المواطن لا يتضرر لأنه هو من قرر ألا تحكمه مليشيا وتنحل بلا عودة
تاريخ النشر: 11th, December 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم حاوره علاء حمزة
*المدني من يتضرر من الحرب، المواطن لا يتضرر لأنه هو من قرر ألا تحكمه **مليشيا وتنحل بلا عودة
**خلق اليمين واليسار من السياسة السودانية عالماً مانوياً (خير وشر) لا يحتمل وجوداً آخر غير وجودهما وحدهما
**إذا صدقنا بقولة فشل أكتوبر، استنسخناها بثورة 1985 ثم ثورة 2018.
**إذا اشتكى الشيوعيون من أن الجيش كان فظاً معهم فقد كان كذلك لأن دولة الكيزان، ككل دولة، جهاز لعنف طبقي الجيش أداته
**معارضة المقاومة على خلاف مقاومة النهضة كادرها المسؤول السياسي والتنظيمي والشاعر
– تلك الحــرب اللعيـنـة ازهــــد ما قيل عنـها حسـب إقرار مشعلوها إنها (حـرب عبثيـة) فالمتضــرر منـها المواطـن لأنها لا تبقـي ولا تــذر، ويتفق الكثيـر من الأطــراف والأطيـاف ان القصــد منهــا وأد الثورة علي طريقة إرهــاق الطرائـد لإيصالهــم لحـالة الوهـــن الثـوري ومـن ثم الاجهاز علي ما تبقي منـها وقطع الطريق عـلي جـذوتها المتقــدة. هل تتفق يا عزيزي والقول أعــــلاه؟
***هذه هي الحرب ويتضرر منها المدني لا المواطن. فاستباح الدعم السريع المدني وزين له مثل الدكتور النور حمد أن يفعل ويترك لأن الحرب “ما فيها يا زول بقول انت عورتني”. فإذا اغتصب بنتك أو أختك أو whatever فهذه هي الحرب الذميمة. غير أن المدني محمي بقانون الحرب الإنساني. المواطن الذي خرج بالثورة ليملي أرادته في سودان آخر غير متضرر من الحرب. هذه حربه. فهو من قرر أنه لا يريد أن يحكم بمليشيا، وأنها يجب أن تنحل، وأن يعود الجيش إلى ثكناته. كيف صار هذا الجيش “مليشيا إخوانية” في لمح بصر وكان أقصى مطلبنا منه أن يلقط كرعية ويعود إلى ثكناته؟ ومن خول لأي أحد أن يوقع ميثاقاً مع الجنجويد، التي تواضعنا على أنها لا تحكم دولة، لدور منتظر لها في دولة مدنية ديمقراطية قادمة؟ من يئد الثورة هنا؟ قال الطيب صالح لمنصور خالد حين “اختار جيش التحرير”(الحركة الشعبية) لقد اخترت طريقاً لا يرضاه لك أستاذك جمال محمد أحمد. واختارت تنسيقية القوى التقديمة والمدنية طريقاً لن ترضاه لنفسها بعد حين.
– هل تتفـق أن تلك الحــرب أهم حـدث ومنعطـف خطير يمر به الشعب الأمـة السودانيـة منذ حروبات المهـدية وسيترتب عليها إعادة تشكيل الوجدان السياسي السوداني من جديد؟
***ولهذا قيل الدولة تشن الحرب والحرب تبني الأمة. رغبنا أن نبنيها بغير حرب. ولكن غلبت الحرب المناطقية في صورة النضال الجيفاري المسلح لعقود. من من لم يخرج ليأخذ حقه بالسلاح وتناصرت معها صفوة كان الدس بين الأعراق مهنتها؟ وأخرج ذلك كله في خاتمة الأمر طاقة شريرة كالدعم السريع احتلت مركز الدولة. انقلب السحر على الساحر. ولكن أخشى أن يفوت درس هذه الحرب على القوى التقدمية والمدنية طالما ظلت على الضفة الخطأ منها. فلا أعتقد مما أراه في كتابات منها أنها فهمت درس المهدية بجعل دولة الإنقاذ نسخة معادة منها. كما لن تفهم الثورة إذا اكتفت منها بالثأر من الكيزان. هذه الحرب خرجت من الثورة وأي تحليل لها غير هذا غش في الإجابة. فحتى الكيزان المتهمين بإثارة الحرب للعودة للحكم هم مفردة في حقيقة خروج الحرب من الثورة.
