عبد المنعم عجب الفَيا
مقدمة:
هذا فصل من كتاب (أوهام النخبة أو نقد المثقف) لمؤلفه استاذ الفلسفةاللبناني، الدكتور/ على حرب. عنوان الفصل "سلطة المثقف"، :
**
"لا يتوقف المثقف عن إعلان استقلاليته عن الدولة واجهزتها، أو عن السلطة واغراتها. فهو بتعامله مع نفسه كمسؤول عن القيم والحريات، يعتبر انه يؤدي مهمته بالوقوف في صف المعارضة أو باستعمال سلاح النقد، لتعرية ما تمارسه الدول والأنظمة والسلطات، من أشكال التفاوت والقهر والاستغلال، أو لفضح ما تخفيه من اليات التمويه والتلاعب بالحقايق والوقايع.
طبعا، هذا ما يقوله لنا المثقف أو ما يصرح به في مضمون خطابه. ولكن الخطاب هو دوما غير ما يعلنه. انه يحجب الواقعة الأساسية التي ينشيها فيما هو يتكلم عن أشكال التسلط أو عن اليات التلاعب بالحقيقة، أعني انه يخفي حقيقته وسلطته، ويتستر على فعله وأثره، ويتناسي مخاتلته والاعيبه. وهكذا فالمثقف يعلن انحيازه إلى المقهورين في مواجهة سلطة القهر، فيما هو يشكل سلطته ويمارس سيطرته، أو يعلن ان شاغله هو كشف الحقائق، فيما يصنع حقيقته عبر نصه وخطابه، أو هو يحدثنا عن حلمه بمجتمع تنويري تحرري قايم على المساواة، فيما هو يمارس نخبويته ويحجب ارادته في الفرد والتمايز.
صحيح ان سلطة المثقف هي من نوع آخر، بمعنى أنها ليست سلطة مادية أو اقتصادية، بل هي سلطة رمزية، اي سلطة الكلام والكتابة، مقابل سلطة السيف والمال. ولكنها سلطة في النهاية، تمارس على النفوس والعقول، بواسطة المنتوجات الرمزية المتمثلة في الأفكار والمعارف، أو في العقايد والطقوس، أو في الشهادات والالقاب. والسلطة الرمزية تمارس على هذا النحو منذ زمن العراف القديم الي زمن المثقف الحديث، مرورا بالكهنة والقساوسة، فضلا عن الفقهاء الذين برزوا مجددا على المسرح، بعد أن همش دورهم لصالح المثقف الحديث ذي الجذر الليبرالي أو القومي أو الماركسي.
ومعنى ذلك، كون أن المثقف يملك سلطته الخاصة به، هو أن الصراع بين المثقف والسياسي، أو بين الكاهن والحاكم، أو بين الفقيه والسلطان، ليس مجرد صراع بين المعرفة والسلطة، أو بين المعنى والقوة، أو بين القيمة والمنفعة، وإنما هو صراع على المشروعية، اي على احتكار الحق في قول ما هو حقيقي وحق، أو حول تحديد ما هو سوى وشرعي، أو مباح وجايز ، أو تحديد ما هو عكس ذلك، وخلافه.
السلطة الرمزية التي يمارسها المثقفون، لا تعدو كونها مهنة ومصلحة. وهي ككل مهنة لها أصولها وقواعدها، ولها عدتها وراسمالها، ومن ثم لها منتوجاتها واسواقها، ولها منافعها واستثماراتها. فالكاهن والفقيه والمثقف، كل واحد من هؤلاء، يوظف راسماله الرمزي، المتمثل في عمله وخبرته، أو في منصبه ولقبه، أو في مقدراته الكلامية والخطابية، يوظفه في ممارسته لمهنته التي تدر عليه منافع معنوية ومادية، تتمثل في السلطات والخيرات، اموالا ونقودا أو جاها ونفوذا.
