بقلم: إبراهيم الدلال
مرت بخاطري قوافل الحياة وسواقي السراب وخيبات الغزاة وغرق جيش قمبيز في الصحراء الكبرى التي يسميها قدماء الجغرافيين ببحر الرمال العظيم..
نهرب من نار الحرب إلى جحيم الصحراء .
وللشمس فوق اليعملات لعاب كما يقول المتنبي العظيم..
عثمان حسين حنجرته كأنما وجدت في قيعان النيل وهو يغني (أنت يا نيل يا سليل الفراديس) وإبراهيم عوض حنجرته ثكلى ترشح بالوجد والحنين، وعبد العزيز داود حنجرته كأنما دقتها صانعات الجرار بجبل الحرازه كما قال صديقي العبقري الأمين كاكوم.
امدرمان (مكة السودان) التي تجبى لها ثمرات كل شيء.. البقعة المباركة وجبة الدرويش الذي يطوي قلبه على المحبة ويؤمن بوحدة الوجود..
امدرمان قارورة عطر السودان التي اوجزت فيها كل رياحين وزهور السودان.
واوجز في قارورة العطر روضة *** واوجز في كأس الرحيق كروم
كما يقول بدوي الجبل.
قلت :
كم فيكي يامدرمان ألّف شاعرٌ *** كلماً على مر الليالي شوادي
طارت مع الركبان غيماً اخضراً *** وغدت على الأيام كالأعياد
صاغ التجاني حروفها من أنجمٍ *** غابت بنيل المرزمات صوادي
غررٌ بحبر الليل خط سوادها*ومن النجوم ِطلائحٌ وهوادي
وليعذرني النحويون في ضرورة تنوين (أخضر) فذلك من جرائر الشعر وضروراته.
امدرمان احالتها الحرب إلى كومة من الرماد
نيرون مات ولم تمت روما بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تجف *** ستملأ الوادي سنابل
رحم الله محمود درويش فقد كان شاعراً عظيماً.
إنها الحرب بدالاتها الثلاثة دمار، دماء، دموع.
وماالحرب الا ماعلمتم وذقتم***وماهو عنها بالحديث المرجم
إنها النار التي (جمّرت) الشعب السوداني العظيم.. ولقد استوقفتني مقولة لشابة صغيرة قالت: الحرب أظهرت احسن مافينا وأسوأ مافينا.
ولقد صدقت تلك الفتاة فالحرب نار والنار تأكل المعادن الخسيسة
قد أشعلوا النار في أطراف دولتنا***لن تأكل النار سوداناً من الذهب
وهو بيت من قصيدة كتبتها لسيدي الفيتوري في أيام محاقه الأخيرة، وقد أرسلها له صديقي الشاعر الأديب السفير خالد محمد فرح، فوجدتْ منه قبولاً واستحساناً.
خرجنا من امدرمان ونحن نردد قول الفرزدق :
وكانت جنتي وخرجت منها***كآدم حين أخرجه الضرار
من جبل الأولياء، حيث شجرة الأكسير وأكاسير المعارف النادرة وأسرار العارفين المكتوبة بماء الأحداق ومختومة بالكبريت الأحمر أكتب. أورد ابو بكر العتيق أحد علماء كنو النابهين في ترجمته للشيخ أحمد الفوتي، أنه جاء إلى السودان وذهب إلى جبل الأولياء ودخل فيه الخلوة لمدة عام بين السباع والوحوش، ثم ذهب إلى كردفان وقابل الشريف عبد المنعم المعمر بأم سعدون، وقال أخبرني ابنه أحمد أن عمر الشريف فوق المئتين عام وقيل إن عمره بين المئتين والخمسين و المئتين والستين انتهى كلام العتيق.
ولقد سألتُ شيخنا العارف المعمر عبد الله راجل ام كتيره عن عمر شيخه الشريف عبد المنعم، فقال لي إن عمره مئتان وسبعون عاماً.
