(CNN)— في الأيام التي تلت سقوط الرئيس بشار الأسد، اكتظ السوريون بمنشآت الاحتجاز سيئة السمعة التابعة لنظامه في بحث يائس عن أحبائهم الذين سُجنوا أو اختفوا قسراً، وتم الآن إطلاق سراح آلاف السجناء، العديد منهم بعد عقود من السجن في ظروف وحشية، ومع ذلك، لم يتم العثور بعد على المزيد من المفقودين، والآمال تتضاءل مع مرور كل ساعة.

قُتل ما يقرب من نصف مليون شخص خلال الحرب الأهلية السورية التي استمرت 13 عامًا، وربما مات ما يصل إلى 100 ألف من هؤلاء الضحايا في السجون التي تديرها الحكومة، وفقًا لمجموعة المراقبة المرصد السوري لحقوق الإنسان، ومقرها المملكة المتحدة.

Credit: Syrian Emergency Task Force مازن الحمادة

بعد خمسة عقود من دكتاتورية عائلة الأسد التي تمت إزالتها في الأسبوعين الماضيين، تمت مشاركة قصة سجين واحدة على الإنترنت ربما أكثر من أي قصة أخرى، وهي قصة مازن الحمادة، عندما اندلعت الانتفاضة ضد حكم الأسد الحديدي في ربيع عام 2011، كان الحمادة من بين أول من انضم إلى المظاهرات ثم نظمها في مدينته الأصلية دير الزور.

كان الحمادة متفائلاً وملتزماً وهدفاً للنظام، في عام 2012، قامت المخابرات الجوية، وهي من بين الفروع الأمنية الأكثر رعباً في الدولة، بإلقاء القبض على الحمادة بعد أن قام بتهريب حليب أطفال إلى إحدى ضواحي دمشق المحاصرة.

ولمدة عامين تقريبًا، تعرض لأساليب التعذيب في العصور الوسطى، والاغتصاب والضرب، والإيذاء النفسي الذي لا يوصف، وقال في وقت لاحق إنه اعترف بجرائم لم يرتكبها عندما قام أحد الضباط بتثبيت المشبك حول قضيبه، وشده بقوة أكبر حتى جعله الألم يشعر وكأن عقله سينفجر، وعندما أطلق سراح الحمادة، عاد إلى دير الزور ليجد مدينته مدمرة، وخوفاً على حياته، فر من سوريا إلى هولندا في عام 2014.

وفي أوروبا، برز على الساحة بعد أن قام بتفصيل التعذيب الذي تعرض له في أحد سجون النظام في فيلم وثائقي عام 2017، وقال في الفيلم: "لقد وضعوني على الأرض وكسروا ضلوعي.. (ضابط) كان يقفز وينزل على جسدي بأقصى ما يستطيع.. كنت أسمع عظامي تتكسر".

وعندما سأله المذيع في المقابلة عن شعوره تجاه المعتدين عليه، توقف وهو يبتلع بينما امتلأت عيناه بالدموع التي تدفقت بعد ذلك على وجهه الهزيل، وقال بتحدٍ: "لن أهدأ حتى أحاكمهم وأحقق العدالة.. العدالة لي ولأصدقائي الذين قتلوا".

وواصل الحمادة القتال من أجل القضية التي أحبها أكثر من غيرها: سوريا الحرة. سافر الحمادة عبر أوروبا والولايات المتحدة ليروي الفظائع التي عانى منها في سجون الأسد، وناشد أي شخص يستمع للمساعدة في إنقاذ شعبه من دكتاتور لا يرحم، والتقى بالصحفيين، وزار مسؤولين في البيت الأبيض، وتحدث في متحف ذكرى الهولوكوست الأمريكي، وجلس مع السيناتور ماركو روبيو، لكن لم يتغير شيء، وحصدت الحرب الطاحنة المزيد من الأرواح، وتحول انتباه العالم ببطء عن المأساة، وبدا أن الأسد قد انتصر.

وقال عمر الشغري، أحد أصدقائه وأحد الناجين من نظام السجون الهمجي، بتصريح لـCNN إن الحمادة أصبح منهكاً وحنيناً إلى الوطن ومكتئباً، وكان يتحدث عن العودة إلى سوريا، رغم المخاطر الصارخة.

