#لغتنا_الجميلة
د. #هاشم_غرايبه
إن جمال اللغة العربية يتجلى في سعة استعمالات الألفاظ، وأجملها وأبلغها ما جاء في القرآن الكريم.
لو أخذنا استعمالا ت لفظة (الرؤية) في كتاب الله، سنجد لها استعمالات شتى، وكل أدى المعنى المختلف ببلاغة ودقة.
ففي قوله تعالى في سورة التكاثر: ” كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ .
وفي الرؤية الثانية كانت الرؤية العيان يوم القيامة، وحينها يوقن بها الناس جميعا، سواء من صدّق بها في حياته الدنيا أو كذّب، لكن هذا لا يعني المساواة في مصير الطرفين، فمن أيقن بوجودها واتقاها ينجو منها، وأما من تأخر يقينه الى أن رآها عيانا سيصلاها.
الرؤية أساساً متعلقة بحاسة البصر، وتتم بانطباق صورة المرئي على شبكية العين، لكن النظر هو آلية استعمالها، أي توجيه العين نحو المراد رؤيته مع فتح الجفنين، وقد تتحقق الرؤية أو لا تتحقق لموانع متعددة مثل انعدام الضياء الذي بانعكاسه على العين يتحقق الإبصار، ثم انتقال الصورة الى الدماغ عن طريق العصب البصري تتحقق الرؤية، وبمطابقة الصورة مع ما يماثلها في الذاكرة يتم تفسير هذا المرئي ويدعى ذلك الإدراك، لكن إن تعطلت واحدة من الآليات الآنفة فلا تتم الرؤية، فيقال عندها: أمعنت النظر لكني لم أر الشيء.
الإدراك إجراءات متسلسلة تتم عقليا، لكن منشأها حسي، وطريقه أحد الحواس الخمس، وإحداها البصر، ويتم بمطابقة الصورة ما يماثلها في قاعدة البيانات (الذاكرة) المخزنة في كل فرد.
استعمالات الرؤية في كتاب الله جاء واسعا، فقد جاءت أحيانا بمعنى استعمال حاسة البصر: “فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا” [النمل:44]، فقد نظرت بلقيس الى الصرح الممرد، ولأنها رأته شيئا صافيا، دلها إدراكها الخاطئ أنه ماء، فالخطأ كان في الإدراك، عند مطابقة الصورة مع ما يماثلها في الذاكرة لتفسيرها.
وقد تكون بالإدراك العقلي من غير اللجوء الى استخدام حاسة البصر، مثل قوله تعالى: “أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكذّبُ بِالدِّينِ” [الماعون:1]، فالرؤية هنا تكون تصورا لموقف.
وتكون بمعنى التخيل : “أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيل” [الفيل:1]، فهذا سؤال عن حدث حصل في زمن قديم ولا يمكن أن يكون المخاطب قد رآه، لكن التساؤل هنا جاء للقطع بصدقية الحدث كون راويه هو الله، بحيث تكون الثقة بحصوله بدرجة رؤيته له.
وعندما تأتي بتصور الرؤية لحدث جلل يفوق هوله كل وصف، وسيحدث في زمن قادم: “وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ” [الأنعام:27]، وجاء فعل الرؤية هنا مسبوق بـ ( لو) الشرطية، لكن الجواب هنا المفترض أن يكون: لقلت كذا أو فعلت كذا، حذف، وفي ذلك قمة البلاغة في ترك الخيال مفتوحا لتصور كل الإحتمالات، لأن ما سيحدث يجل عن الوصف وتقصر اللغة عن بيانه.
وقد تكون بالتفكُّر والرأي، كما في قوله تعالى: “قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ” [غافر:29].
وقد تكون بما يعقله الفؤاد، مثل قوله تعالى: “مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى”.
وقد تكون الرؤية هي رؤيا في المنام: “قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ”، وفي هذه الآية جاءت استعمالات متعددة: معنى (أرى) هنا هي رؤيا المنام التي تعتبر للأنبياء إيحاء من الله وليست أضغاث أحلام كما هي لعامة البشر، أما (فانظر) فقد جاءت بمعنى التفكير فهي عملية عقلية وليست رؤية بصرية، وجاءت (ماذا ترى) سؤالا عن الرأي، وهو أيضا ليس حسّيا بل قرار ناتج عن تدارس للموضوع عقليا.