هذا الاستطراد والتداعي الحر الذي يشبه هذيان المحموم يسوقني إلى ليلة باردة ونحن نهيم بأطفالنا هاربين من حلة الجموعية على غير هدى حتى وصلنا إلى حلة (شرفت) حلة الأشراف الكرماء وقد نادتنا امرأة بعد الساعة الواحدة صباحاً وهي ترفع رأسها فوق الحائط '' اتفضلوا'' وآوتنا، تلك هي الفاضلة أم كلثوم العباسية ومعها زوجها عمر الكريم الذي خاطبها بلسان الشاعر القديم :
ياربة البيت قومي غير صاغرة***ضمي إليكِ رحال القوم والقربا
في ليلةٍ من جمادى ذات أنديةٍ ***لا يبصر الطرف من ظلمائها الطنبا
لاينبح الكلبُ فيها غيرَ واحدة ***إلا ويلوي على خيشومه الذنبا
رعى الله تلك القرية الوادعة التي ترقد على ذراع النيل ورعى الله عمر الجموعي ذلك الرجل الكريم.
لستَ الكليمَ وفي دارٍ مباركةٍ حللتَ ***والجانبَ الغربيَّ نوديتا
وبين ضراوة الحرب وضراوة الجوع يبقى عود الشعب السوداني الصليب غير قابل للكسر.. قابلت في أيام الحرب فتاة صغيرةبامدرمان في مركبة عامة، قالت لي فراستي إنها من النوبة وكانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهراً، وقد ناولتها امها سندويتشاً وقالت لها افطري: '' فناولتني الخبزة فرددتها شاكراً وانا اردد في نفسي أي شعب في الأرض يعطي إفطاره بعدالواحدة_وهو عبارة عن خبزة واحدة_ لمن لا يعرفه؟!!
الشعب أجمل مافيه بساطته *لكن معدنه أغلى من الذهب
هذا شعب عظيم يحب الحياة ويصنع الحياة ويستحق الحياة.
وها نحن نهاجر نازحين نحو الشمال سالكين طرق القوافل القديمة في هجرة قد تفضي بنا
الى (الريف)، ونحن نردد مع الشاعرة البدوية
درب الريف تب حقه
كملكن بي النَقه
متبارين لي الجقه
نمت الحَمار شقه
وحامت حولنا أرواح رجال درب الأربعين،ود ضحوي والرنديلي وبلال ود عيسوبي وغيرهم من الرجال الذين اقتحموا (العقبه)
، ولقد تعلمنا منهم أن الذاهب إلى مصر يصر الجدي في عينو اللمين والذاهب إلى ليبيا يصر الجدي في عينو اللسار..تخيل أنك تطبق على نجم القطب بين جفنيك حينها ستصبح (قطباً)،لأن العارفين قالوا إن الكون يصبح مثل الهباءة في رمش العارف الكبير..
وتحسب نفسك جرماً صغيراً *** وفيك انطوى العالم الأكبر
وربما تفضي بنا الرحلة إلى (كفرة) مترسمين درب الشريف المحفوظ ول أُبات مرددين قول الشاعرة الشنقيطية
فيديني يا حميره
في رجالة الحيره
المحفوظ بي أم ميله
دخل سوق ليبيا الليله
وعلى كل حال فهي رحلة إلى تخوم المجهول قد تفضي بنا إلى الضياع ونحن نردد قول الأستاذ _كما يقول الطيب صالح _
وأنى شئت يا طرقي فكوني*** أذاةً أو نجاةً أو هلاكا
في قهوة أم الحسن لعب ود بقوي ورسمت خنساء على الرمل ولمعت النحوم في سماء صافية مثل دمعات حبيسة ترقرقت في حدقات السديم.
وحيد عن الخلان في كل بلدة***إذا عظم المطلوب قلّ المساعد
ياليل الصب متى غده
وقال سلطان العاشقين :
لي فيك أجر مجاهد إن صح أن الليل كافر
والليل كافر لأنه يخفي الأشياء، والفلاح كافر لأنه يدس الحب في الأرض "كغيث أعجب الكفار نباته" كما ورد في الكتاب العزيز.
