إنّ الأيام التي نمرّ بها فـي هذه البقعة الجغرافـية من العالم، أيامًا يندى لها الجبين، ويختلط الحابل فـيها بالنابل، وليت هذا الاختلاط كان فكريا فحسب، بل فـيه مآسٍ لا يقوى العقل على استيعابها أو على تجاهلها حتى! إن من يكتب عن أمور أخرى غير ما يحصل فـي غزة أو سوريا أو لبنان -كم من البلدان العربية يجب أن أذكر!- ليس شخصًا منفصلا عن الواقع لا يشعر به أو يعيشه أو يعاني ويخاف منه؛ بل هو شخص يعيش الواقع كما هو، لا كما يتمناه.
يحق لنا أن نحلم بعالم يسود العدل فـيه، ويتحقق فـيه الأمان للناس ويعيش الناس فـي وئام، ولكنها جُبلت على كدر، فكيف نريدها صفوا من الأقذاء والأكدار وهي طبيعتها وجِبلَّتها؟ يدفع التشاؤم المرء إلى العدمية التي لا ترى خيرا قط، والعدمية كما أرى إنما هي نتاج استسلام محض ينزع من المرء طاقته ورغبته فـي الحياة والعمل والكفاح، فـيظل يائسا كدرا يترقب الشمس تفتح ستارة غرفته، ولكن الشمس فـي علوّها الشاهق لا تنزل إلى الأرض، فـيظل يلعن الشمس لأنها لم تنزل لأجله ولم تفعل له ما يريد وكما يريد، دون أن يفعل ما ينبغي! هذا هو اليائس المتشائم العدمي.
فـي النقيض، هنالك الإنسان الكامل. والإنسان الكامل برأيي هو الذي يحاول فعل الخير والصواب ولو كلفه ذلك ما كلفه، غير مكترث للظروف إن تهيأت له أم لم تفعل، يصنعها بما يستطيع وكيفما اتفق. بل إنه يفعل الخير حتى حين يكون معذورا فـي تركه، ومثال ذلك فـي غزة. لن أقول جديدا عمّا يحدث فـي غزة وجراحها النازفة، لكن ما يلفت الانتباه إلى العقلية التي تتجسد فعلا عند ثلة غير قليلة من الغزاويين، فهناك من يقدم حصته التي يحتاج إليها بشدة من الغذاء إلى إنسان آخر يرى بأنه أشد احتياجا إليها. وهناك من يقدم الدواء الذي فـيه علاجه لصاحبه الذي فـي مثل حالته أو أشد، وهناك من هو خارج من المعادلة أصلا ويأتي من مشارق الأرض ومغاربها ليساعد الغزاويين بالطعام (كمنظمة المطبخ العالمي) أو الدواء والعلاج والدفاع المدني ممن يعلمون بأنهم معرضون لفقدان حياتهم بمدهم يد العون. أتفكر فـي هذه الحياة التي نعيشها، خمسين؟ ستين؟ سبعين سنة؟ هذا ما سنعيشه فـي أحسن الأحوال زاد أو نقص الرقم؛ لكنها سنوات سريعة مقارنة بعمر الكون وبالحياة الأبدية التي نؤمن بها، فما جدوى أن يعيش المرء حياة لا مبدأ له فـيها ولا قناعة يقاتل ويعيش لأجلها، بل ما جدوى أن يعيش المرء حياة مليئة بالمنغصات التي لا يمد يده ليزيحها ويزيلها ما دام قادرا على ذلك، كي لا يكون كصاحبنا الذي يقبع فـي الظلمة منتظرا الشمس لتزيح ستارة غرفته وتُدخِل أشعتها.
الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه وطن واحد، فما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، بل إن ما يفرقنا حادث ومصطنع ولم يكن من لب الحضارة العربية والإسلامية أصلا. ولأنه كذلك، نجد الشيوخ يألمون لواقع البلدان المجاورة أشد من آلام أبدانهم التي تقاوم المرض والهرم ووهن الجسد.