– مـاذا يلـوح في الافــق، ما الذي أُسُتجــد وما الـذي يتراءي لناظريـك مما يخفي على انظـار النـاس جــراء غـبار هــــذه المقتـلة؟
***إذا انتصرت القوات المسلحة استنقذنا ما بقي من الدولة لنبني عليها. لو انتصر الدعم السريع فهذه هايتي أخرى. أي ليس ليبيا ولا سوريا. هايتي حيث صارت إلى دولة عصابات بعد انحلال الجيش منها بإرادة جماعة مثل تقدم كرهت انغماسه في السياسة والانقلابات فانتهزت سانحة تدخل أمريكي في هايتي في 1994 فتخلصت منه. وكما فعل معارضون في العراق بجيشهم. وحلت الندامة. عصابات طليقة اليد في هايتي. ومليشيات في العراق في طريقها لتوريط بلدها في حرب إقليمية. لسنا من بدأنا حل الجيش لأنه انقلابي دين كلب انقلابي. ولسنا آخر من سيندم على حله كما هو الرأي الغالب بين حداثي تقدم. وأخيراً ربما صلح متفاوض عليه من فوق كسب صريح للجيش على الأرض.
– عطفــاً عـلي موقــفك تحــديداً يتبــادر للذهـــن الجمــعي الآن العصبيـة والجهـوية التي استنها بــولاد في أدبيـــات السياســـة السودانيــة حينـما قـدم العـرق والـدم والــولاء القــبلي عـلي التنظيـم السياسـي ، فهــل انت نحــوت ذات المنحى في موقــفك ، هــذا إذا استصحبنا هـذه المقاربـة عطـفاً علي شعـار الخـلاص وتحطيـم دولـة سـت وخمسون وانت منهــم بالضرورة ،إن لم يـكـن إثنيــاً بالديمغـرافيـا والجـغرافـيا فأقـلها بحصــة انتسابك لـنخــب جـامـعة الخرطـوم النيلية ؟
****حيثياتي لموقفي هي ولائي للدولة الحديثة بتعريفاتها عند مثل ماركس وماكس فيبر. وخطاب قوى الحداثة (طالما قالوا عن خصمهم أنهم ظلاميون) الذي اطالعه خلو من فقه الدولة الحديثة. هجروا النص الحداثي وصاروا طاقة موغرة الصدر وغاية في السلبية في خصومة الكيزان . . . تاني. أي أنهم لا يحسنونها. استغربت للشيوعيين يشكون جور الكيزان وتوظيف الجيش للغاية. يقول الخواجات هنا da da da أي يا للبله! ماذا يقول ماركس عن الدولة؟ قال إنها جهاز عنف طبقي تديره عبر أدوات مثل الجيش وحتى القانون. فإذا اشتكوا أن الجيش كان فظاً معهم فقد كان كذلك لأن دولة الكيزان، ككل دولة، جهاز لعنف طبقي. وسألتهم يوماً ما هي الطبقة التي صعدت بالانقلاب في 89 إلى سدة الحكم. قالوا الكيزان. لكن الكيزان ما طبقة. الكيزان علامة سياسية. أو قالوا البرجوازية الطفيلية وهي عبارة نبذ أكثر من تحليل سياسي. ووجدتهم في بيان ما يشكون بالصوت العالي من دولة 56. فقلت: حتى أنت يا بروتس؟ فحزبنا من عارض دولة 56 حتى قبل أن تقوم في تاريخها المعلوم منذ نشأتنا في 1946 وخلال فترة النضال ضد الاستعمار والحكم الذاتي والاستقلال بديمقراطياته وديكتاتورياته. كنا رؤية بروليتارية على تضاد مستقيم مع رؤية النادي السياسي الحاكم مدنياً أو عسكرياً. أمال حلونا ليه في 1956؟ لأننا “….” في الجامع يعني. من جاء إلى نقد دولة 56 اليوم فهو مسبوق وعليه صلاة المسبوق.
