صباح الثامن من ديسمبر، ونحن مشدودون إلى الشاشات، يخرج السجناء بالعشرات، بالمئات، بالآلاف وكأنهم يمنحون لفظة «تحرير» تمثيلاً بصرياً وحرفياً. نتذكر ونحن أمام هذا المشهد المهيب معنى نجاتهم. نستدعي رجلاً أسمر، فمه الصغير بالكاد يُفتح وهو يتحدث، وعيناه في عزاء أبدي، حتى في اللحظات التي لا يبكي فيها فعليا.
على هامش تبييض السجون، شكك البعض في إن كان من الحكمة أن يُحرر جميع المساجين دون التوثق من تهمهم، إذ ليس جميعهم سجناء سياسيين. ويتساءلون ماذا لو أدى هذا لموجة من العنف والفوضى، ألا يتم استخدام المساجين كأداة تحديداً لهذا الغرض؟
أولا، إن عملية التوثق ستعني بقاء عشرات الآلاف (فكروا بالرقم الآلاف) من المساجين حتى تتم هذه العملية المرهقة والمعقدة، خصوصا أنه وكما هو الحال مع سجن صيدنايا كانت فرق الإنقاذ في حرب مع الزمن من أجل الإفراج عنهم قبل أن يختنقوا، والسوريون في تلهف لاستعادة أحبتهم أو أقله الاطمئنان على مصيرهم.
ثانيا، حتى فيما يخص السجناء غير السياسيين. كيف نتوقع من نظام وحشي ومستبد، أن يكون قد تثبت من تهمهم، أو أن يُحاكمهم محاكمات عادلة، ويجازيهم بما يتوافق مع جناياتهم. ومهما تكن جريمة المرء فثمة ظروف سجن يجب توفرها لحفظ كرامة المساجين، ظروف غير متوفرة في حالة النظام السوري.
فوق هذا فالجرائم التي تحدث - في ظل الحروب خصوصا - هي مشاكل هيكلية يتحمل النظام مسؤوليتها فوق ما يتحمله الأفراد.
أمر آخر حول هذه النقطة. على عكس ما حصل مع سقوط أنظمة أخرى في الربيع العربي، لم يبدُ أن الثوار يضعون القصاص والثأر كأولوية لهم. على العكس هم يؤمنون بأنها مرحلة تتطلب قدرا عاليا من التسامح والصفح، والإقرار بأن من شغّلوا آلة القمع والظلم هذه هم - بطريقة ما - ضحايا النظام أيضاً. لا يجب أن يعني هذا - بأي حال من الأحوال - أن لا يُحمّل الجناة مسؤولية أفعالهم. لابد من المساءلة، ولابد من أخذ الحق الذي حلم به الضحايا سنوات.
ثالثا، صحيح أننا نعرف عن أمثلة استُغل فيها السجناء للبلطجة. ولكن هذا لا علاقة بكونهم مساجين، بل بكونهم وُظفوا لهذا الغرض. ليس الأمر وكأنهم ذهبوا لإثارة الفوضى فور إطلاق صراحهم لطبيعة مؤذية فيهم. بل أن إثارة الفوضى كانت شرطاً لإطلاق سراحهم. أمر لا يختلف كثيراً عن استخدام المرتزقة، الفارق الوحيد أن المساجين في وضع أكثر هشاشة، والموظِف يستغل استماتتهم لكسب حريتهم، ويوظفها لصالحه. التصديق أنهم يذهبون إلى العنف فور إطلاقهم، قادم من فرضية متزمتة عن طبيعة الشر. بمعنى أن ثمة من هو بالفطرة شرير أو عنيف أو مثير للمتاعب.
