المسابقات القرآنية: محفز للإتقان وشحذ الهمم -

عندما فاز بجائزة السلطان قابوس للقرآن الكريم، شعر بمزيج من الفرح والفخر، لكن هذا الشعور لم يكن مرتبطًا فقط بالإنجاز، بل كان تذكيرًا بسنوات من الجهد والتفاني فـي حفظ القرآن ومراجعته، هذا شعور الحافظ لكتاب الله يونس بن عبدالله بن سعيد المجرفـي الحاصل على المركز الأول فـي المستوى الأول وهو حفظ القرآن الكريم كاملا، هذه المسابقة التي أعلنت نتائجها فـي مؤتمر صحفـي الأحد الماضي، التي شارك فـيها 1790 متسابقًا ومتسابقة فـي جميع المستويات السبعة.

هذا التقدير لم يكن مجرد تكريم شخصي، بل كان أيضًا مسؤولية كبيرة عند يونس المجرفـي، حيث يقول: «الفوز بهذه الجائزة جعلني أشعر بشكر عميق لله على هذه النعمة العظيمة التي وهبني إياها، فـي الوقت نفسه، شعرت بثقل المسؤولية التي تأتي مع هذا اللقب، فالمجتمع ينظر إلى الحافظ كقدوة، كمن يحمل كتاب الله، وهذا يتطلب أن أكون نموذجًا فـي سلوكي وأسلوب حياتي»، ومن هنا جاءت رغبته فـي أن يترجم هذا الفضل إلى أفعال، ويسعى دومًا لجذب من حوله لتشجيعهم على البدء فـي حفظ القرآن الكريم.

خطوات الرحلة الأولى

رحلته مع القرآن الكريم بدأت منذ الصغر، حيث كان يرافق والده الذي كان إمامًا فـي أحد الجوامع التابعة لديوان البلاط السلطاني، كانت هذه الرحلات اليومية تشكل جزءًا كبيرًا من حياته: «كنت أرافق والدي بشكل مستمر، وفـي بعض الأوقات كنت أرى نفسي فـي مخيلتي إمامًا، وأنا أؤم المصلين، كان لهذه اللحظات تأثير عميق فـي نفسي، وبالإضافة إلى ذلك، كانت هناك مشاركاتي فـي حلقات تحفـيظ القرآن خلال الإجازات الصيفـية، حيث كنا نتنافس مع باقي الطلبة فـي الحفظ والمراجعة، هذا التنافس كان له دور كبير فـي تعزيز عزيمتي وحبي لحفظ كتاب الله»، يذكر ذلك بابتسامة تملؤها الذكريات الجميلة.

كان يجد الوقت لحفظ القرآن موازاة مع الدراسة والعمل، وهو ما كان يتطلب منه ترتيبًا دقيقًا لجدوله اليومي: «كنت أخصص وقتًا قبل صلاة الفجر للحفظ، وفـي أيام الإجازات كان الوقت يمتد أحيانًا إلى ما بعد الشروق، كنت أضع جدولًا منظمًا بين الحفظ الجديد ومراجعة ما حفظته سابقًا، وكان الأمر يتطلب مني دائمًا الموازنة بين القرآن وبين الدراسة أو العمل، فلا يوجد شيء يمنع من مواصلة حفظ القرآن إذا كان الشخص يعرف كيف ينظم وقته بطريقة تناسب كل مسؤولياته، أحيانًا كنت أضطر إلى تقليل الحفظ الجديد لتكريس وقت أكبر للمراجعة، خاصة لتثبيت المحفوظ القديم».

رفـيق يشاركك الهدف

لكن الطريق لم يكن مفروشًا بالورود، فقد واجه بعض الصعوبات والتحديات: «من أكبر التحديات التي واجهتها كان عدم وجود رفـيق يرافقني فـي مشوار حفظ القرآن، عندما لا تجد من يساندك فـي هذه الرحلة، يصبح الحفظ أكثر صعوبة، وتضعف العزيمة أحيانًا، لذا أنصح كل من يرغب فـي حفظ القرآن أن يكون له رفـيق يشاركه هذا الهدف، فهذا يقوي العزيمة ويجعل الطريق أسهل، إضافة إلى ذلك، لم تكن لدي خطة منظمة للحفظ فـي البداية، مما جعلني أضطر إلى التوقف لفترة، إلا أنني بعد ذلك عدت لاستكمال الحفظ من جديد»، يضيف بنبرة من الإصرار.