طبعا ان المثقف يقدم نفسه، عادة، بوصفه صاحب رسالة، وليس صاحب غاية خاصة أو منفعة مباشرة. فهو يعلن انه لا يبتغي سلطة، وانما يدافع عن القيم والمقدسات. وهنا وجه الخداع والمختالة. فمهنة المثقف هي مهنة قوامها ان تخفي حقيقتها، اي كونها تشكل مهنة ومصلحة، أو تعمل على تشكيل سلطة خاصة. وهكذا فالمثقف يزاول مهنته متلبسا عباية الرسالة، ويؤدي دوره تحت غطاء القداسة، معتبرا انه يدافع عن القيم العليا، متوهما انه ينطق باسم المشروعية الحقة المتمثلة بالحفاظ على الهوية والذاكرة والثقافة والأمة. ولكن تحت الترفع ثمة موقع راسخ، وورا التجرد هناك مصلحة ومنفعة، وبعد التضحية ثمة سلطة هي سلطة الفكر والكلمة.
من جهة أخرى، لا يشكل المثقفون مجتمعا مثاليا تحكمه مبادئ العقلانية وقواعد الفضيلة. فهم شانهم شان أصحاب المهن الأخرى، لهم حسناتهم ومساويهم، وقطاعهم المجتمعي أو حقلهم الإنتاجي شانه شان بقية الحقول والقطاعات، هو مجالس للتنافس والنزاعات، وبورة للضغوطات والتواترات. إنه حقل صراع بين العاملين والمنتجين، على امتلاك السلع الرمزية واستخدامها في تحقيق المكاسب وتوسيع النفوذ. ومعنى ذلك ان العلاقات داخل هذا الحقل الثقافي هي علاقات قوة، اي علاقات بين قوى وتجمعات لا تخلو من بربرية الغاب وفاشية العصبيات، وعقلية المافيات الحديثة، فضلا عن النرجسية التي يتمتع بها المثقفون، لاعتقادهم في أفضلية العمل الفكري على العمل اليدوي.
هكذا فالمثقف يزعم بأنه يعمل على مقارعة السلطة السياسية، فيما هو يعمل على منافستها على المشروعية. وهو يدعي القيام بتنوير الناس وتحريرهم، فيما العلاقات بين المثقفين ليست تنويرية ولا تحريرية، بل هي علاقات سلطوية، صراعية، سعيا ورا النفوذ، أو بحثا عن الأفضلية، أو تطلعا إلى الهيمنة والسيطرة. واخيرا، المثقف يدعي التجرد والنزاهة والانسلاخ، دفاعا عن قضية الأمة ومصالح الناس، فيما هو يمارس مهنته ويدافع عن مصلحته، أو يلعب لعبته ويجرب فكرته. إنه يدعوك إلى التحرر من سلطة راس المال، في حين هو يراكم راسماله ويثبت سلطته. ويقول لك ان الارتهان لغير الله مذلة أو عبودية، فيما هو يجعلك اسير كلامه ورهن ارادته. وهذا ما يفسر لنا كيف ان معظم مشاريع التحرير، آلت إلى نشوء أنظمة ذات طابع استبدادي، أو شمولي، أو فاشي، أو عنصري اصطفايي.
هذا النقد للمثقف يحمل على تجاوز ثنائية المثقف والسلطة، على نحو يتيح وضع المثقف والسياسي في سلة واحدة: كلاهما يسعى على طريقته باستخدام راسماله، إلى احتكار المشروعية، اي حق تعيين الأمر والشي المشترك الذي يجتمع عليه العموم. وكلاهما يصدر عن اعتباط عند اخذ الخيارات وترتيب الأولويات وتقويم الوقايع، إذ لا تقويم ولا ترتيب من دون استبعاد أو تهميش أو تعتيم. وكلاهما يمارس التلاعب والتمويه في حقله وميدان عمله، إذ لا سلطة تمارس دون حجب أو تمويه، أكانت مادية ام رمزية. واخيرا كلاهما يمارس التسلط والعنف: التسلط على الأجساد مقابل التسلط على العقول، والعنف المادي مقابل العنف الرمزي الذي يمارسه المثقفون العقايديون والملتزمون، بعقليتهم القايمة على الحصر والاستبعاد، أو على التصنيف والادانة.