ما الذي يدفع شيخا ينتظر الأجل لأن يكترث بأخيه الإنسان المجاور له؟ إنه المبدأ والدين وسلامة المنطق وسواء النفس والروح. ما حدث فـي سوريا فـيه دروس وعبر تجعلنا نستعيد رؤية الشيوخ وبصيرتهم ونتفكر فـيها.
فقد أثبتت أن الناس ينسون الأحقاد عند انجلاء الشدة والفتنة، وأن الأصل فـيهم الخير والصلاح والإصلاح، فكلهم محب لوطنه مدافع منافح عنه، بانٍ له ومُعمِّر. لكن ما تعلمناه أيضا، أن الاحتلال الصهيوني لن يهدأ ولن يستكين حتى يحتل كل شبر من البلاد العربية. فما إن سقط الجيش السوري وانسحب أمام فلول المعارضة، حتى وثب الكيان على أراضيها، ودمر البنى الأساسية والمدرعات والطائرات الحربية، بل ويعلنها صراحة أن الجولان أرض محتلة إلى الأبد! إن هذه العقلية تنسف ما حاول الصهاينة بثه من دعاية بأنه يمكن التعايش معهم دون خوف أو قلق من غدرهم، وهي حماقة لم يدرك رئيس وزراء الكيان أثرها، فقد نسف ما حاول أسلافه تصويره على أنه حقيقة وواقع يمكن تجسيده، وأن على الشعوب أن تتقبل هذا الأمر كواقع وردي يتعايش فـيه صاحب الأرض والوطن مع من يحتل وطنه فـي سلام ووئام! ثم إن واقع انسحاب الجيش من مواقعه يمثل درسا لا ينبغي إغفاله من دول المنطقة بتاتا، فالجنود ليسوا موظفـين فحسب، بل هم حماة الوطن ودرعه الأول أمام الأطماع الخارجية. وللأسف إن هذا الدرس جاء عمليا وتطبيقيا فـي سوريا ولم يقتصر على كونه شيئا نظريا فحسب. وما حصل هناك، يجعلنا ندرك أهمية التكوين الفكري للمواطن، بأن هذه الأرض مقدسة ويدفع روحه ونفسه فداء لها أمام كل معتد ومحتل، بغض النظر عن القائد الذي يتبعه، ووجوده من عدمه.
من واجبنا أن نحمي بلادنا من أقصاها لأقصاها، من شرقها لغربها، كلٌّ يحميها بما وهبه الله من ملكات ومؤهلات وقدرات. وكما أن وسائل التأثير اليوم أقوى وأنجع فـي تسييس الشعوب وتغيير المعادلات على أرض الواقع، فكذلك يمكن للفرد أن يكون مؤثرا ويغير الحال والواقع إلى الأحسن. فكم من غزاوي أكل مما زرعه يوسف أبو ربيع الذي قاوم الاحتلال بالزراعة وأطعم أهل الشمال ، وكم لمحمود المدهون من يد فـي إطعام الناس ومقاومة الاحتلال بالطبخ للمساكين! وكم من معلم ظل يعلم الأطفال فـي البيوت المهدمة والخيام الممزقة وفـي العراء، كلهم يقاومون الاحتلال بما يستطيعون، وكلهم فلسطيني وفـيٌّ لأرضه وأمته ودينه وعائلته، وهو ما جعلهم يدفعون أرواحهم ثمنا وفداء لوطنهم ومبدئهم فـي نهاية المطاف، فكأنما هم يتمثلون أبيات ابن بيئتهم ووطنهم الشهيد «عبدالرحيم محمود»:
فإمّا حياة تسرّ الصديق
وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
ونفسُ الشريف لها غايتان
ورود المنايا ونيلُ المنى
وما العيشُ؟ لاعشتُ إن لم أكن
مخوف الجناب حرام الحمى
أرى مصرعي دون حقّي السليب
ودون بلادي هو المبتغى
أما من يسأل عن السبب الذي يدعونا لاستحضار مآسي الواقع العربي الذي نعيشه اليوم ونتأُثر به ونحن بعيدون عنه جغرافـيا -بشكل نسبي- فهل نسوا قول أمير الشعراء!