بركة القرآن جعلتني أتقن

الفرنسية والإسبانية

ومن خلال تجربته العميقة مع القرآن، لم يقتصر تأثيره على الحفظ فقط، بل تعدى ذلك إلى جوانب أخرى من حياته: «القرآن الكريم كان السبب فـي توجيهي لدراسة مختلف القراءات القرآنية، وبفضل الله حصلت على إجازات فـي قراءات متواترة، وهذه هي البركة الأولى التي جنيتها من حفظ القرآن، بعد ذلك، دفعني هذا الحب للقرآن إلى دراسة بعض اللغات الأجنبية، مثل الفرنسية والإسبانية، حتى أنني وصلت إلى مستوى متقدم فـي كلا اللغتين، وأستطيع التحدث بهما بسهولة، هذه الأمور كلها من بركات القرآن الكريم التي لم تكن لتتحقق لولا فضل الله ونعمة القرآن».

كان دائمًا يؤمن أن تغيير القناعات يمكن أن يكون له تأثير كبير فـي تسريع عملية حفظ القرآن الكريم، يقول: «فـي البداية، كان الكثير منا يظن أن حفظ القرآن الكريم أمر فـي غاية الصعوبة، كيف يمكن للإنسان أن يحفظ 604 صفحات وكل صفحة تحتوي على 15 سطرًا؟ كان هذا يبدو مستحيلا، وكنا نعتقد أنه يتطلب عقلًا خارقًا»، ولكن مع مرور الوقت، بدأوا يفهمون أن الأمر ليس كما كانوا يتصورون، «كما يُقال، الإنسان عدو ما يجهل، توكلنا على الله، واستلهمنا من القدوات التي سبقتنا فـي هذا المجال، وبدأنا فـي تقسيم الحفظ إلى مراحل صغيرة، وكل يوم، كنا نقترب أكثر من هدفنا، بفضل الله، تمكنا من إتمام الحفظ، خطوة بخطوة، حتى أصبحنا حافظين للقرآن».

تثبيت الحفظ

ومع أن الحفظ كان يتطلب جهدًا كبيرًا، كانت له أيضًا تحديات كبيرة، خاصة عندما يتعلق الأمر بمشكلة النسيان، يعترف قائلاً: «الكثير من الناس يعانون من سرعة نسيان ما حفظوه، وأنا كنت من بينهم، لكن تعلمنا أنه لا بد من أن نثبت الحفظ من خلال المراجعة اليومية، يجب أن يكون لكل حافظ ورد يومي من القرآن الكريم، وهذا يساعد على تثبيت الحفظ، فإذا كنت قد حفظت 10 أجزاء، فالمراجعة اليومية ستكون أقل من شخص حفظ 20 جزءًا، وكذلك من حفظ 30 جزءًا، كلما زاد الحفظ، كلما كانت المراجعة أكبر»، كان يولي أهمية كبيرة فـي تنوع طرق وأساليب المراجعة، «كنت أراجع فـي المسجد، وفـي السيارة، وأثناء رياضة المشي، كنت أتنقل بين أسلوب المراجعة السريعة والبطيئة، حتى لا أمل من الطريقة الواحدة».

ذكريات طريفة مع القراءات

ثم يتذكر إحدى اللحظات التي لن ينساها أبدًا أثناء مسيرته مع القرآن، وهي حادثة طريفة حدثت له مع أحد زملائه: «كان ذلك فـي إحدى الصلوات، حين طلب مني أحد الأصدقاء أن أقرأ لهم برواية شعبة عن عاصم، قرأت لهم، لكن أثناء الصلاة، رد عليّ زميلي وكأنه أخطأت فـي القراءة، كان أسلوبه فـي الرد يشير إلى غضب، لم ألتفت إليه فـي البداية، ولكن بعد الصلاة بدأ ينبهني، وكان يعتزم إعادة الصلاة، عندها جلست معه وبدأت أشرح له بعض تفاصيل علم القراءات حتى هدأت نفسه».

