تحمي المواطنة وتتنافس في خدمة الوطن، وتكريس ذلك كتقاليد سياسية صلبة، وألا يكون جلُّ اهتمامهم في المخاض الحالي هو التصّيد السياسي؛ بغية الوصول السياسي، فمن يستحق تقدير السوريين الخارجين من قعر المعاناة، هو من يسهم في تحسين صناعة القرار وتحويله إلى منجزات من أي موقع كان، لأن رهانهم الحالي ليس على صنّاع القرار بل على مضامينه ومفاعيله، فالهدف هو الوصول بسوريتهم إلى تألق يليق بإرثهم الحضاري العريق، ويعوضهم عن عقود الحرمان والتنكيل والاضطهاد.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الزلزال السوري وسقوط جدار الاستبداد
  • 7 أولويات للسوريين بعد سقوط النظام
  • الداخلية التونسية تفكك شبكة دولية لتجارة المخدرات
  • كيف استُدرج الناشط السوري مازن حمادة ليُقتل في سجون النظام المخلوع؟
  • أهم مغالطات الخطابات الديمقراطية في تونس
  • العقوبات الدولية تضع النظام الصحي السوري في حالة احتضار
  • الأمين: الثورة محاصرة والوضع السياسي في ليبيا يزداد تعقيدًا
  • البخبخي: حكومة الدبيبة مسكونة بهاجس السلطة والبقاء
  • هل تضع الثورة السورية حدا لمذابح الإخوان المسلمين؟
  • قيس سعيد: ضرورة رد اعتبار شهداء تونس