ومن أبلغ ما جاء باستعمالات الرؤية أيضا قوله تعالى: “وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ” [الأعراف:198]، فجاءت (تراهم) بمعنى تجدهم، و(ينظرون) بمعنى يوجهون عيونهم، و(لا يبصرون) بمعنى لا يدركون ما يرونه، وبذلك نفهم مدلولات الألفاظ الثلاثة: الرؤية والنظر والبصر. مقالات ذات صلة الأردن والنظام الجديد في دمشق 2024/12/11
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: هاشم غرايبه قوله تعالى وقد تکون
إقرأ أيضاً:
أغير من صديقة لأنها أجمل مني.. فهل هذا يعني أنني أحسدها؟ شيخ الأزهر يرد على سؤال طفلة
صدر حديثاً الجزء الثانى من كتاب "الأطفال يسألون الإمام" لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، والذى أتيح للجمهور بجناح الأزهر بـ معرض الكتاب فى نسخته الماضية، ويتضمن أسئلة كثيرة تدور في ذهن الأطفال الصغار لا يستطيع الكبار الإجابة عنها أحيانًا، ظنًّا منهم أنَّ تلك الأسئلة مسيئة للعقيدة، ويطلبون منهم التوقف عن ذلك، جاءت فكرة هذا الكتاب الذي جمع فيه أسئلة الأطفال ليجيب عنها فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر بنفسه ليرشدهم، ويعلمهم صحيح دينهم، وتكون رسالة تربويَّة لأولياء الأمور توجههم إلى أهمية الانتباه إلى أسئلة أبنائهم الصغار، والإجابة عنها بعقل متفتح؛ بل وتشجيعهم على التفكير والتدبر في أمور العقيدة وغيرها من الأمور في الحياة.
وكان السؤال:
أشعر بالغيرة من صديقة لي؛ لأنها أجمل مني.. فهل هذا يعني أنني أحسدها ؟ وهل سيحاسبني الله على ذلك ؟
وجاء الرد كالتالى:
اعلمي يا ابنتي أن التفاوت بين البشر أمر طبعي، وهذا التفاوت قد يتخذ أشكالا متنوعة؛ فهناك تفاوت في الأعمار والأرزاق والفهم والثقافة، وكذلك في الأشكال والصفات، والله عز وجل له حكمة بالغة في هذا التفاوت؛ ليرى الإنسان نفسه في حالة نقص واحتياج إلى الله تعالى، وكذلك لغيره من البشر.
وعلى هذا يا ابنتي فإن رؤيتك لصديقتك أنها أجمل منك لا يعني أبدًا أنها أفضل منك، ولكن منحها الله تعالى تفضيلا في جانب ما ، وليس مجرد نظرك إليها على أنها أجمل منك يكون حسدًا ؛ لأن الحسد معناه تمني زوال النعمة عن الغير، فإذا كنت تستكثرين عليها عطاء الله وتتمنين أن يزول جمالها فهذا حسد منهي عنه، أما مجرد المقارنة فهذا ليس حسدًا ، ولن يحاسبك الله عليه طالما لم يتحول إلى سخط أو كره أو كلام يدخل في الغيبة والنميمة، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن مجرد حديث النفس لا يُحاسب عليه الإنسان، فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا َوسْوَسَتْ، أَوْ حَدَّثَتْ به أنْفُسَها ، ما لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ .
ولا بد من التذكير بأن الله تعالى لا ينظر إلى الشكل وإنما إلى القلب والعمل، وهنا أقدم لكم أبنائي وبناتي نصيحة مهمة لكل من يشعر بمثل هذا الشعور : توقفوا عن هذه المقارنات الجوفاء، وانظروا إلى نعم الله تعالى عليكم، فربما منح الله إنسانًا شكلا حسنًا وابتلاه بشيء آخر، وآخر منحه الله شكلاً غير حسن لكن عافاه من أمور أخرى، فكل إنسان خلقه الله في أحسن تقويم ومنحه من العطايا والنعم الكثير، مهما كان شكله أو لونه أو مستواه، والتكريم حاصل لكل بني آدم فلا تنظري لنفسك على أنك أقل من أحد بل أنت مكرمة بنعم كثيرة من الواحد الأحد .