أما الآية التي يجد نفسه يتلفظ بها دون أن يشعر، فهي من آيات نبي الله يونس: «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»: «تلك الآية تتردد فـي ذهني دائمًا، وكأنها تخرج من لساني بشكل طبيعي، تحتوي هذه الآية على معاني كبيرة وتذكرني بتواضع الإنسان أمام الله، وهي تلهمني فـي كل لحظة من حياتي».

صعود سلم مستويات المسابقة

كان من المقرر أن يشارك فـي العديد من المسابقات القرآنية التي تقام على مستوى البلدة خلال أيام دراسته، ولكن المسابقات التي أثرت فـي مسيرته كانت تلك التي شارك فـيها لاحقًا، مثل مسابقة السلطان قابوس، بدأت مشاركاته بمستوى حفظ 12 جزءًا، ومن ثم بدأ فـي صعود سلم الفروع حتى وصل إلى المستوى الأول، «المسابقات القرآنية تعد حافزًا كبيرًا للحفظ ولتجويد الحفظ، فهي تشحذ الهمم وتدفع الحافظ إلى تعلم التجويد وإتقان الحفظ، فقبل كل مسابقة، يبدأ المتسابق بمراجعة حفظه بشكل مكثف، ويعرض تلاوته على المتقنين ليأخذ ملاحظاتهم ويقوم بتصحيح أخطائه، ومع كثرة المشاركات، يصل المتسابق إلى درجة الإتقان بفضل هذه المراجعات المستمرة».

تعلمت 6 من القراءات السبع المتواترة

وبالحديث عن القراءات القرآنية، فهو يعتبر نفسه محظوظًا بفضل الله سبحانه وتعالى، فقد استطاع أن يتقن العديد من القراءات القرآنية ويصبح مجازًا فـي معظم الروايات، يقول: «الحمد لله، لقد تعلمت ست قراءات من القراءات السبع المتواترة، وهي قراءة الإمام نافع المدني، قراءة الإمام ابن كثير المكي، قراءة الإمام ابن عامر الدمشقي، قراءة الإمام أبي عمرو البصري، قراءة الإمام عاصم الكوفـي، وقراءة الإمام الكسائي الكوفـي، وقد بدأت فـي دراسة قراءة الإمام حمزة الكوفـي، وأسأل الله أن يعينني على إكمال باقي القراءات العشر»، وعند سؤاله عن كيفـية تعلمه لهذه القراءات، يذكر أنه بدأ دراسة بعضها فـي سلطنة عمان، بينما سافر إلى مصر لدراسة بعض القراءات وحصل على الإجازات هناك.

أما بالنسبة للمستقبل، فهو يطمح لتحقيق مشاريع قرآنية كبيرة: «أحد المشاريع المستقبلية التي أطمح لتحقيقها هو إكمال ما تبقى من القراءات العشر، وهي قراءة الإمام حمزة، الإمام أبي جعفر، الإمام يعقوب، والإمام خلف العاشر»، ويأمل أن يسهم فـي مرحلة جديدة فـي نشر العلم القرآني من خلال فتح المجال للراغبين فـي الحصول على الإجازات القرآنية، ليتمكنوا من تعلم القرآن الكريم وإتقانه على الطريقة الصحيحة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: حفظ القرآن الکریم قراءة الإمام من القراءات

إقرأ أيضاً:

أفضلية كثرة عدد المصلين على الجنازة.. الإفتاء توضح

ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال يستفسر صاحبه عن بيان أفضلية كثرة عدد المصلين على الجنازة.

وقالت دار الإفتاء المصرية، إن كثرةُ المصلِّين على الميت شفاعةٌ ومغفرةُ للميت، وتحصيلٌ الثواب للمصلِّي؛ فعنِ ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ» رواه مسلم.

وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَبْلُغُوا أَنْ يَكُونُوا مِائَةً، فَيَشْفَعُوا لَهُ إِلَّا شُفِّعُوا فِيهِ» رواه أحمد.