-يزعم البعض أن الرجل مذ أن وطـأت اقدامه بـلاد الفـرنـجة وسطــوة اليـانكي فـارق محـطة الشيوعـية المتكلسة إلـي رحــاب النيو ليبرالية التي تسـود عالم الآن بينما يدحـض البعض الآخــر هذا الزعـم لأن الرجـل دأب عـلى التحديق خـارج الإطــار فكـان يقـــود هـــذا الخــط الإصـلاحي الحـداثوي حتى في ازمــنة عنفـوانه التنظيـمي وربمـا كان هــذا سـبب انزوائه فيما بعـد مع أسباب اخـري لا يتسع المكــان ولا الزمـان لذكــرها. لك ان تعـلل لكليهما إذا اتفقت في رصدهم لمسـارك اللولبي كما قــد زعمــوا؟
***لا أعتقد أن الشيوعية متكلسة. ثم أنا من مدرسة الشيوعية السودانية. وهذه، بفضل أستاذنا عبد الخالق محجوب، ماركسية من طراز فريد. ولم أغادر الحزب الشيوعي وحلفاءه في المعارضة من الحداثيين بعد قدومي لبلاد الفرنجة في 1980. فارقتهم في 1978. تفرغت وسطهم للعمل الثقافي وتحت الأرض لسبع سنوات فإذا بهم يصادرون لي كتاباً كنت طرفاً في تحريره لإصلاح تعليم الماركسية في الحزب. وعرفت أن مقامي ليس بين حارقي مقامي. شوف الما قام من حفيرتو دا وبيحرق في الكتب بالله عليك! وخلصت إلى أن حركتنا السياسة لا صبر لها على المثقف في بنيتها. وخرجت بمفهوم المعارضة المقاومة والمعارضة النهضة. فمعارضتنا منذ تلك التي صادمت نظام الفريق عبود معارضة مقاومة لم تستنهض همماً للتغيير من فوق رؤية مدروسة محصحصة. معارضة المقاومة كادرها المسؤول السياسي والتنظيمي والشاعر. والمعرفة فيها مُتربص بها ومصادرة. وأول من نقد مقاومة المعارضة كان استاذنا عبد الخالق محجوب في “الماركسية وقضايا الثورة السودانية” (1967). قال إن معارضتنا للنظام، على استماتتها وثمنها الفادح على الحزب الشيوعي، كانت معارضة إثارة. وانتبذت أنا منذ 1978 المعارضة وكتبت مقدمة لكتابي “عبير الأمكنة” (1988) عنوانها “في نقد الذهن المعارض”. ولم أكف منذ ذلك اليوم في التربص بهذا الذهن المعارض الذي قال ألكس دي وال أن الطاقة الوحيدة التي من ورائه هي طاقة احتجاج. وزاد قائلا وويل لبلد ليس في جعبته من طاقة سوى الغضب. لم تكن الثورة على نظام الإنقاذ بالثورة من خططي لأني كنت أخشى على الثورة والبلد من المعارضين الذين أعرف قصر نظر رؤيتهم. وكانوا موضع نقدي. وسموني “معارضة المعارضة”. وقامت الثورة وكانت معرضاً للعوار المعارض في الدولة. وكتبت يومياً خلال أيام الثورة أهاديهم، ولكنهم مكتولة لا تسمع الصائحة.
