قالتْ لي أمي لا تبتعدي كثيرًا، بعد قليل سَيَهِبُّ هواءٌ عنيف، ستأخذنا العاصفة على أي محمل.
حاولي أنْ تَرْكضي سريعًا، وأن تكوني بِجِواري قدرَ المُسْتطاع.
قُلتُ لها: حَاضر يا ماما. ولمْ أتوقع أبدًا حَجم كلامها!
هبّتْ ريحٌ شديدة، وَرَكَضْنا كلٌّ في سَحَابِهِ.
أَخَذَتنا العَاصفة، واحْتشدنا في مكانٍ واحد، اصْطَدَمْنا، وتخبَّطْنا في بعْضِنا من شِدةِ الهَواء.
كانت ماما تتمسكُ بي؛ لنهبطَ في مكانٍ واحد أيضًا.
ولكن حَدث تفريغٌ لشُحنةٍ كهربية، ولمْ ألبثْ إلا أنْ سَمعتُ صوتَ دويٍّ عالٍ، ورأيتُ شرارةً كهربية، تفرّقنا بعنف.
هَبَطْنا على إثر ذلك شتّى، في سرعةٍ رهيبة، انحلَّتْ يدي من يد ماما، وأخذتْني الريحٌ لمكان بعيد.
كان يومًا شتائيا جللا، مُغرِقًا لشارعِ الأرضِ الذي هبطنا فيه.
قرَّرَتْ فيه أمٌّ تحملُ كَرتونًا مغلقًا، فيه شيء ما! استقلتْ سيارة "الميكروباص"، ونزلتْ في شارع البحر على الكورنيش. تَعلمُ مُسْبقا أنّ الشوارعَ فارغةٌ جميعها بسببِ سوءِ حالةِ الطقس في قلبِ الديسمبر الأخير. فاطمأنّتْ لذلك.
على الرغم من ارتجافها الداخلي، ترجّلتْ من الميكروباص، وتمشّتْ قليلًا كَمَنْ يبحثُ عن شيء، أو يَحار في الوصول لشيء ما.
وقفتْ في نقطة معيّنة على سلّمٍ من الإسمنت، به درجتان فقط، يبدو لبيتٍ مُغلق، أو مَحلٍ غيرِ مُستعمل في بيت ما.
نظرتْ ثانيةً يمينًا وشِمالًا، راحتْ خطوةً للأمام، ورجعت أخرى للخلف. نظرتْ أيضًا مجَدّدًا. وبخفّة يد ساحر يلعب ألعابا خادعةً للبصر، وضعت الكرتونَ أرضًا، كأنّ شيئا لم يحدث.. وفي ثانية انطلقت للأمام.
مِن حُسْنِ حظّها أنْ لم يشاهدْها أحد، ماذا كانت تلبس، كيف بدتْ، ما ملامحها، وملامح ارتجافها، كيف ذابت بين الشوارع ولم يعكس صورتها ماءُ الإسفلت.
ولكني رأيتهُا وحَفظتُ تشكيلَ قسوتها في عينيها الحَجَرِيَّتَيْن.
ولا أدري أكان من حُسْن حظّي أم من سوء حظّي، أنْ هبطتُ أنا فوقَ وجهِ الكرتون، تخلّلتُه، حتى تفككتْ طبقاته.
كنتُ قطرةً ضَعيفة، ولكن من شِدة وسرعة السقوط، استطعتُ اختراقَ طبقات الكرتون الضعيف، وهبطتُ على وجه الطفلة الملقاة بداخله.
كانت على شفا بكاء، مهزوزة، تُصلب عيناها الرماديتان في سقف الظلام.
خطواتُ أمها لإلقائها، كانت آخر ما هَدْهَدَهَا.
هبطتُ على وجهها ببطء، فقد هدَّأَتْ طبقاتُ الكرتون السفلى سرعتي.
كانت على شفا بكاء، وكنتُ بكاءَها. غسلتُ حزنَها الحاليّ، وأخبرتُها:
"لا تحزني، أنا أيضا فقدتُ ماما لتوّي، هذا الماء الذي بوجهك، لم يتفجّر حتى من حَجَر قلبِ أمك! فإنها لم تمهِلْ نفسَها فكرةَ احتضانِك أو اعتصارِك للمرّة الأخيرة..
اسمعي أيتها اليتيمة للتوّ، عندما يفتح أحدهم صندوقك، وينير ظلمتك، دَعيه يُشبه أمك،
ابتسمي له، فربما سيكون أرحم بك، سيُخرجُك للحياة، وسيُخرجُني للشمس لتجففني وأعود إلى سحابةٍ جديدة تشبه كذلك ماما.
جيلان زيدان
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: أمي محمل س ح اب ه
إقرأ أيضاً:
بعد قليل.. إعادة محاكمة متهم في قضية «أحداث أبو النمرس»
تستكمل محكمة جنايات مستأنف إرهاب المنعقدة ببدر، اليوم الأحد، إعادة إجراءات محاكمة متهم في القضية المعروفة إعلاميًا بـ «أحداث أبو النمرس».
أحداث أبو النمرسكانت الدائرة الثانية إرهاب المنعقدة ببدر، برئاسة الجلسة برئاسة المستشار حماده الصاوى، وعضوية المستشارين محمد عمار ورأفت زكي والدكتور على عمارة وسكرتارية سيد حجاج ومحمد السعيد، قد قضت بالمشدد 5 سنوات لمتهمين اثنين فى إعادة إجراءات محاكمتهما فى القضية رقم 3117، والمعروفة إعلامياً بأحداث أبو النمرس.
وأسندت النيابة، للمتهم وآخرين سبق الحكم عليهم تهم ارتكاب جرائم التجمهر بقصد القتل العمد مع سبق الإصرار، وقتل حسن محمد شحاتة، وثلاثة آخرين من أبنائه وأتباعه عمدًا، بأن توجه الجناة إلى مكان تواجدهم وحاصروهم، حاملين أسلحة بيضاء وعصى وزجاجات مولوتوف، وأجبروهم على الخروج منه، ثم انهالوا عليهم ضربًا وطعنًا.
اقرأ أيضاًاليوم.. الحكم على متهم في قضية «فتنة الشيعة»
مصرع وإصابة 70 شخصا في انفجار محطة لتعبئة الغاز وسط اليمن (فيديو)