كُلَما أَنَّ بِالعِراقِ جَريح
لَمَسَ الشَرقُ جَنبَهُ فـي عُمانِه
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
طلع الأسد.. أصله كلب!
الفن يسبق الواقع بخطوتين وثلاث وأربع.. مع أن الفن فى الأصل يعبر عن الواقع، ولكن خيال الفنانين والمبدعين الواسع يجعلهم يقدمون فى أعمالهم دائما واقعا بديلا أو واقعا غير متوقع أو تصور لواقع قادم من المستقبل!
والسينما من الفنون التى تسمح للمبدع أن ينطلق خياله إلى أبعد الحدود، وإلى عرض تصورات لواقع يكاد يكون بعيدا كل البعد عن أذهاننا لأنها غير معقولة ومنطقية وفى كثير من الأوقات تكون غير مقبولة ولذلك نقول عنها خيالية وأقرب إلى الهذيان أكثر منها للفن لأنه من المستحيل تصورها فى الواقع ولهذا يقال الفنون جنون!
وظهرت أفلام الخيال العلمى أول مرة فى حقبة الأفلام الصامتة، وكانت أولى المحاولات أفلاما قصيرة تمتد لدقيقة أو اثنتين، مسجلة بألوان أبيض وأسود، مع وجود تلوين ضئيل أحيانًا، واحتوت الأفلام على روح الدعابة، وكانت ذات أجواء تتعلق بالتكنولوجيا، كما جاء فى ويكيبيديا، يعد فيلم "رحلة إلى القمر"، الذى أنتِج عام 1902 للمخرج جورج ميلييس أول فيلم خيال علمى.. بعد ذلك استمرت أفلام الخيال العلمى وكانت مزيجا ما بين الخيال والرعب مثل فيلم فرانكنشتاين. ومثل اقتباس قضية الدكتور جيكل والسيد هايد حيث قدم الفيلمان صورة العلماء المجانين إلى السينما. ويعد فيلم العالم المفقود عام 1920، أول فيلم يقدم مفاهيم جديدة عن خيال علمى مزج فيها بين الحيوانات والعلم مثل: (الديناصورات، والوحوش، والعوالم المخفية)!
أما بالنسبة لأفلام الخيال العلمى فى السينما العربية فهى تختلف كثيراً عن السينما الأمريكية والغربية، بداية من المصطلح.. فهى تسمى سياسية وليست خيالية.. ومع أن معظم هذه الأفلام حدثت فى قصور الحكم العربية ولم يتم تصويرها ولا تقديمها فى عروض سينمائية.. فإن إعدام الرئيس العراقى صدام حسين يوم عيد الأضحى على الهواء مباشرة، فقد كان هذا فيلما خيالياً كان لا يمكن أن يخطر على بال أحد أن يحدث.. ولا أعتقد أن مخرجاً عربياً كانت لديه القدرات الخيالية، لأنه ممنوع أساسا من التخيل والتفكير قبل التعبير، أن يضع سيناريو إعدام صدام بهذا الشكل.. كذلك هروب الرئيس التونسى زين الدين بن على، وفيلم القبض على العقيد معمر القذافى فى ليبيا وسحله فى الشوارع.. فمَن من المؤلفين أو المخرجين العرب كان لديه الخيال ليضع فيلما عن مصير القذافى ملك ملوك أفريقيا وعميد الرؤساء العرب، وإمام المسلمين؟ وكذلك اغتيال الرئيس اليمنى على عبد الله صالح، والقبض على الرئيس السودانى عمر البشير.. وأخيراً هروب الرئيس السورى بشار الأسد!
كل تلك الحوادث هى وقائع وحقائق ورغم ذلك لم يكن أحد من مؤلفى السينما ومخرجيها فى عالمنا العربى كان يمكن أن يتخيلوا أفلاماً تروى مصائر هؤلاء الرؤساء أثناء سيطرتهم على مقاليد الحكم.. ومع ذلك تمكن بعض الهواة الذين استخدموا برامج رقمية مثل أدوبى من تحويل بعض الصور من حالة إلى حالة.. مثل رؤية الحمار لنفسه فى المرآة وكأنه حصان.. وأن يرى الكلب نفسه أسداً!
[email protected]