"الشرق الأوسط الجديد".. واقع مضطرب
تاريخ النشر: 11th, December 2024 GMT
عادل بن رمضان مستهيل
adel.ramadan@outlook.com
منذ سنوات، تتردد فكرة "الشرق الأوسط الجديد" كمشروع سياسي وجيوسياسي يستهدف إعادة تشكيل خارطة المنطقة بما يخدم مصالح القوى الكبرى ويضمن أمن إسرائيل كأولوية استراتيجية.
هذه الرؤية- التي ارتبطت بأسماء بارزة مثل المفكر الأمريكي برنارد لويس ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز- عادت لتطفو على السطح مع موجات الاضطرابات والفوضى التي شهدتها المنطقة في العقدين الأخيرين.
و-يشير المؤرخ الأمريكي برنارد لويس إلى أن إعادة رسم حدود الشرق الأوسط يمكن أن يتم من خلال تقسيم الدول القائمة إلى كيانات أصغر تقوم على أسس طائفية وعرقية. هذه الكيانات ستكون أضعف من أن تمثل تهديدًا حقيقيًا للقوى الكبرى أو لإسرائيل، وهو ما يضمن سهولة التحكم بها سياسيًا واقتصاديًا.
في السياق ذاته، قدم شمعون بيريز رؤيته الخاصة للمنطقة في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" عام 1993؛ حيث تحدث عن شراكة اقتصادية وسياسية بين دول المنطقة، لكن تحت مظلة الهيمنة الإسرائيلية. هذه الرؤية، وإن ظهرت بوجه دبلوماسي، فإنها تحمل في طياتها بعدًا استراتيجيًا يتمثل في ضمان بقاء إسرائيل القوة الإقليمية الأبرز.
وفي منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، برز مصطلح "الفوضى الخلَّاقة" الذي تبنته كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية سابقًا، كأداة رئيسية لتحقيق هذا المشروع. الفكرة تقوم على إثارة الأزمات والصراعات في المنطقة، بهدف زعزعة استقرار الدول وإعادة تشكيلها وفق الرؤية المطلوبة. ومن الواضح أن موجات "الربيع العربي"، رغم تطلعات الشعوب للحرية والعدالة، تم استغلالها كأداة لإضعاف الدول وإشغالها بصراعات داخلية مدمرة.
وحين انطلقت شرارة "الربيع العربي" من تونس، كانت الآمال كبيرة في أن تشهد المنطقة تحولًا نحو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. لكن سرعان ما تحول الحلم إلى كابوس في العديد من البلدان.
ليبيا: انهارت الدولة المركزية بعد سقوط نظام القذافي، ودخلت البلاد في دوامة صراعات مسلحة بين ميليشيات وقوى إقليمية ودولية.
سوريا: انتقلت الاحتجاجات السلمية إلى حرب شاملة، لتتحول البلاد إلى ساحة صراع دولي وإقليمي، أسفرت عن تهجير الملايين وقتل مئات الآلاف.
اليمن: دخلت البلاد في حرب أهلية مدمرة، زادت من تعقيداتها التدخلات الخارجية.
العراق ولبنان: تفاقمت الأزمات الطائفية فيهما، مع تصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة، واشتداد الصراعات السياسية الداخلية.
ومن اللافت أن تنفيذ هذه الرؤية لا يتم دفعة واحدة، بل بشكل متدرج، وبما يخدم الأجندات المختلفة لكل طرف. القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا، تستفيد من هذه التحولات لترسيخ نفوذها الاستراتيجي في المنطقة. القوى الإقليمية، مثل إيران وتركيا، تستغل الفوضى لتوسيع مناطق نفوذها الجيوسياسي. أما إسرائيل، فتبدو المستفيد الأكبر، إذ أن انهيار الدول الكبرى في المنطقة وظهور كيانات أصغر يجعل أمنها أكثر ضمانًا من ذي قبل.
ما يحدث اليوم في الشرق الأوسط، من تفكك دول مثل سوريا واليمن وليبيا، وتصاعد النزاعات الطائفية في العراق ولبنان، يعكس ملامح هذا المشروع. ومع ذلك، لا يمكن إغفال دور القوى المحلية في تسهيل تنفيذ هذه المخططات، سواء بدافع المصالح الضيقة أو بسبب غياب رؤية استراتيجية موحدة للمنطقة.
وفي النهاية، يبدو أن الشرق الأوسط يمر بمرحلة إعادة تشكل قد تستغرق سنوات طويلة. ورغم كل ذلك، يبقى الأمل معقودًا على وعي الشعوب وقدرتها على مواجهة هذه المخططات، والتأكيد على أن إرادة الشعوب قد تكون أقوى من كل المشاريع الخارجية.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
سيناريوهات تقسيم سوريا خطر على منطقة الشرق الأوسط
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في منعطف تاريخي مفاجئ وحاد، وبعد أقل من اثني عشر يوماً لعملية رد العدوان، أعلنت الفصائل السورية المسلحة فجر الأحد الثامن من ديسمبر 2024 إسقاط نظام بشار الأسد على إثر انهيار خطوط دفاع الجيش السوري وعجز حلفائه، إيران وحزب الله، عن تقديم الدعم له في ظل غياب الغطاء الجوي الروسي. وهو ما مكّن قوات المعارضة من دخول دمشق بعد ساعات من دخولها حمص، وسيطرتها على عدد من المواقع الأخرى والمرافق الحيوية والسيادية في البلاد. في حين نقلت وكالات الأنباء عن مسئولين سوريين مغادرة الرئيس بشار الأسد العاصمة دمشق إلى وجهة غير معلومة. ولم تهدأ حيرة السياسيين والمراقبين منذ توارد تلك الأنباء حول السقوط المدوي وتفكيك سوريا بهذه السرعة بعد صمود الجيش السوري ثلاثة عشر عاما أمام المتحالفين من مشارب عديدة ضده.