وأضاف أن "مازن صاحب أحد أرق القلوب التي أعرفها.. عندما خرج وعاش في الخارج، رأى أن العالم لا يهتم.. وهذا هو الأمل الوحيد الذي كان عليه أن يعيش من أجله وهو أن يهتم العالم بما فيه الكفاية ليذهب وينقذ رفاق الزنزانة الذين تركهم وراءه".

وفي عام 2020، عاد الحمادة إلى دمشق، بعد أن استدرجه مسؤولون حكوميون بذرائع كاذبة، كما تعتقد عائلته.. وقد قبضت عليه قوات الأمن بعد وقت قصير من وصوله واختفى قسراً، وأطلق أصدقاؤه حملة للعثور عليه، لكنهم لم يصدقوا أبدًا أنهم سيعثرون عليه حيًا، حتى أيام قليلة مضت، عندما فتح المتمردون سجون سوريا، لكن الأمل كان قصيرا.

وظهرت صور لجثة الحمادة على مواقع التواصل الاجتماعي بعد العثور على رفاته في أحد مشافي دمشق، ويعتقد أن مسؤولين من سجن صيدنايا ألقوا بها هناك، وهو سجن سيء السمعة يلقب بـ"المسلخ البشري".

Credit: Amnesty International رانيا العباسي

عندما بدأت الانتفاضة السورية، كانت رانيا العباسي، طبيبة الأسنان وبطلة الشطرنج الوطنية، تعيش حياة مريحة في دمشق مع زوجها وأطفالها الستة، لقد عادوا مؤخرًا من المملكة العربية السعودية حيث عاشت وعملت جنبًا إلى جنب مع شقيقتها نائلة، وبينما كانت الثورة تهز البلاد، توسلت نائلة إلى أختها للعودة إلى الرياض.

وقالت نائلة لشبكة CNN: "الأمر كان محفوفا بالمخاطر، لكنها اعتقدت أنها ستكون على ما يرام لأنها لم تحضر المظاهرات أو تتدخل في السياسة"، وفي ربيع عام 2013، ومع انتشار المعاناة واليأس، قدمت العباسي وزوجها تبرعًا صغيرًا لكن سخيًا لعائلة من مدينة محاصرة من قبل الحكومة، لقد كان عملاً خيريًا بسيطًا أثار غضب قوات الأسد، واعتقل عناصر فرع الأمن العسكري التابع للنظام في دمشق العباسي وزوجها وجميع أطفالهما، الذين تتراوح أعمارهم بين 1 و14 عاماً، ولم يسمع عنهم أحد مرة أخرى.

وفي الأيام الأخيرة، شاهدت شقيقتها من بعيد انهيار النظام، بدأت نائلة على الفور في الاتصال بأي شخص في سوريا قد يساعد في تحديد مكان أختها وعائلتها، وقالت: "نحن نتحدث مع الجميع، ونبحث في كل مكان.. نحن نبحث عن أي تفاصيل كبيرة أو صغيرة. ولكننا لم نتوصل إلى شيء".

وقد قامت نائلة بحملة بلا كلل من أجل إطلاق سراح العائلة، مما أدى إلى قيام منظمة العفو الدولية بحملة لكتابة الرسائل استمرت لسنوات، ودفعت جهودها وزارة الخارجية الأمريكية إلى وصف العباسي بأنها سجينة سياسية، محتجزة دون سبب عادل، لكن نائلة لم تكشف أبدًا عن أي تفاصيل تم التحقق منها حول مصير أختها، فليس لديها سوى الأسئلة.

وفي محاولة أخيرة، تبحث نائلة الآن في دور الأيتام في جميع أنحاء دمشق عن أبناء وبنات إخوتها، علاقتها معهم عميقة، وهي طبيبة توليد وأنجبت العديد من الأطفال بنفسها، وقالت: "يجب أن نحتفل ونغني ونرقص، لكن بدون رانيا وعائلتها، لا يمكننا أن نشعر بالفرح.. يبدو الأمر كما لو أن جراحنا قد فتحت من جديد".

مع مرور الوقت، يتضاءل أمل نائلة في العثور على أحبائها على قيد الحياة، عدم معرفة أي شيء عن مصيرهم هو المطهر، وتشاركها معاناتها عائلات ما يقدر بنحو 100 ألف سوري اختفوا، وفقا للأمم المتحدة، وقالت: "لقد رحل الطاغية، ولكننا بحاجة إلى العدالة.. كل مجرم سفك دماء أطفالنا وإخوتنا وأهلنا يجب أن يواجه العقاب".

