تحولات عسكرية ومعاناة إنسانية في دير الزور
تاريخ النشر: 11th, December 2024 GMT
دير الزور- في السابع من ديسمبر/كانون الأول الجاري تحركت أرتال عسكرية تابعة لغرفة عمليات "ردع العدوان" نحو محافظة دير الزور تزامنا مع تحركات مماثلة نحو حمص ودمشق التي سقطت بيد فصائل المعارضة السورية المسلحة. وانسحب النظام والمليشيات التابعة له بشكل كامل من دير الزور، وسلمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) بموجب اتفاق بين الطرفين وبرعاية روسية.
وحاولت فصائل المعارضة دخول المدينة، إلا أن التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة منعها عبر التحليق المكثف وفتح جدار الصوت، موجها رسائل تحذيرية بعدم التقدم دون موافقة أميركية وتجنب أي اشتباكات، مما أجبر القوات المهاجمة على الانتظار على مداخلها.
وبعد 3 أيام من الترقب، تمكنت قوات "ردع العدوان" من دخول دير الزور، منتصف ليلة أمس الثلاثاء، من محوري حي البغيلية ودوار الدلة، دون اشتباكات بناء على اتفاق بين التحالف والمعارضة، وفق ما أفاد به الصحفي معاذ الناصر للجزيرة نت.
انسحابمن جانبه، أشار المحلل العسكري سعد الشارع إلى عدم وجود معلومات مؤكدة بشأن مفاوضات مباشرة بين غرفة عمليات "ردع العدوان" وقوات قسد، وأوضح أن وجود مجموعات عسكرية على المحورين الجنوبي والغربي أجبر قسد على الانسحاب لتجنب خسائر مؤكدة، بسبب غياب الدعم من التحالف الدولي الذي لم يعطها موافقة لدخول مناطق غرب الفرات.
إعلانوانسحبت قوات سوريا الديمقراطية إلى شرق الفرات بعد استحواذها على الأسلحة والذخائر التي تركها النظام في مطار دير الزور العسكري ومستودعات "عياش" ثاني أكبر مستودعات أسلحة في سوريا، بحسب تصريح الصحفي هيثم السليمان للجزيرة نت. كما نقلت محتويات بعض الدوائر الحكومية بما فيها معدات من داخل البريد ومادة الدقيق.
في الريف الشرقي لدير الزور (شرق الفرات)، شنت قوات قسد حملات تمشيط ومداهمات أمنية، وطلبت من الأهالي التزام منازلهم. وقال المواطن عامر الخالد، للجزيرة نت، إن رتلا عسكريا خرج من مدينة دير الزور باتجاه ريفها الشرقي مما سبب حالة من الذعر لدى الأهالي بعد انشقاق قائد مجلس ساحة هجين التابع لمجلس دير الزور العسكري وانضمامه إلى غرفة عمليات "ردع العدوان".
واستهدف الرتل حاجزا لقسد، واستولى عليه في منطقة أبو حردوب، وشارك طيران التحالف الدولي بطائرات مسيرة ومروحية في هذه الهجمات.
قصف إسرائيلي
في الأثناء، تشهد محافظة دير الزور قصفا إسرائيليا مكثفا استهدف مواقع عسكرية، بما في ذلك مطارها العسكري ومقر كتيبة الدفاع الجوي.
وقال القيادي العسكري في المنطقة الشرقية العميد عمر الطراد، للجزيرة نت، إن القصف أدى إلى اشتعال النيران بشكل غير مسبوق في سماء المدينة، ويرجح أن المستودعات المستهدفة تحتوي على عتاد إستراتيجي تخشى إسرائيل وجوده في دمشق، وحمص، ودير الزور.
من جهة أخرى، أعلن التحالف الدولي عن تنفيذ قرابة 100 غارة جوية على مواقع لتنظيم الدولة في البادية السورية، بعد رصد تحركات له في المنطقة.
أوضاع متردية
تعاني محافظة دير الزور، وصولا إلى البوكمال، من الفوضى تتخللها حالات من السرقة والنهب وأوضاعا خدمية سيئة مثل الانقطاع المتكرر للكهرباء والمياه، إضافة إلى نقص الخبز وارتفاع الأسعار. كما تنتشر النفايات بشكل كبير نتيجة توقف عمل البلديات، بسبب الفوضى الأمنية وحظر التجوال الذي فرضته قسد قبل خروجها، وفق تصريح سلام الفياض وهو شاهد عيان للجزيرة نت.