فليتعرف المثقفون انهم ليسوا قدس الأقداس ولا رسل الهداية والحقيقة. ولم يعودا ملح الأرض، كما يعترف أحد ابرز المثقفين في هذا العصر (ريجيس دوبريه). إن المثقفين هم أصحاب سلطة ومصلحة، وذو مواقع ومنافع، وهم يشكلون مجموعات لا تحسن سوى ممارسة نخبويتها ونرجسيتها. فلا ننخدعن بالخطاب: إنه يسدد المعنى في جهة، ولكنه يخرقه في جهة أخرى، يحارب اشياء على صعيد، لكي يستعيدها على صعيد اخر. والمشروع الماركسي، كمشروع تحريري، شاهد كبير على ذلك. فهو باسم محاربة استغلال راس المال وسلطته وعنفه، عمل على تكوين راسمال عقايدي مارس من خلاله امبرياليته الفكرية وعنفه الرمزي، على نحو مضاعف، وذلك بقدر ما حجب حقيقته، اي كونه يشكل سلطة ونوعا من انواع راس المال. وهذا شان السلطات الرمزية، عند استلامها السلطة السياسية: انها تمارس التسلط والعنف اضعافا مضاعفة، على ما تشهد بذلك اليوم، الاصوليات المقدسة.
بهذا المعنى يمكن القول بأن السياسي المحترف، هو أقل من المثقف ممارسة للعنف، واقدر منه على تسيير الأمور وتدبر الشؤون العامة. فالنموذج السياسي، ايا كانت شهوته للسلطة، أو ارادته للمحافظة عليها، يقبل إجمالا المداولة والمفاوضة ويتسم بقدر من الحيلة والمرونة، ويتوسل بالقوانين والأنظمة، وياخذ بالاعتبار المصالح المشتركة والمنافع العامة. أما النماذج العقايدية والطلايع المتقدمة والنخب المثقفة، فقد ترجمت أفعالها عزلة وهشاشة، مظهرة عجزها عن قود المجتمعات نحو الترقي أو التقدم أو التنمية. إنها عادت بالأوضاع القهقري، وقادت البلاد والعباد نحو الخراب والهلاك. وجعلت الشعوب رهاين لعقايدها ومشاريعها المستحيلة.
هذا ثمن النخبوية الحزبية والنرجسية الثقافية والطوباوية العقايدية. وهذا ثمن التشبث بالثوابت المطلقة، والنطق باسم المشروعية العليا للأمة، أو خلع القداسة على الأفكار والأحداث، أو على الأشخاص والأفعال، على ما مارس المثقفون مهامهم في مواجهة السلطات والأنظمة في البلاد العربية والاسلامية: لقد آلت مشاريعهم ومساعيهم اما إلى فقدان مشروعيتها ، أو إلى تهميش دورهم، أو إلى فشلهم واغترابهم عن الواقع، أو آلت بالعكس إلى التحاق المثقف بالسلطة، لا كمستشار يقدر ويقيم، أو ينصح ويسدد، بل كموظف أو كواجهة ثقافية أو كزينة فكرية. وأما الذين قدر لهم ان يتسلموا مقاليد الأمور، فقد مارسوا الحكم باسوا أشكاله.
على كل حال، هذه خصال المثقف الرسولي وأفعاله، في غير مكان من العالم : انه لا يحسن سوى الخراب والدمار بثوابته المطلقة واقانيمه المقدسة. فمشكلة المثقف هي عجزه عن فهم العالم، وفشله في التعاطي مع الوقايع، اي في أنماط الرؤية القاصرة، ونماذج العمل العقيمة. باختصار مشكلة المثقف هي بالدرجة الأولى في أفكاره فليس له، والحال هذه، سوى فض الاشتباك بينه وبين المقولات التي يعتاش عليها، والتخلي على الاقل عن لغته المتحجرة في قراءة الأحداث والتعاطي مع العالم".