– احتفاء ســـدنة اليمين الهستيري بك كبطــل قومـي ومناضـل ثائــر هـل هــو نوع مــن الانتهازية المقيـتة لتحييدك أم لاستمالتك لجــهة أحــلاف جـديدة تخـدم أجنـدتهم وفي البال استقطابات يسارية اخري كأمـجد وسـاندرا وآخرين مقروءة مع نواب برلمان الإنقاذ الأربع ؟
من قال لك سمين قول ليهو يامين. إذا عدني اليمين بطلاً فليس لأنه يعشقني، بل ليغيظ اليسار. فخلق اليمين واليسار من السياسة السودانية عالماً مانوياً (خير وشر) لا يحتمل وجوداً آخر غير وجودهما: قحاطة وفلول بينما أرض الله واسعة. فأنا لا أعتد بعزيف اليمين ولا بنهزرة اليسار، ولا فاضي في البناء ولا في البجيب الطوب. كنت أقرأ في بوست على صفحة مجموعة ما عرضت لتلك المرأة التي اشتهرت خلال الثورة بهتاف كل كوز ندوس دوس. ثم عرض لها في يومنا وهي تهتف للجيش لانتصار ما من انتصاراته. وعلق البوست بالله شوفها كانت وين وهسع وين. وسألت نفسي ما وجه الاستغراب هناك؟ فما يتحير إزاء المشهدين إلا مغير يعتقد أن ليس في العالم سوى أن تكون مع الثورة فتكتب قحاطياً أو مع الجيش فتكتب كوزاً. هذا عاهة في الكوز والقحاطي لا أرى سبباً لمحاكمة أي أحد بها. إنها لغو وحيلة متفق عليها من الطرفين للسيطرة على الخطاب السياسي والممارسة.
– هل هــادن الرجــل العسـكر للأبـد ووصل لمـراقي التعايش مع الشموليات؟ وهــل بـاع قضايـا الثـورة الجوهـرية بثمـــن بخــس كمـا تدّعـيٍ ســردٍية الناقٍميــن وكثير من المحبين المتوجسين؟ -رؤيـتك مــن المـوقــف المتعنت لـكتلة الجـذرييـن رفاق الأمـس والجـهر والهمـس؟
أجبت عليه
مـا هي استدلالاتك والدوافــع والقناعات التي جعلتك تجزم بالقول بـأن ما نواجــه في السودان ليس حرباً بل (حـرابة) وأنت تدري ما مـن حـرابة ثبتت في اضابير القضــاء الســوداني خاصــة في ازمـنة الكـروب والحـروب والويـلات؟
-بتطاول الحرب وما رأيناه يحدث من الدعم السريع في الجزيرة وسنار بعد الجنينة والخرطوم أسأل إن كان هناك من يعتقد ما يزال أنه بالوسع القول أن ما تقوم الدعم السريع به مما يصح أن يسمى حرباً؟ ضد من؟
قلت أن الطاقة المجرمة في “الدعم السريع” مما اصطلحنا كمسلمين على وصفه بـ”الحرابة”. وهي البروز لأخذ المال، أو القتل، على سبيل المجاهرة مكابرة اعتماداً على القوة مع البعد عن الغوث، أي البعد من يهب للنجدة من شرطة أو جيش. والحرابة هي عادة قوم لهم منعة وشوكة يدفعون عن أنفسهم ويقوون على غيرهم بقوتهم. والمجاهرة هي أخذ المال قهراً، أي خطفاً، لا خلسة كالسراق. وانسكب حبر فقهي كثير حول “البعد عن الغوث” ومعناها ألا يكون من مغيث لمن اعتدى عليه المحارب كما تقدم. وجعل هذا الشرط الفقه يقصر وقوع الحرابة في الصحاري لا الأمصار حاضرة السلطان التي يلحق الغوث المستغيث. وصارت “الحرابة” بالنتيجة هي فعل قطاع الطرق حصرياً. ولكن مثل أبي حنيفة قال بوقوع الحرابة في الأرياف والأمصار إذا لم يلحق الغوث في كليهما لأي سبب من الأسباب. بل تجد من قال إن وقوعها في المدن في مثل الخطف والقتل والسرقة والنهب وتحريق المحال والمنازل لجريمة أنكى لاستخفاف المحارب بالتجمعات البشرية فيروع أمنها متجرئ غير مبالٍ بقوة الغوث المنتظر. ولم يكن للخرطوم والجنينة والجزية مغيث حين ظهرت “الدعم السريع” لأخذ المال مكابرة اعتماداً على القوة، فإذا لم تكن هذه “حرابة” فما تكون؟ الدعم السريع ارتكب الحرابة وعليه حدها.