Credit: Social Media طل الملوحي

بعد ما يقرب من 15 عامًا من الفراق، تمكنت عهد الملوحي أخيرًا من حمل ابنتها الحبيبة طل، في سن التاسعة عشرة، ألقي القبض على طل لنشرها قصائد حول قضايا سياسية واجتماعية على مدونتها، وهي الآن تبلغ من العمر 33 عامًا.

وقالت والدتها لوكالة فرانس برس: "لقد غمرني شعور لا يوصف، فرحة كبيرة"، لكن طل لم تشهد قط الانتفاضة التي يقول الناشطون إنها ربما دفعت السلطات إلى إبقائها رهن الاحتجاز، حتى بعد انتهاء فترة حكمها البالغة خمس سنوات.

في عام 2009، أخذت طل وكانت حينها طالبة بالمدرسة الثانوية من منزلها في حمص على يد قوات الأمن السورية، وصادرت جهاز الكمبيوتر الخاص بها والأقراص المدمجة وممتلكاتها الأخرى، وفقا لمنظمة العفو الدولية.

وبعد احتجازها بمعزل عن العالم الخارجي لعدة أشهر وربما تعرضه للتعذيب، اتُهمت طل بالتجسس لصالح أمريكا، وهي تهمة غريبة موجهة إلى مدونة مراهقة، وأدانت وزارة الخارجية الأمريكية ما وصفته بالمحاكمة السرية ورفضت مزاعم التجسس ووصفتها بأنها "لا أساس لها من الصحة".

وفي فبراير/ شباط 2011، حكمت محكمة أمن الدولة العليا على طل بالسجن لمدة خمس سنوات، وأصبحت واحدة من أصغر سجينات الرأي في العالم العربي، بحسب جماعات حقوق الإنسان.

وبينما كانت خلف القضبان أصبح الاحتجاز والتعذيب جزءاً لا يتجزأ من قمع الدولة للمعارضة، وحظيت قضية طل باعتراف دولي، إذ قامت منظمة القلم الإنجليزية، وهي منظمة حقوقية، بترجمة إحدى قصائدها للتوعية: "سيدي: أود الحصول على السلطة ولو ليوم واحد ويخلص إلى بناء ’جمهورية المشاعر‘".

وانتشرت أخبار طل وحريتها بسرعة بعد سقوط النظام، حيث كان الكثيرون يائسين لسماع قصة ذات نهاية سعيدة، لكنها ستحتاج إلى وقت للتعافي، ولا تعرف حتى عائلتها ما هي الفظائع التي نجت منها وما هي الندوب التي بقيت.

وقالت عهد لوكالة فرانس برس: "تم تحرير سوريا أولاً، ثم تم إطلاق سراح ابنتي مع الآخرين.. ربما لو تم إطلاق سراح ابنتي بمفردها، كنت سأظل خائفة عليها، وما زلت خائفة من أن يأخذوها في أي لحظة".

المصدر: CNN Arabic

كلمات دلالية: اغتصاب المعارضة السورية النظام السوري بشار الأسد تعذيب حصريا على CNN دمشق إطلاق سراح فی عام

إقرأ أيضاً:

لماذا تتردد واشنطن في رفع العقوبات عن سوريا بعد سقوط الأسد؟

 

وقال كبير مسؤولي مكتب شؤون الشرق الأدنى بوزارة الخارجية الأميركية تيم ليندركينغ إن "هناك عقوبات فرضناها على سوريا وقيادتها، وهذه العقوبات لن ترفع بين عشية وضحاها، لن نتعجل كما فعلت بعض البلدان".

وفي حديثه لحلقة (2025/5/1) من برنامج "من واشنطن"، أضاف ليندركينغ "نرى لدى بعض شركائنا تعطشا لإعادة فتح السفارات ورفع الأعلام، لكننا ببساطة لم نصل بعد إلى تلك المرحلة، ونتبع نهجا حذرا في التعامل".

وعلى النقيض من الموقف الأميركي، أعلنت بريطانيا مؤخرا إزالة 12 كيانا سوريا إضافيا من قائمة العقوبات، شملت مؤسسات سيادية مهمة، مثل وزارتي الداخلية والدفاع، وعدة أجهزة أمنية واستخباراتية كانت تعتبر سيئة السمعة خلال حكم عائلة الأسد.