انتهى.
المصدر :
على حرب، اوهام النخبة أو نقد المثقف، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة ٢٠٠٤، ص ٥٦ الي ص ٦٠
abusara21@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
القومي: لإيجاد سلطة منبثقة عن إرادة السوريين تحكم البلد
شدد الحزب السوري القومي الاجتماعي، في بيان اليوم الاثنين، على "وجوب العمل نتيجة، سقوط النظام السابق، على إيجاد حل مقبول ومناسب لكلّ أبناء الشعب في الشام، عبر إيجاد سلطة منبثقة عن إرادة السوريين أنفسهم، تحكم البلاد وتحافظ على وحدة أراضيها ومجتمعها ومصالحها وتحفظ المؤسسات وترسخ مفهوم المواطنة والدولة الوطنية. كما تحدد لنفسها بوصلة واضحة وثابتة هي فلسطين". وفي بيانه، قال القومي: "من واجب كل القوى الوطنية، وكل مواطن سوري، العمل على مواجهة الاجتياح اليهودي للجنوب السوري، دفاعا عن الأرض والوطن والشعب، والذي لا يمكن له أن يتحرر من دون عقيدة قتالية تكون أساسا لجيش وطني يحفظ الدولة ويحمي أراضيها وشعبها ومؤسساتها". وأكد أن "مؤسسة الحزب السوري القومي الاجتماعي قائمة على عقيدة عمرها 93 عاما تتجاوز فيها أي منظومة، وغير مرتبطة بسلطة أو دولة، حيث يستمد الحزب حضوره وشرعيته من نضالات القوميين وأبناء شعبنا وهو باق ومستمر على نهج سعاده"، لافتا إلى أن "وجود الحزب السوري القومي الاجتماعي لا يرتبط بسقوط النظام في الشام، فالحزب تأسس قبل وجود النظام نفسه"، وقال: "اتسمت السنوات الأربع الأخيرة قبل سقوطه بانقطاع العلاقة مع حزبنا ومعاقبة مسؤوليه والتضييق على القوميين في الشام. كما ساهم النظام في شق مؤسسات حزبنا وشرذمتها". ودعا "السوريين القوميين الاجتماعيين في الشام إلى العمل تحت سقف نهج وفكر أنطون سعاده عبر ترسيخ مفهوم وحدة المجتمع وحفظ المؤسسات العامة وصيانتها ومنع أي تعد عليها ونبذ الخطاب الطائفي والتعاون مع القوى التي تكفل تحقيق مصلحة الدولة والشعب وحماية المواطنين والممتلكات". كما دعا "الداخل اللبناني إلى تجنيب كل اللبنانيين مطبات الفوضى التي بدأت تظهر معالمها"، مطالبا بـ"عدم الرهان على ما يعتبرونه خسارة للمشروع الوطني المقاوم، تجنيبا للفتنة التي إن حصلت، ستطال نارها الجميع". وطالب أيضا "الدولة اللبنانية وأجهزتها العسكرية والأمنية بمنع أي تعرض أو استفزاز تسعى له بعض الرؤوس الحامية وغير المسؤولة لأي مكتب حزبي، والعمل على بسط الأمن وحرية التعبير تحت سقف القانون وحماية الممتلكات العامة والخاصة للحفاظ على وحدة البلد ودرء الفتنة".
كما أشار إلى أنه "يستمد روحه من زعيمه أنطون سعاده وتعاليمه، ويعتمد في ديمومته على حيوية القوميين الاجتماعيين ومشروعهم النضالي والجهادي والسياسي والإصلاحي".