هذه هي استدلالاتي فليأتيني بغيرها ممن يعتقد بأن الدعم السريع ليومنا في حرب كما في مصطلحها كمبارزة بين عسكريين يقع الأذى على المدنيين فيها لا مفر في أوقات هنا وهناك.
– – حدثـنا بشـفافية وتجـرد عـن المشـهد القـادم والمــآلات، هل ثمة ضوء يلوح في نهـاية النفق أم الأفــق مغطـي بالحوالك والسديم؟
هناك ضوء يلوح في نهاية النفق. ظل يلوح عندي منذ عرفت السياسة في المدرسة الثانوية وعرفت دروبها في معارضة نظام عبود. كنا نقاوم تحت مظلة الحزب الشيوعي ونتعلم الاستراتيجية والتكتيك وأيدينا على التتك. وشهد الله ما كنا نعلم أن شوقنا للثورة ضد النظام وزواله كان مما سيتحقق أمام ناظرينا وبأيدينا في 6 سنوات. واذكر أن زميلاً لنا أصابه السقم من تطاول معارضتنا فاستقال منا وجاء في نص الاستقالة بقوله والله العساكر ديل جابهم الله ويشيلهم الله. وخرج علينا جناح باسم الحزب الشيوعي (القيادة الثورية) قال كلام الإضراب السياسي دا يشيل حكومة دا بعيد. الخلاص في طلوع جبل أو غابة وبدء الكفاح المسلح. ووقعت ثورة أكتوبر ولم يحدد رفاقنا بعد أي جبل سيطلعون إلى رعانه. بعض الناس يظن أن السلاح رهين بالهامش. جاء العرض به في المركز ولم نقبل به. وأزلنا الطغيان هتافاً وتلويحاً بالنيم. وتكرر ذلك في 1985 و2018 والسلاح في هرج ومرج.
قال لي أحمد طه على الجزيرة: ولكن ثورة أكتوبر فشلت.
قلت له ولماذا، إذا صدقنا بقولة فشل أكتوبر، استنسخناها بثورة 1985 ثم ثورة 2018. فإما أننا خلق آخر أو أننا بلهاء.
نور آخر النفق ما يزال مشرقاً في كهف الظلام. ونريد لثورتنا الحالية أن تكون آخر الثورات نرقى بها إلى الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة التي بذل شباب السودان وشاباته عمراً وضيئاً نضراً مفعماً لإنجازه لعقود ستة. إنضم لقناة النيلين على واتساب
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الحزب الشیوعی الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
سرديات الخراب: كيف تعيد الحرب إنتاج نفسها في السودان؟
إنه الارتطام الأخير في سلسلة الارتطامات التي لم تكن سوى استكمالٍ لسردية الطغاة الذين يقتاتون على هشاشة البنية التاريخية لهذا المكان.
منذ اللحظة التي استُبيحت فيها الخرطوم ومدن الجزيرة والنيل الأزرق وغرب السودان تحت وطأة البنادق التي جيفت خطاها في شوارع صنعها المقهورون بعرقهم ودمائهم، بدا واضحًا أن المأساة ليست سوى إعادة إنتاج لحتميةٍ لم يتبقَّ منها إلا أنيابها المنغرزة في لحم المدن.