إعلانمن جانبه، يقول المواطن عماد العزيز، للجزيرة نت، إن مناطق الريف الخارجة عن سيطرة قسد بدأت بالتعافي بفضل وعي الأهالي وعقد اجتماعات نتج عنها ضبط الأمن بشكل جزئي وإعادة تفعيل الخدمات وتوفير مادة المحروقات للتدفئة، إلا أنه لا تزال هناك بعض الخروقات بسبب أصحاب السوابق والمستفيدين من الوضع.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات التحالف الدولی ردع العدوان للجزیرة نت دیر الزور
إقرأ أيضاً:
تحولات الاقتصاد العالمي وتحدي العمل اللائق
« تحولات الاقتصاد العالمي وتحدي العمل اللائق »، هذا هو موضوع مداخلتي في لقاءات الجامعةً الأورومتوسطية بفاس حول « تحالف الحضارات » يومي 6 و7 ديسمبر 2024. في الواقع، كان العمل والتوظيف دائمًا رهينين بالبُنى السياسية والاقتصادية السائدة. لقد تطورت طبيعة العمل تبعًا لنمط الإنتاج المهيمن: حيث انتقلنا تدريجيًا من العمل القسري إلى العمل المأجور. إلا أن هذا الأخير أصبح اليوم موضع تساؤل بسبب الروبوتات، والتكنولوجيا الرقمية، والذكاء الاصطناعي.
هل هذا يعني أننا سنشهد نهاية العمل كما يتوقع بعض المفكرين؟ لا نعتقد ذلك: فمكانة العمل تتغير، لكنه لن يختفي بالمطلق. سيظل الذكاء البشري متفوقًا على الذكاء الاصطناعي، على الرغم من الإنجازات المذهلة التي يحققها هذا الأخير.
بالطبع، الانتقال من مرحلة تاريخية إلى أخرى لا يتم بطريقة سلسة وسلمية. نجد دائمًا رابحين وخاسرين. هذا هو المعنى الحقيقي للثورات المتعددة التي حدثت عبر التاريخ. وإذا كان الانتقال من نظام العبودية إلى الإقطاعية ثم إلى الرأسمالية قد شكل تقدمًا لا يمكن إنكاره للبشرية، فهذا لا يعني أن ظروف العيش في المجتمعات الرأسمالية كانت مثالية. بعيدًا عن ذلك. فقد أُجبر آلاف العمال على العمل لساعات طويلة دون أي ضمانات، وفقدوا حياتهم في أماكن العمل، وتلقوا أجورًا بالكاد تكفي للبقاء على قيد الحياة لهم ولعائلاتهم. استغرق الأمر عقودًا من النضالات الاجتماعية بدعم من النقابات الناشئة لفرض تشريعات العمل التي أقرت تعميم الضمان الاجتماعي، ووضع حد أدنى للأجور، وتحديد سن قانوني للعمل… وقد لعب إنشاء منظمة العمل الدولية عام 1919 دورًا كبيرًا في توفير إدارة ثلاثية (حكومات، أصحاب عمل، وعمال) للقضايا المتعلقة بالعمل. وتمثل العشرات من الاتفاقيات التي تبنتها هذه المنظمة بشأن مختلف جوانب العمل مرجعًا لا غنى عنه للشركاء الاجتماعيين.