ولم يكن هذا الإجراء البريطاني الأول من نوعه، إذ سبقه إعلان في مارس/آذار الماضي برفع العقوبات عن 24 كيانا سوريا آخر، تمثل قطاعات حيوية كالنقل والطاقة والتعامل المالي، وعلى رأسها المصرف المركزي السوري.

تباين مواقف

وبشأن هذا التباين في المواقف، أوضح مراسل الجزيرة في لندن محمد المدهون، أن وزراء الحكومة البريطانية عبروا بوضوح عن قناعتهم بأن استقرار سوريا يمثل مصلحة بريطانية مباشرة، وأن رفع الكيانات السورية من قائمة العقوبات يستهدف تحقيق هذا الاستقرار الإقليمي وتعزيز الأمن القومي البريطاني.

إعلان

وفي تحليلها للموقف الأميركي، كشفت مساعدة وزير الخارجية الأميركية السابقة لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، وجود انقسام حاد في الرؤى داخل الإدارة الحالية بشأن التعامل مع سوريا.

وأكدت ليف -في حديثها لـ"من واشنطن"- أن "لأميركا مصلحة في استقرار سوريا"، موضحة أن الخلاف داخل الإدارة الأميركية يدور بين تيارين:

التيار الأول يرى الرئيس أحمد الشرع "إرهابيا" جاء مع "مجموعة إرهابيين"، وأنه لم ولن يتغير. التيار الثاني يدعو إلى اختبار هذه الفرضية والانفتاح على التعامل مع الوضع الجديد.

رؤية الجالية السورية

بدوره، قدم رئيس الشؤون السياسية في المجلس السوري الأميركي، محمد غانم، رؤية من داخل الجالية السورية الأميركية، مشيرا إلى أن الحكومة السورية حققت تقدما ملموسا في تلبية الشروط الأميركية.

وأقر غانم بأن الجانب الأميركي لا يزال ينظر بريبة وشك كبيرين تجاه بعض الشخصيات في النظام الجديد، "لا بسبب سلوكه، لكن بسبب الماضي".

وكشف عن تطور إيجابي في المفاوضات، إذ أشار إلى أن المسؤولين الأميركيين الذي يتولون الملف السوري يدركون أهمية دمشق الإقليمية، وأن المقترح الحالي على طاولة المفاوضات يتمحور حول "تعليق للعقوبات لفترة طويلة" بدلا من النهج السابق القائم على "مقاربة الخطوة بخطوة".

وتصدر مطلب الكشف عن مصير مواطنين أميركيين اختفوا في سوريا قائمة الأولويات في الشروط الأميركية لرفع العقوبات، خصوصا الصحفي أوستن تايس الذي اختفى عام 2012 في أثناء تغطيته للأحداث هناك.

وفي هذا السياق، استضافت الحلقة ديبرا (والدة تايس) التي عبرت عن ثقتها "الكاملة والقوية" بإدارة الرئيس دونالد ترامب، مشيرة إلى أنها تعتقد أن الرئيس ترامب يشعر بأن إعادة أوستن إلى الوطن أمر مهم.

الصادق البديري1/5/2025

مقالات مشابهة

  • إمام الشيعة: سوريا لا تُحكَم إلا برئيس سُنّي وهذا ما فعله البعث
  • سقوط الأسد يحبط خطة إيرانية لتوسيع النفوذ الاقتصادي والسياسي والثقافي في سوريا
  • أول عقد دولي لإدارة ميناء اللاذقية بسوريا .. تعرف على الشركة والدولة التي فازت بأول اتفاق استثماري بعد سقوط الأسد
  • انفجار ضخم قرب مدينة السويداء جنوبي سوريا
  • عقد دولي لإدارة ميناء اللاذقية.. أول اتفاق استثماري في سوريا بعد سقوط الأسد
  • لماذا تتردد واشنطن في رفع العقوبات عن سوريا بعد سقوط الأسد؟
  • وثائق تكشف الحلم الإيراني في سوريا: خططٌ سقطت مع رحيل الأسد
  • نيويورك تايمز: إرث نظام الأسد المميت… ألغام أرضية وذخائر غير منفجرة
  • مدير عام قوات السجون يتفقد سجون ولاية نهر النيل ويتعهد بمعالجة كافة التحديات التي تواجه سجون الولاية
  • اعترافات ضابط في نظام الأسد عذّب جثثاً: “أنا مريض نفسي” ..فيديو