وقوف الإمام في صلاة الجنازة

ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال يقول "مات رجل قريبٌ لأحد أصدقائي، فذهبت للصلاة عليه، وتقديم العزاء، فلمَّا وقف الإمام ليصليَ على الجنازة، خرج أحدُ الناس وجذبه ليغير موقفه من المتوفى، وحدث لغط كثير حول ذلك؛ فما الموقف الصحيح للإمام في صلاة الجنازة؟

وأجابت دار الإفتاء، أن الراجحُ من أقوال الفقهاء عن موقف الإمام في صلاة الجنازة أن يقومَ الإمامُ في الصلاة على الرجل عند رأسه، ويقوم في الصلاة على المرأة عند وسطها؛ فهذا هو ما وردت به السُّنة النبوية المطهرة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس ذلك على سبيل الوجوب، وإنما هي السنة والاستحباب، وليس من حق أحد المسلمين أن ينكر على الآخر في هذا؛ لأنه إنما "ينكَر المتفق عليه، ولا ينكر المختلف فيه"، كما أن اللغط وكثرة الحديث في الجنائز مخالفٌ لما يقتضيه المقام من السكون والصمت واستحضار المرء حاله مع الله تعالى.

حكم صلاة الجنازة

وذكرت دار الإفتاء، أن الصلاةُ على الميتِ فرضٌ على الكفاية، ويشترطُ لصحَّتها ما يشترطُ في بقيَّة الصلوات المفروضة وغيرها من طهارةِ البدن والثوب والمكان، وستْرِ العورة، واستقبالِ القبلة، والقيامِ عند القدرة.

وتابعت: ولصلاة الجنازة ثوابٌ عظيم؛ فقد أمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتِّبَاعِ الجنائز، وأخبر أنَّ فاعل ذلك له مثْلُ جبَلِ أحد من الأجر؛ ترغيبًا في اتباعها، وبيانًا لعظيم فضلها؛ روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ وَلَمْ يَتْبَعْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ تَبِعَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ». قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: «أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ».

كما روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا، أنَّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ»، وفي روايةٍ للإمام البخاري: قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي عَلَيْهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "لَقَدْ ضَيَّعْنَا قَرَارِيطَ كَثِيرَةً".

كما جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتِّبَاعَ الجنائز من حقوق المسلم على المسلم: فقد روى الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ»، وروى الإمام البخاري في "صحيحه" عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَنَصْرِ الضَّعِيفِ، وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ، وَنَهَى عَنِ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ، وَنَهَانَا عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ رُكُوبِ الْمَيَاثِرِ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْقَسِّيِّ وَالإِسْتَبْرَقِ".

ويتقدم في الصلاة على المتوفى وليُّه المناسب لشأن الصلاة علمًا وصلاحًا، وإلَّا فالإمام الراتب.

وقد اختلف الفقهاء في موقف الإمام عند صلاة الجنازة:
فذهب فقهاء الحنفية عدا أبا يوسف إلى أن الإمام يقف عند صدر الميت، لا يفرقون في ذلك بين الرجل والمرأة؛ قال أبو الحسن السُّغْدي الحنفي في "النتف في الفتاوى" (1/ 125-126، ط. دار الفرقان، مؤسسة الرسالة): [وأما قيام الإمام فإن الإمام يقوم عند صدر الميت؛ لأنه معدن القلب، والقلب ملك الجسد؛ لأن الصدر قطب الإنسان وسائر البدن أطراف، ولأن القلب معدن المعرفة وأشكالها. وروي عن أبي يوسف أنه قال: يقوم عند الرأس.. وينبغي أن يكون بين الإمام وبين الجنازة فرجة] اهـ.

ورُوي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال بوقوف الإمام عند وسط المرأة وصدر الرجل.

