صلاح شعيب

هل هناك تأثير واضح للطبقة الوسطى المستنيرة الآن في الرأي العام المختطف بواسطة المؤيدين للحرب أم أنها تعايش بياتاً شتوياً ستنهض منه في حال توقف الحرب وبقاء السودان موحداً؟ وهل يمكن القول إن اليمين والوسط والدهماء هم اللذين يمتلكون الآن زمام الميديا الحديثة باعتبار أنهم ورثوا الدور الذي كان يقوم به اليسار والوسط المستنيرين على مستوى الموصلات الإعلامية التقليدية بالإضافة إلى حيازة الجبهة الثقافية التي قاسمها مع المستقلين وتيار الوسط؟ وإلى أي مدى يمكن ملاحظة نفاذ عمل الطبقة الوسطى التي لعب اليسار خصوصاً دوراً مهماً في التأثير عليها على ناحية تشكيل الحاضر وخلق المستقبل السوداني؟ وهل انتهت منظمات المجتمع المدني التي كانت مشاركة بين اليسار الماركسي، والعروبي، والمستقلين، والليبراليين الجدد، إلى مجرد اسماء لجهات عمل لا تأثير عملي لها على أرض الواقع؟ الأكثر من ذلك هل انتهى دور صحافيي وإعلامي الطبقة الوسطى الديمقراطيين الذين كانوا يسيطرون على هذه الأجهزة، وبالتالي دانت السيطرة لأجيال جديدة قبضت على مفاصل مادة الملتيميديا الرائجة بينما لاحظنا تراجعاً لدور رموز هذه الطبقة بعد تاثير الإنترنت السالب على الصحافة الورقية، والإذاعة، و"المقال الصحفي الاحترافي"، والمادة التلفزيونية، كمثل التي كان حمدي بدر الدين يدخل بها كل بيت؟ بطبيعة تشابك هذه الأسئلة بخلفيات مجتمعية متعددة لا يجيب المقال عليها تماماً بقدر ما أنها تحفزنا للتفكير جميعاً في مراجعة مجمل دور الطبقة الوسطى اليسارية والمستقلة التوجه في قراءة التحولات العميقة التي أحدثتها فترة الثلاثين عاماً الماضية في البلاد، وكذلك وجود نهوض حركات سياسية مطلبية حولت السياسي المركزي إلى جهوي.