رابعا، يقول لي حدسي - والذي اعترف أنه غير مدعم بأي معرفة - أن فكرتنا عن السجن، وما يفعله السجن بالإنسان، قادم من أسوأ نموذج موجود: السجون الأمريكية. لا أتحدث عن السوء بمعنى الوحشية، بل بمعنى تأديته للغرض الذي أُوجد من أجله، أي الإصلاح. على العكس تماماً، تنجح السجون الأمريكية في أن تأخذ يافعا بريئا وتحوله إلى كائن عدائي، جاعلة من مؤسسة السجن نظاما لتفريخ العنف.
وأنا لا أقول أن سجون الشرق الأوسط أفضل حالا، كل ما أقوله أننا لا نملك المعرفة الكافية عن التغيير الذي تحدثه على المستوى النفسي. أليس واردا أنها تصنع شبكة من التضامن، أن تكون مكانا للتثقيف، في ظل وجود نسبة كبيرة من المجتمع في السجون.
خامسا، فكرة العقاب، والعقاب عبر سلب الحرية بحاجة إلى مراجعة. خصوصا عندما نضع في الحسبان الأثر الاجتماعي على تغييب معيل الأسرة، أو الأثر النفسي على أبناء المساجين، واحتمالية أن يُصبحوا هم أنفسهم مساجين في المستقبل. أو حين نُفكر بالبعد السياسي لمؤسسة السجن التي تُوجد أحيانا كحلول لمشاكل اقتصادية واجتماعية: مثل الحاجة إلى أيد عاملة بالمجان كبديل للاستعباد فور إلغاء العبودية، أو حل لفشل الحكومة في توفير فرص متساوية للجميع تضمن لهم العيش الكريم، أو انعكاس للعنصرية في المجتمع.
الخلاصة، أننا عندما نضع التحرير الفوري للأبرياء الذين نُكل بهم دون رحمة، مقابل التخوف من إطلاق متهمين بارتكاب جنايات، نُدرك عدم وجود حجة مقنعة تدعم التردد في تبييض السجون.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
خروقات إسرائيل بحق الأسرى الفلسطينيين.. تعذيب وتأخير إطلاق سراحهم
من بين مئات الخروقات الإسرائيلية التي وقعت من جانب دولة الاحتلال ما حدث بحق الأسرى الفلسطينيين، الذي كان مقررا إطلاق سراحهم مع بداية اتفاق وقف إطلاق النار الواقع 19 يناير الماضي؛ إذ تم تأخير الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في الدفعة الثالثة إلى الساعة 5 مساء بدلًا من الساعة 1 مساء.
تأخر تحرير الأسرى الفلسطينيينوتأكيدا على تلك الواقعة، ما أعلنته إدارة السجون الإسرائيلية، يوم 30 يناير الماضي، بشأن تلقي تعليمات من المستوى السياسي بوقف تحرير الأسرى الفلسطينيين، وهو ما يعد خرقا من خروقات إسرائيل للاتفاق المبرم.
وقال مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في بيان وقتها: أمر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إلى جانب وزير الدفاع يسرائيل كاتس، بتأجيل إطلاق سراح الاسرى الفلسطينيين المقرر إطلاق سراحهم اليوم - حتى يتم ضمان الخروج الآمن للمختطفين في المستقبل. وتطالب إسرائيل الوسطاء بتحقيق ذلك.
كما قالت إذاعة الجيش الإسرائيلي: وقف عملية الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين حتى إشعار آخر.
ونقلت صحيفة يديعوت أحرونوت عن مصدر أمني إسرائيلي قوله: تلقينا تعليمات بتعطيل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، في أعقاب المشاهد التي جرت في تسليم الأسرى الإسرائيليين بخان يونس.
ولم يقف الأمر عن تأخر تسليم الأسرى، فقد تعرض بعضهم للضرب خلال إطلاق سراحهم من السجون الإسرائيلية، فضلا عن تغيير بعض الأسماء دون تنسيق مسبق، بجانب عدم السماح لأسر المبعدين بالخروج من الضفة الغربية لزيارتهم، بحسب ما جاء في وسائل إعلام فلسطينية.