وبالنظر لأوضاع المنطقة المأساوية مؤخراً قد تتبدد الحيرة؛ فحروب الكيان الإسرائيلي المدعومة من الغرب ضد غزة ولبنان حطمت التوازن الهش بالشرق الأوسط وسحبت خيوطاً رئيسية في نسيج المنطقة بأسرها، مما مكّن فصيلاً مثل هيئة تحرير الشام - ويوصف بالتنظيم الإرهابي من قبل حكومات الغرب- إلى الاستيلاء "السهل" على عدد من المدن السورية. وقد عجّل تغيير هذه المعادلة في حسابات الغرب من هذا التحول الدرامي ضد نظام الأسد. كانت الهيئة تسمى جبهة النصرة بعد انشقاقها عن تنظيم القاعدة في العراق وتأسيس الفرع السوري بزعامة أبو محمد الجولاني، تلميذ زعيم القاعدة السابق الظواهري وزعيم داعش السابق البغدادي. وتسعى حالياً حكومات غربية وإقليمية، في مقدمتها الولايات المتحدة وتركيا، إلى تقديم الجولاني على أنه "معتدل" بعد أن وجد بدوره الفرصة مناسبة لكسب الدعم الغربي والإقليمي.
نعود إلى التوقيت الذي أصبح الاستفهام الكبير لدى المحللين الاستراتيجيين وكتاب الرأي في الوطن العربي والعالم (لماذا الآن؟). لقد بدأ التحضير لهذه المعركة منذ سنوات: إعداد مقاتلين، وصناعة مسيرات، وتسليح، وتدريب؛ ولنسأل أصحاب المصالح كيف يختارون معركتهم في اللحظة التي يرونها مناسبة، لنجد الإجابة: هي لحظة انشغال روسيا بالحرب على أوكرانيا، مما جعل النظام السوري ورقة خاسرة لا تتصدر أولوياتها. إضافة لذلك، تنشغل الولايات المتحدة الأمريكية مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض بملفات حيوية لمصالحها مثل التنافس مع الصين وإعادة ترتيب علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، وإعادة ترتيب ميزان القوة لصالح المشروع الأمريكي الصهيوني الاستعماري الذي يستوجب تصفية قضية فلسطين حتى لو تطلب الأمر تغيير تكتيكاتها والتحالف مؤقتاَ مع تنظيمات تضعها في قائمة الجماعات الإرهابية بجعلها تشغل الفراغ الحالي بعد سقوط النظام السوري. وقد ظهر الحرص الغربي على تقديمه كجيش وطني معني بمصلحة سوريا دون أي مطامع جهادية خارجية، في مسعى ممنهج ومقصود إلى "تلميع سمعة" هيئة تحرير الشام من خلال الإشادة بتسامحها مع المسيحيين وتقبلها للتنوع الديني والعرقي.
ويُلاحظ استخدام مصطلح "بلاد الشام" وليس سوريا وهو ما يضع علامات استفهام حول المعاني التي تحتمل تقسيم سوريا، وهذا ما تروج له بعض وسائل إعلام إحدى الدول من إنشاء دويلات صغيرة يمكن السيطرة على توجهاتها بما في ذلك القضاء على التهديد الكردي الذي حظي بدعم سوري منذ سبعينيات القرن الماضي، ناهيك عن تطمين الكيان الإسرائيلي وتقليم أظافر المقاومة.
أما تداعيات الأحداث برمتها على المنطقة فلا شك أن ما يجري في سوريا حالياً وما ظهر من مواقف دولية يبعث برسالة شديدة الخطورة للمنطقة بدءاً بالتأكيد على استمرار مشاريع التقسيم والتفكيك كما حدث من قبل في العراق وليبيا والسودان، وصولاً لتسخير بعض التنظيمات للسير في المسارات التي تخدم المصالح الغربية وإعداد بعض الفصائل الإسلامية الميكافيلية لإنتاج أنظمة بديلة تضمن تنفيذ أجندته. ومن غير المستبعد حسب قراءة مصالح الدول الموجودة في سوريا الآن أن تقسيمها أمر وارد وهو ما يمثل خطراً مضاعفاً على أمن واستقرار المنطقة بأسرها، ولا يمكن لأي طرف دولي أو إقليمي مساند لهذا التقسيم أن يدّعي أو يتظاهر بأنه صديق لسوريا وشعبها أو يرمي لتحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.