بالموازاةً مع هذا التطور الميداني، تطورت النظرية الاقتصادية المتعلقة بالعمل وفقًا للمدارس الفكرية. ودون الرجوع إلى ابن خلدون، الذي كان رائدًا في هذا المجال في عمله « المقدمة »، الذي ترجم إلى الفرنسية تحت عنوان « خطاب حول التاريخ الكوني » (3 مجلدات)، واعتبر العمل « مصدر خلق الثروة »، يمكننا أن نشير إلى مساهمة ثلاث مدارس: الاقتصاد السياسي الإنجليزي، النظرية الماركسية أو نقد الاقتصاد السياسي، والاقتصاد النيوكلاسيكي. من المدرسة الأولى، نستعير فكرة « قيمة العمل »، بمعنى أن قيمة السلع المنتجة تُحدد بكمية العمل المدمج فيها. بينما تجاوز ماركس هذه الفكرة بتقديمه تمييزًا بين العمل وقوة العمل. في الواقع، لا يبيع العامل عمله بل يبيع قوة عمله التي تُعتبر سلعة. الفرق بين هذين المفهومين كبير. بينما تعادل قيمة قوة العمل الأجر الذي يتلقاه العامل، فإن القيمة المنتجة (العمل) تعادل قيمة السلعة. والفرق بينهما يمثل فائض القيمة الذي يستولي عليه الرأسمالي. وهذا يفسر استغلال العمل من قبل رأس المال. وبذلك، قدمت النظرية الماركسية أداة فعالة للحركة العمالية للمطالبة بتحسين ظروف العمل وأرست أسس ما أصبح يُعرف لاحقًا بـ »العمل اللائق » كما هو منصوص عليه في اتفاقيات منظمة العمل الدولية
للحد منً تأثير هذه النظرية، ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تيار فكري يُسمى « النيوكلاسيكي ». لجأ هذا التيار إلى أدوات رياضية متطورة لإضفاء نوع من “العلمية” والدقة على الاقتصاد مثل العلوم البحتة كالرياضيات أو الفيزياء، ووضع دالة إنتاج تتكونً متغيراتها من العمل ورأس المال. ويتم تعويض كل عامل وفقًا لـ »إنتاجيته الحدية ». وهكذا، يعامل هذا التيار الليبرالي العمل، وبالتالي العامل (وهو إنسان من لحم ودم)، كما يعامل الآلة. هذه المقاربة، التي تفتقر بشدة إلى البعد الإنساني، أثرت على بعض مديري « الموارد البشرية » وبسطت نفوذها على نظرية بأكملها حول « رأس المال البشري ».
مثل هذه الأفكار تتجلى في التايلوربة والفوردية اللتين واجهتا انتقادات عديدة، لا سيما في جانب « إلغاء إنسانية » عملية الإنتاج بفرض وتيرة عمل شاقة على العمال لمواكبة الآلات، مما جعلهم عبيدًا جددًا. فيلم تشارلي تشابلن « الأزمنة الحديثة » (1936) هو بمثابة لائحة اتهام ضد العمل الآلي وظروف عيش جزء كبير من السكان الغربيين خلال فترة الكساد الكبير، المفروضة من أجل تحقيق مكاسب الكفاءة التي تطلبتها الصناعة الحديثة. ناهيكم عن ظروف العمل اللاإنسانية التي فُرضت على سكان الدول المستعمَرة.
وحتى لو تم التخلي عن هذين النظامين (التايلورية والفوردية)، فإن روحهما لم تختفِ تمامًا. فالعمل عن بُعد، والروبوتات، والتقنيات الرقمية، والذكاء الاصطناعي، رغم أنها تحمل وعودًا بتقدم حقيقي، فإنها تمثل في الوقت ذاته مخاطر كبيرة على العمال والمجتمع ككل. هذه الاكتشافات التقنية الجديدة ليست في المقام الأول موجهة لخدمة الإنسان أو تسهيل حياة العمال، بل تأتي ضمن منطق إنتاجي وتنافسية مبالغ فيها لا تزيد إلا من تعميق الهوة بين البلدان وبين الفقراء والأغنياء داخل كل بلد. وهكذا، يحل العمل الفردي تدريجيًا محل العمل الجماعي، مما يعزز اغتراب العامل وإضعاف الحركة النقابية. في عصر تتطور فيه التقنيات بسرعة كبيرة، وتصبح دورة المنتوجات أقصر، يجد العمال أنفسهم بحاجة مستمرة للتكيف مع التكنولوجيا كي لا يفقدوا وظائفهم. مما يجعلهم يعيشون في وضعية غير آمنة. وبالتالي ينظر إلى العمل وكأنه « تعذيب » وليس وسيلة لتحقيق الذات .
إنه عمل يتحكم فيه الكمبيوتر، وغالبًا ما يُدفع مقابل الإنجاز، ويؤديه أشخاص لا هم عمالً ولاهم رجال أعمال حقيقيين. وهكذا، نشهد نوعًا من الاستغباء الذي يذكّرنا في بعض جوانبه بأشكال الاستعباد الأسوأ للعمل البشري. هذه « الرأسمالية القائمة على المنصات » ليست سوى عودة إلى نوع جديد من الترحال.
في النهاية، فإن رهانات هذه التحولات ليست اقتصادية واجتماعية فقط، بل هي أيضًا مجتمعية، وحتى حضارية.