ويقول السودانيون (الشم غابت في كافرها).
يقول ود السُميري:
نامن غابن الخيل والعصي وكافرهن
وكان شيخ شعراء البطانة ود السُميري يلتزم مالا يلتزمه المعري في لزومياته انظر إلى قوله :
ستات الصبا الأبى انبلس غافرهن
واويلك شبع لهطي وبقيت تافرهن
هنا كرمكول بلد الكاتب الكبير الطيب صالح الذي (ملأ الدنيا وشغل الناس ).. هنا حيث أكمل النيل انحناءته العظيمة وكأنها كانت تقديراً لجلال التاريخ الباذخ في النقعة والمصورات والبركل وكرمة حيث قال شارلس بونيه:(إنه أعظم تاريخ في العالم).. قالها بالحرف الواحد ونحن نوثق لرحلته في سراديب (دودا قيل) ومعي الراحل محمد يوسف عثمان الدينكاوي وصديقي الباحث المجيد الشاعر عبدالله أحمد الشيخ.
سار بهم مشاطئاً للنيل
وكم بشط النيلِ من جميل
ومن بنات الواقِ والهديلِ
صدى ربابات من المجهولِ
مشرعة الأوتار في الفصولِ
أين جزيرة أم درق التي ولد فيها شيخ شعراء السودان عبد الله الشيخ البشير؟ قيل لي أنه قد ابتلعها النيل
أسمع أصداء شعر حسن الدابي وإسماعيل حسن والخارق حميد وكأني استمع لطنبور النعام آدم الذي يشبه خرير جداول النيل التي تهمس في آذان الحياض المترعة بالخصوبة والخضرة اليانعة بأرض القرير
(الليلة القرير نبحن بوابيره يا الرايقه)
ولأهلي الشناقطة علاقة قديمة مؤسسة على الحب والتقوى بالشمالية.. فأقدم مقبرة بالمخيرف ببربر هي مقبرة تحمل اسم الشريف زين العابدين التيشيتي ابن عم الشريف محمد المختار التيشيتي دفين أم حراحر وهو أيضاً جد اللواء أحمد الشريف الحبيب وجد المحامي والسياسي المرموق أحمد زين العابدين..وبربر هي مقر العلامة الشريف محمد المأمون بن الشيخ محمد فاضل ول مامين الذي قيل عنه لو أن علوم المذاهب الأربعة ألقيت في البحر لأملاها من حفظه.. و والدة العلامة المجيدري ول حب الله اليعقوبي من بربر.
وسكن ب(البرصة) العالم الجليل والشاعر المبدع الشيخ محمد الحسين الأبيري، وقد ألف كتبا ضمنه قصائد رائعة في مدح أهل تلك الأصقاع، خاصة السادة العجيمية، وقد كنت احتفظ بذلك الكتاب ضمن الذخائر النادرة التي أنا بها أنا ضنين، ولكني أهديته لصديقي الأديب والعالم الجليل السفير الشريف محمد ماء العينين، وأنا اردد قول حرمة ولد عبد الجليل مخاطباً الشاعر ولد الطلبة اليعقوبي وقد أراد أن يستعير منه كتاب تذكرة الحكام :
يابن المشايخ والأشياخ أسلافه
جزاء من يسعف العافين اسعافه
***
لكن تذكرة الحكام مبخلة
ولؤلؤ وسواد العين اصدافه
***
ومن اعار سواد العين اتلفه
لكن يهون علينا فيك إتلافه
و السفير ماء العينين رجل سمح جواد أذا أعطاك كتاباً لايطالبك بإرجاعه مهما كانت نفاسة ذلك الكتاب، وماأكثر الكتب النفيسة عند ذلك الرجل النفيس.
وسكن بالقرير- بلد الشعر والطنابير الترن-الشاعر محمد الأمين بن عمر الأبيري وله بها عقب.