ما الذي يجعل الجلادين ينهشون بعضهم بعضًا بعد أن فرغوا من معاركهم ضد الأبرياء؟ لعل التاريخ، كما قال بنيامين، لا يسير نحو التقدم، بل هو كومة من الركام يزداد ارتفاعها مع كل طاغية جديد.
فمنذ سقوط الخرطوم الأول في 1885، كان المشهد معدًّا لولادة دائمة للحروب التي لا تجد نهايتها، بل تتشكل في كل مرة وفق سرديات الهيمنة السائدة: الدين، العرق، القومية، ثم أخيرًا تلك الفانتازيا القاتلة التي تُسمى الدولة.
غير أن الخرطوم لم تسقط وحدها، بل سقطت معها آخر أوهام الاستقلال، فالدولة الوطنية التي بُنيت على أنقاض الاستعمار لم تكن سوى استبدال مباشر للسيد الأبيض بسيد محلي لا يقل عنه تعطشًا للهيمنة.
كانت السلطة منذ البدء مشروعًا قمعيًا، تُعاد صياغته وفق مقتضيات اللحظة، لكن جوهره ظل ثابتًا: السيطرة عبر القوة، وتبرير تلك السيطرة عبر سرديات تبدو منطقية في ظاهرها، لكنها لا تصمد أمام التفكيك النقدي العميق.
حين وقعت ثورة ديسمبر 2018، كان ثمّة رهان على أن التاريخ قد انحرف أخيرًا عن مداره المعتاد، وأن القوى المدنية، ولأول مرة منذ 1956، قد أصبحت قادرة على كسر احتكار العسكر لمصير البلاد. لكن سرعان ما تبدّد هذا الوهم، ليس لأن الثورة لم تكن أصيلة، بل لأنها كانت تحاول زرع بذور المستقبل في أرض صلبة من اختزال الصراعات داخل ثنائية الخير والشر، متناسيةً أن من يدير آلة القمع ليس مجرد جنرال، بل بنية متشعبة تمتد من السوق إلى الجامع، ومن المنهج الدراسي إلى التلفزيون الرسمي، ومن دور الفقه إلى غرف العمليات في السفارات الأجنبية.
لم يكن العسكر وحدهم من انقضّ على الثورة، بل كان معهم تحالف كامل من الطامحين لوراثة الخراب، كلٌّ وفق رؤيته الخاصة لمستقبل الهيمنة. رجال الأعمال الذين كوّنتهم سنوات التمكين، سماسرة الحرب، زعماء الطوائف الذين لا يعيشون إلا في ظل الفوضى، والنخب التي لم تتردد لحظة في بيع الوهم للشعب مقابل موطئ قدم في مائدة السلطان.
وهكذا، كان الانقلاب على الثورة تحصيل حاصل، فلم يكن ممكنًا لنظام عسكري-رأسمالي-أيديولوجي أن يسمح بظهور نموذج جديد للحكم يهدد مصالحه.
في مساء الخامس والعشرين من أكتوبر 2021، حين انقلب البرهان وحميدتي على الشراكة الهشة، لم يكن ذلك انقلابًا ضد الوثيقة الدستورية فحسب، بل كان إعلانًا صريحًا بأن المؤسسة العسكرية، التي تشكلت عبر عقود من التحالف بين الدولة العميقة والجبهة الإسلامية، لن تسمح بتحول السودان إلى فضاءٍ مدني. كان ذلك تأكيدًا على أن الهيمنة لا تعترف إلا بالقوة، وأن السردية الوحيدة المقبولة هي تلك التي تخرج من فوهة البندقية.