والأمر الثالث هو بروز الإنترنت الذي قلب الموازيين في كل محفل إنساني، وهناك العامل الرابع المتمثل في إفرازات الحرب التي خلقت، وخلفت، استقطاباً سالباً ألقى بظلاله على تفكير، ونفسية المثقفين الذين حملوا عبء الثورة على البالي من القيم الاجتماعية. وهم أنفسهم المثقفون الليبراليون الذين حلموا بالدعوة لسودان موحد يقوم على هدى الدولة الوطنية، وآمنوا بأهمية تحديث الأفكار، والإبداعات، بناءً على الاستلهام من المعرفة الإنسانية، وتجارب الأمم التي سبقتنا في التقدم. أمر آخر يمكن ملاحظته أن الطبقة الوسطى بتعريفها الموضح كانت تنتج الغناء، والعمل المسرحي، والدرامي، وتوظف معارض فن التشكيل، وحضورها في المؤسسات التعليمية. ولكنها الآن بعد ضمور فاعلية الدولة أزيحت بوجود نجوم جدد في مجال الغناء، وانتهاء تأثير المسرح والدراما قياساً بمرحلة الثمانينات، وضمور تأثير معارض التشكيل، وغياب الأصوات النقدية التي كانت تحمل بجانب تقديم الأعمال الجديدة رؤى، وأفكاراً، استنارية متقدمة. أزعم، ونحن نناقش دور الطبقة الوسطى اليسارية والليبرالية والمستقلة في السودان، أن المشكلة عالمية، وذلك من خلال متابعاتنا اللصيقة لدور اليسار الأميركي، وحضور نديده على مستوى المركزية العربية والعالم الثالث في العقدين الأخيرين اللذين أوجدا تحولات خطيرة للإنترنت، وبروز أجيال جديدة مُنحت فرصاً للتعبير الحر، وامتلكت الثقة الزائدة في إحداث قطيعة مع جيل الآباء الذي لم يجب على تساؤلات الحياة العصرية بشكل جامع. وطبعاً، يتفاوت حلم الجيل الأميركي مع نظيره العربي والأفريقي والعالم ثالثي. ولكن جوهر الاتفاق وسط هذه الأجيال المتباعدة حضارياً، وجغرافياً، هو محاولة الخروج عن التنميط الفكري والثقافي والفني الذي سعت إليه هذه البلدان التي كانت تحتكر نخبها الوسطى أدوات الثقافة، والفن، والمعرفة. فسبل التعبير الفكري، والسياسي، والإبداعي، والإعلامي، لم يكن متاحاً للشباب في الماضي بمثلما هي قد وصلت درجة لا متناهية من الوفرة. بل صار المواطن هو مركز بذاته في عملية الإنتاج الإعلامي القادر على التواصل مع العالم جميعه، وليس القطر فحسب. طبقة السودان الوسطى بيسارها، ووسطها، وليبرالييها، فقدت في زمن الإنقاذ مزايا الإنتاج الإعلامي، والإبداعي، بسبب إحلال دورها بطبقة وسطى جديدة يمينية وانتهازية سيطرت على كل مناحي الحياة، وكان هذا التضييق قد مثل الضربة القاضية للاستنارة السودانية. ومع ذلك حاولت هذه الطبقة المقاومة من خلال الإنترنت الذي ساعدها في إسقاط النظام بدعم حراك ثوري شبابي عرف كيفية استغلال أدوات التواصل الاجتماعي. ولكن استدار اليمين الإسلاموي، ووظف أمواله المنهوبة لضرب الثورة إعلاميا حتى أسقطها. ولاحقاً أوجد حربه التي أدارتها غرفه السرية حتى عجزت الطبقة الوسطى بطموحاتها التقدمية في مجاراة هذا الطوفان الإعلامي المؤيد بشدة للحرب، واستمرارها والذي قبض على روح الميديا الحديثة. أمام التخوين الكثيف لقوى الثورة التي تشكلها هذه الطبقة الوسطى، ومحاولات ابتزازها، وتشويه سمعتها بشكل ماكر، ومستدام، استطاعت الطبقة الوسطى الميزانية بدعم انتهازييها أن تحقق تقدماً في الإعلاء من قيمة استمرار الحرب. وساهمت كذلك في إسكات أصوات السياسيين، والمثقفين التقدميين، والليبراليين، ومطاردة بعضهم في الحيز العام، والاعتداء عليهم إذا دعا الحال. بجانب كل هذه الأسباب الموضوعية التي واجهت الطبقة الوسطى المستنيرة وحرمتها من الفاعلية الآن فإن هناك عوامل ذاتية تتعلق بعدم قدرتها على تجديد أفكارها، والتعامل بشكل جيد عند لحظات الموازنة بين المواقف التكتيكية والإستراتيجية. فالحقيقة أن الأفكار السياسية والإبداعية والفنية لهذه الطبقة لم تعمل على مراجعة عملها بشكل صادق ينعكس على مستوى حضورها النافذ في الواقع المجتمعي. ولذلك لم تستطع هذه الأفكار استقطاب الشباب في المدن والأرياف في وقت انفتحت أمامه فرص واسعة للتلقي المؤثر، وحررته من الالتزام بكثير من القواعد التي قام عليها شغل الطبقة الوسطى السياسي، والإعلامي، والفني. العشم الكبير أن تعود الفاعلية للطبقة الوسطى المستنيرة، وهي أكثر قدرة على مراجعة الماضي من إستراتيجياتها الفكرية، والسياسية، والثقافية، والإبداعية، والنقدية، في حال توقف الحرب. ذلك أن مراجعة حضورها الباهت الآن أمام منازلة دعاة الحرب ينبغي أن يحملها على استعادة وحدتها الثورية حتى لا تندم على تلاشيها للأبد مع الوطن الواحد.

suanajok@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الطبقة الوسطى هذه الطبقة

إقرأ أيضاً:

دين وقضايا المجتمع الراهنة – قراءة في المشهد السوداني المعاصر

زهير عثمان

تعكس الحالة الفكرية السودانية اليوم تعقيدات تاريخية وسياسية واجتماعية متداخلة، يغذيها إرث من الأيديولوجيات المتصارعة والتحديات الراهنة، أبرزها الحرب والتيارات الدينية المتشددة. يتطلب هذا الواقع قراءة معمقة لفهم الجذور والمآلات، خاصة في ظل التباينات بين الطروحات الفكرية وأثرها على تشكيل المجتمع والدولة.
أثر الأيديولوجيات في السودان و انكسار الأحلام الثورية
كما في الدول العربية الأخرى، شهد السودان تجارب حزبية وأيديولوجية استندت إلى رؤى ثورية تحررية. من الحزب الشيوعي إلى الحركات القومية والإسلامية، مرت البلاد بفصول من التنافس الأيديولوجي الحاد. ركزت هذه التيارات على بناء "الدولة الحصينة" أو "الدولة الإسلامية"، إلا أن النتيجة كانت سلسلة من الإخفاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
افتقرت هذه المشاريع إلى رؤية تنموية شاملة، مما جعل السودان، رغم موارده الضخمة، يعاني من الفقر والتخلف. في النهاية، أصبحت الأيديولوجيا أداة للسيطرة بدلاً من التحرر، حيث ركزت القوى الحاكمة على البقاء في السلطة بأي ثمن.
الدين والسياسة - علاقة معقدة ومأزومة
علاقة معقدة ومأزومة
منذ استقلال السودان، كان الدين عاملاً رئيسياً في تشكيل الهوية السياسية والثقافية للبلاد. استخدمته بعض التيارات كأداة لتحقيق الهيمنة السياسية، مما أدى إلى استقطاب حاد داخل المجتمع.
الحركات الإسلامية، على وجه الخصوص، قدمت نفسها كبديل للمشاريع العلمانية واليسارية، لكنها عانت من فشل في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية. تفاقمت الأمور مع صعود التيارات المتشددة، التي حولت الدين إلى مشروع أحادي يهدف إلى تهميش الآخر وإقصائه.
ومع ذلك، ظل التصوف الشعبي يمثل ملاذاً روحياً للكثير من السودانيين الذين وجدوا فيه قيم التسامح والتعايش بعيداً عن الصراعات الأيديولوجية. في المقابل، ظهر التصوف الصفوي بين المثقفين كحركة تحاول إعادة تأطير الروحانية السودانية في سياق فلسفي وحداثي، مما أكسبه جمهوراً جديداً بين النخب الثقافية.
وفي السنوات الأخيرة، برزت ظواهر جديدة من بينها الإلحاد كحالة احتجاجية من بعض الشباب ضد هيمنة الخطاب الديني التقليدي. إلى جانب ذلك، شهدت البلاد انتشاراً لفكر "الوجوديين الجدد" الذين تأثروا بالعولمة وأيديولوجيات الانتماء للإنسانية بدلاً من الإيمان برب أو إله، حيث يعتبرون التجربة الروحانية الفردية وسيلة لاستكشاف الذات بعيداً عن القوالب الدينية التقليدية.
الحرب والمجتمع و تمزقات وآفاق
الحرب الحالية في السودان ليست مجرد صراع على السلطة، بل هي نتاج لعقود من السياسات الإقصائية والفشل في بناء دولة وطنية جامعة. الحرب عمقت الانقسامات العرقية والدينية، وأصبحت مسرحًا لتجاذبات إقليمية ودولية.
في ظل هذا الوضع، يجد المجتمع السوداني نفسه عالقًا بين قوى الحرب والتيارات الدينية المتشددة، التي تحاول استغلال النزاع لتعزيز أجنداتها.

أفق الحل-نحو خطاب فكري جامع
تجديد الفكر الديني , لا يمكن تجاوز الأزمة السودانية دون مراجعة الفكر الديني. يحتاج السودان إلى خطاب ديني مستنير يعزز قيم المواطنة والتسامح، ويبتعد عن التوظيف السياسي للدين.

المصالحة الوطنية -يتطلب إنهاء الحرب حوارًا شاملًا يجمع جميع القوى الوطنية، بما في ذلك التيارات الإسلامية المعتدلة، لبناء عقد اجتماعي جديد.

إعادة بناء الدولة -يحتاج السودان إلى دولة مدنية قوية، تعيد الاعتبار للمواطنة وتحقق التنمية الشاملة. يتطلب ذلك تفكيك منظومات الفساد والاستبداد التي أرستها الأنظمة السابقة.

في ظل هذه التحولات، يظل مستقبل السودان مرهونًا بقدرته على تجاوز انقساماته الفكرية والسياسية. الدين، كما الحرب، يمكن أن يكون قوة هدم أو بناء، ويتوقف الأمر على مدى وعي المجتمع وقادته بضرورة بناء دولة حديثة تعترف بتعددية أبنائها وتعزز قيم العدل والمساواة
هذا الطرح ليس مثاليا ولكنه واقعي ومعقول في ظل الظروف الحالية بالسودان .

zuhair.osman@aol.com  

مقالات مشابهة

  • رسميًا الآن| تراجع سعر الدولار في البنوك اليوم السبت 11-1-2024 إلى هذا المستوى
  • رسميا الآن.. تراجع سعر الدولار اليوم 10-1-2024 في البنوك
  • الأمم المتحدة تحذر من تأثير سوء التغذية الحاد على أكثر من 3 ملايين طفل سوداني
  • دين وقضايا المجتمع الراهنة – قراءة في المشهد السوداني المعاصر
  • هذه الأثمان الباهظة التي يدفعها الاحتلال بسبب استمرار الحرب في غزة
  • روان أبو العينين تكشف التحديات التي تواجه إدارة «ترامب»
  • عاجل. زلزال بقوة 6.1 درجة يضرب السلفادور في أمريكا الوسطى حسب معهد الأبحاث الألماني للجيولوجيا
  • تأثير القلق على الجهاز المناعي والأضرار التي يسببها
  • تآكل الدماغ مصطلح أكسفورد الذي يكشف تأثير العصر الرقمي في عقولنا
  • المطلوب من أمريكا، التعامل مع مصدر الأسلحة التي تقتل الشعب السوداني