وذهب فقهاء المالكية إلى أنَّ الإمام يقف عند وسط الرجل ومنكب المرأة، وعللوا ذلك بمنع تَذَكُّرِ ما يؤدي إلى انشغال أحدهما بالآخر، وأنَّ وقوفَ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند وسط المرأة إنما هو لعصمته، وأنَّ الصلاة على الخنثى المشكل عندهم كالصلاة على الرجل، وأن المرأة في صلاتها على المرأة تقف حيث شاءت؛ قال العلامة النفراوي المالكي في "الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني" (1/ 294، ط. دار الفكر): [(و) صفة الوقوف المندوب في صلاة الجنازة أن (يقف الإمام) ومثله المنفرد (في) الصلاة على (الرجل عند وسطه وفي) الصلاة على (المرأة عند منكبيها) قاله خليل، ووقوف إمام بالوسط ومنكبي المرأة كما تقف المرأة في صلاتها عليه لئلا يتذكر كل إن وقف عند وسط الميت ما يشغله، ولا يشكل على هذا ما في حديث سمرة: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على امرأة ووقف عند وسطها"؛ لعصمته صلى الله عليه وآله وسلم عن قصد ما يشغله، وأما وقوف المأموم فعلى صفة وقوفه في صلاة الجماعة، ويظهر أن الصلاة على الخنثى المشكل كالصلاة على الرجل، وكذا وقوفه عند صلاته منفردًا على جنازة سواء كانت رجلًا أو امرأة، وأما المرأة إذا صلت على امرأة فتقف حيث شاءت] اهـ.

أما فقهاء الشافعية والحنابلة فقد وقفوا عند ظاهر النصوص من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا بأن السنة أن يقومَ الإمامُ عند رأس الرجل وعجيزة المرأة -وسطها- فذلك أسْتَرُ لها؛ قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في "المهذب في فقه الإمام الشافعي" (1/ 246، ط. دار الكتب العلمية): [والسُّنة أن يقف الإمام فيها عند رأس الرجل وعند عجيزة المرأة، وقال أبو علي الطبري: السُّنة أن يقف عند صدر الرجل وعند عجيزة المرأة، والمذهب الأول؛ لما رُوي أن أنسًا رضي الله عنه صلى على رجل فقام عند رأسه، وعلى امرأة فقام عند عجيزتها، فقال له العلاء بن زياد: هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المرأة عند عجيزتها، وعلى الرجل عند رأسه؟ قال: نعم] اهـ.

وهذا الخلافُ الواقعُ بين الفقهاء إنما هو في السُّنة، وليس فيما يجب، وإلا فليس من أركان صلاة الجنازة القيام عند مكان محدد من المتوفى رجلًا كان أو امرأة، وتصحُّ الصلاة أيًّا كان موقف الإمام منها.

آداب الجنائز

كما ينبغي لمن في الجنائز طول السكوت والتزام الصمت، ويكره رفع الصوت بما فيه إخلال بآداب الجنائز والخروج عن هدي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة من بعده رضوان الله عليهم أجمعين؛ فعَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ ثَلَاثٍ: عِنْدَ الْقِتَالِ، وَفِي الْجَنَائِزِ، وَفِي الذِّكْرِ" أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى". وهذه الكراهة: قيل: كراهة تحريم، وقيل: ترك الأولى.

وبناءً على ذلك: فالراجحُ من أقوال الفقهاء عن موقف الإمام في صلاة الجنازة أن يقومَ الإمامُ في الصلاة على الرجل عند رأسه، ويقوم في الصلاة على المرأة عند وسطها؛ فهذا هو ما وردت به السُّنة النبوية المطهرة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس ذلك على سبيل الوجوب، وإنما هي السنة والاستحباب، وليس من حق أحد المسلمين أن ينكر على الآخر في هذا؛ لأنه إنما "ينكَر المتفق عليه، ولا ينكر المختلف فيه"، كما أن اللغط وكثرة الحديث في الجنائز مخالفٌ لما يقتضيه المقام من السكون والصمت واستحضار المرء حاله مع الله تعالى.

مقالات مشابهة

  • شرط أداء الصدقة وكسب الأجر والثواب
  • حكم تصدق الزوجة من مال زوجها
  • حكم تصدق الزوجة من مال الزوج بدون إذن.. الإفتاء توضح
  • أفضلية كثرة عدد المصلين على الجنازة.. الإفتاء توضح
  • حكم الحث على الصبر والبلاء وإن طال وقته
  • حكم تكرار سورة الإخلاص ثلاثة بعد ختم القرآن جماعة
  • انطلاق ملتقى القراءات العشر بالجامع الأزهر.. غدًا
  • اليوم.. بورسعيد الدولية للقرآن تختار 133 متسابقا في فرع الحفظ للإناث
  • الشرقية الأزهرية توصل أعمال مسابقة فضيلة الإمام الاكبر لحفظ القرآن الكريم