لكن، مثل كل الطغاة الذين ينسجون نهايتهم بأيديهم، لم يدرك الرجلان أن استيلاءهما المشترك على السلطة ليس سوى بداية لمعركة شرسة بينهما. فالقوة، كما يعلم كل من قرأ غرامشي، لا يمكن أن تظل مقسّمة بين مركزين متصارعين دون أن يحاول أحدهما ابتلاع الآخر. وهكذا، بين ليلة وضحاها، تحولت الشراكة إلى تنازع، ثم إلى قطيعة، ثم إلى الحرب.
ولأن لكل حرب سردياتها، بدأ كل طرف في إعادة تشكيل ماضيه ليناسب طموحاته. البرهان، وريث المؤسسة العسكرية التقليدية، استعاد خطاب “الدولة” و”المؤسسة”، مستندًا إلى علاقاته القديمة مع القاهرة ورياض الانقلابات، محاولًا إقناع العالم بأنه الامتداد الطبيعي لعسكر ناصر والسادات والبشير. أما حميدتي، ابن الهامش الذي صعد من بؤس دارفور إلى قلب الخرطوم، فقد حاول أن يعيد اختراع نفسه كمنقذٍ من الطغيان، متقمصًا دور الثائر ضد البيروقراطية العسكرية التي همشته رغم خدماته الطويلة لها، مستعينًا بحلفائه في العواصم البعيدة التي رأت فيه وكيلًا مثاليًا لمصالحها.
لكن كلا السرديتين لم تكونا سوى محاولتين لإخفاء الحقيقة: أن الحرب ليست صراعًا على المبادئ، بل هي معركة بين شبكتين من المصالح، تتداخل فيهما حسابات الذهب مع خطوط الإمداد الإقليمي، وتتحرك فيهما المواقف وفق الرياح القادمة من أبوظبي والخرطوم وباريس. فمنذ متى كان البرهان ديمقراطيًا؟ ومنذ متى كان حميدتي نصيرًا للثورة؟
إن استدعاء ماركس هنا ليس ترفًا، فالسودان اليوم هو النموذج الحي لما وصفه في الثامن عشر من برومير، حيث يعيد التاريخ نفسه أولًا كمأساة، ثم كمهزلة. فالجيش، الذي كان يفترض أن يكون أداةً لحماية البلاد، أصبح هو نفسه العدو الأول لها. والدعم السريع، الذي بدأ كأداة لقمع الهامش، صار وحشًا يلتهم المركز. وفي كل هذا، يبقى المدنيون، الذين ملأوا الشوارع بأحلامهم، مجرد مشاهدين لمسرحية تُكتب فصولها بالدماء، وقودًا لسرديات تُصاغ في أروقة مراكز النفوذ العالمية، بين تقارير الاستخبارات وحسابات شركات السلاح.
ما العمل إذن؟ هل نقول مع برناردو في افتتاحية هاملت: “ثمة شيء عفن في مملكة الدنمارك”؟ أم نستدعي فرانز فانون لنفهم كيف أن النخب الفاشلة تظل تعيد إنتاج الاستعمار بأدوات وطنية؟ أم نعود إلى ألتوسير لنتأمل كيف أن مؤسسات الدولة الأيديولوجية تخلق مواطنين مستعدين لتكرار المأساة إلى ما لا نهاية؟
ربما لا نحتاج إلى أيٍّ منهم، فالحقيقة أبسط من ذلك: ما لم يتم تفكيك الدولة العميقة التي جعلت من الجيش والميليشيا صنوان، وما لم يتم إعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع خارج منطق القوة، وما لم تدرك الأجيال الجديدة أن الثورة لا تُختزل في مظاهرة، ولا في بيان، ولا حتى في حكومة مدنية، بل هي عملية طويلة من تفكيك البنى المهترئة وإعادة بناء مفهوم الدولة من الأساس، فإن هذه الحرب لن تكون الأخيرة، بل مجرد فصل جديد في الحكاية التي لا تنتهي
zoolsaay@yahoo.com