وسكن بالغابة الرجل الفاضل صاحب الأخلاق الرفيعة محمد المختار الديماني.
وفي عام رمادة الجفاف هبط الدبة من شناقطة عديد راحة خالنا المرحوم محمد الأمين ولد النابغة الداودي وأبناء عمومته
الأستاذ محمد أحمد ولد شعبيط وأخوه السيد محمد وابن عمنا الأستاذ يحي أحمد الحسين، ولايزال أبناءهم ملأ السمع والبصر.
ولحق بهم نفر من شناقطة وادي الملك منهم أبناء عمومتنا أبناء محمد الأمين ولد العبقري وابن عمنا أحمد محمد المصطفى، والده العالم الجليل محمد المصطفي ابحيده الجكني القلالي.
هنا القدار (دنقلا العجوز) حيث تلاقى الصحابة الكرام والنوبة رماة الحدق، وبدأ اللقاء التاريخي بين العروبة والأفريقانية.. وأورث النوبة العظماء عرشهم لأبناء بناتهم من عرب بني الكنز.. والنوبة هم ''رواق أفريقيا '' وهم قيمة حضارية عظيمة لمن ألقى السمع وهو شهيد.. (عرب نحن حملناها ونوبة) تغنى بها فنان أفريقيا المتفرد محمد عثمان وردي، ماأروع ذلك اللقاء وما اجمل ذلك الغناء، ليتنا نتداوى بذلك الجمال من تصحر النفوس وجفاف العواطف وقبح الكراهية..
وبالقدار يقطن الدناقله والكبابيش ونُبذٌ من بقية ما تركت رحى الحرب من حملة ود النجومي..
قلت:
أشراف الرجال في حلة القدار
أبناء الصحابة الكلهن أخيار
القدح المبرز والكلام السار
عند ناس الضريس فزع الغريب والجار
وعلمت أن صديقنا عالم الآثار الكبير البروفيسور على عثمان محمد صالح بدلقو يأكل التمر، ويشرب من جرار مترعة بماء النيل المضمخ بطمي الدميرة
وماء بلادي كان اعذب مشربا *ولو أن ماء الكرخ صهباء جريال
وعلي عثمان من أرواح هذه الجغرافيا الموغلة في شعاب التاريخ وحارس من حراس الذاكرة السودانية التي تستعصي على الطمس والنسيان.
شكراً مكوك الجموعية، فضل السيد حاج علي وفضل السيد عبد الرحيم، وخليفة، ونور الدايم محمد البشرى، والأستاذة فاطمة حاج علي إدريس، والفاضلة عز الشرف، والعافية، وآمنة حاج علي..
شكراً أهلي بني جرار الأماجد، الأستاذ علي حسن عيسي، وشيخ الفاتح أبو المرضية، والشيخ حاج الطيب، الفاتح علي، والشيخ أبو البشر،والشيخة الروضة بت الشيخ والفاضلة عائشة الطيب، والشاعر والراوية مصطفى حاج الطيب.
اذكرونا مثل ذكرانا لكم *** رب ذكرى قربت من نزحا
اذكروا صباً إذا هام بكم *** شرب الدمع وعاف القدحا
مهيار الديلمي
#إبراهيم الدلال .
aubaidmagadam@hotmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
جديد ملف النزوح بعد سقوط الأسد
قال مرجع سياسيّ إنّ سقوط نظام الرئيس السوريّ بشار الاسد سيُساعد في عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.وأشار إلى أنّ إدّعاءات دول الإتّحاد الأوروبيّ التي كانت تُشجّع على بقاء النازحين في لبنان سقطت، ولم يعدّ هناك أيّ خطر عليهم.
ولفت المرجع عينه إلى قيام دول أوروبيّة بإلغاء طلبات اللجوء الخاصة بالسوريين بعد سيطرة المعارضة المسلّحة على سوريا، وقال إنّ هذا الأمر يُؤشّر إلى تشجيع الدول الغربيّة اللاجئين على العودة إلى بلادهم.
المصدر: لبنان 24