يمانيون:
2025-03-14@20:47:07 GMT

سورية الخاصرة الرخوة

تاريخ النشر: 10th, December 2024 GMT

سورية الخاصرة الرخوة

د. محمد عبد الله شرف الدين

بادئ ذي بدء؛ ليس سوى الدروس والعبر فيما وراء هذه السطور، ومن قاعدة: (عين القرآن، وعين على الأحداث)، وبناء عليه: لقد استعان العرب في مواجهة الأخطار المحدقة بهم بشتى النظريات الوضعية، واعتبرها العرب منهجيات نظرية ومنصات انطلاق تتبلور في الواقع العملي، فكان منهم من له عين نحو النظريات الشرقية، وعين أُخرى ترنو النظريات الغربية؛ انطلاقًا من الشعور بالوطنية لحماية الأوطان.

ويطول سرد التجارب العربية التي اعتمدت تلك النظريات منذ مطلع القرن الـ ١٩، وحتى المعاصرة إلا أن التجربة السورية هي اليوم على خطوط التماس الساخنة مما يستدعي خصها بالدراسة والتحليل الموضوعي، واستقراء الدروس والعبر.

في عام ٢٠١١م فزع النظام السوري مستنجِدًا بروسيا، وليس ذلك وليدًا لحظيًّا؛ إنما كان استنجادًا له جذور ارتباط نظرياتي، من حميمية راسخة، كحميمية رسوخ العولمة التركية، والإمبريالية الخليجية.

ومما لا شك فيه أن الوطنية والحفاظ على الوطن هو الدافع للنظام السوري للاستنجاد بحليفه الاستراتيجي، ويشفع نفي ذلك الشك بنفي شك آخر يتماس مع سابقه ويواكبه، ويتمثل بنفي الشك عن إخلاص النظام السوري للعروبة التي مثّلت القضية الفلسطينية رأسَ حربة للعروبة؛ ولذا استعان النظام السوري في العام ذاته؛ مِن أجلِ الحفاظ على قضية العروبة المركزية بجمهورية إيران الإسلامية والقوى الإسلامية في العراق، وحزب الله في لبنان الذين يدافعون عن القضية الفلسطينية، ويدعمونها.

نعم؛ استطاع النظام السوري تحقيق أغلب أهدافه طيلة ثلاثة عشر عامًا؛ لكن دون تحقيق أهداف استراتيجية تحقّق الأمن الوطني الدائم لسورية، وهنا يتبادر سؤال مركزي: ما الأسباب التي حالت دون تحقيق النظام السوري تلك الأهداف الاستراتيجية؟

أولا: يقول الله تعالى: {وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡیَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡ}، [سُورَةُ البَقَرَةِ: ١٢٠]، وروسيا ليست باستثناء عن ذلك المبدأ القرآني الذي غفل عنه النظام السوري؛ ولذا فَــإنَّه بمُجَـرّد إبرام تسوية روسية أمريكية، كانت سورية هي الخاصرة الرخوة لتلك التسوية.

ثانيًا: يقول الله تعالى: {وَقَـٰتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّه ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ}، [سُورَةُ البَقَرَةِ: ١٩٠]، وهذان مبدآن إلهيان غفل عنهما النظامُ السوري.

ثالثًا: يقولُ الله تعالى عن المنافقين في سورة المنافقون: {هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡ قَـٰتَلَهُمُ ٱللَّه أنَّىٰ یُؤۡفَكُونَ}، [سُورَةُ المُنَافِقُونَ: ٤]، فلم يتخذ النظام السوري منافقي العرب أعداء، ولم يحذرهم.

وهنا نلخص إلى دروس وعبر منها:

١- البناء الإيماني المرتبط بالله ثقة وتوكُّلًا هو الطريق الحصري لتحقيق النصر؛ ولذا كانت الثلاثة عشر عامًا، (فرصة ذهبية) للنظام السوري للتخلص من النظريات الوضعية، وبناء شعب وجيش إيماني، فلما ضاعت هذه الفرصة أضاعت معها فرصة الاستغناء عن روسيا والاعتماد على الله تعالى وحده، لا شريك له، وهو سبحانه الناصر، فقال تعالى: {إِن یَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُم وَإِن یَخۡذُلۡكُم فَمَن ذَا ٱلَّذِی یَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ}، [سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ١٦٠].

٢- النظرة القرآنية للمنافقين تخلق وعيًا راسخًا عنهم، فينتج مواقف واضحة؛ ولذا كان تخندق منافقي العرب ضد النظام السوري كافيًا للحذر منهم، ولكنه لم يحذر؛ إنما انجر وراء وعودهم المخاتلة، وانزوى عن محور القدس والجهاد والمقاومة، فشكَّل ذلك خاصرةً رخوة.

وأخيرًا: إن انتصار حزب الله في لبنان، وإن جهاد مقاتلي الإسلام في قطاع غزة ضد العدوّ الإسرائيلي والأمريكي، وصمودهم لأكثر من عام مع فاعليتهم التنكيلية بالعدوّ هما النموذج الذي لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، وذلك بالبناء الإيماني، والاعتماد على الله تعالى، واتِّخاذ سبيل الله تعالى عنوانًا شامِلًا يندرجُ في ثناياه الوطن والوطنية، وليس العكس.

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: النظام السوری الله تعالى

إقرأ أيضاً:

دور الخطاب في تبليغ الرسالات السماوية وأثره في التأثير والإقناع

ما دامت العبادة هي علة وجود البشر وخاصية النطق والبيان، عن مكنون الأذهان، وهي سمة جوهرية فارقة ومميزة للإنسان عن الحيوان كخاصية الاعتقاد والإيمان بالغيب والقدرة على تجريد المعاني الكلية من المحسوسات والتعبير عنها بالكلمات التي يعجز عن القيام بها كل ما دونه من المخلوقات.. فإن أول رسالة للبشرية بيان بالخطاب، بدليل أن أول إنسان علم البيان ولقن الأسماء ووهب اللسان كما يتجلى ذلك في قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (إبراهيم / (4) .

وفي ذلك أقوى الأدلة على أهمية الخطاب في تبليغ الرسالات ومنهج السماء لدى جميع الأنبياء والمرسلين، ودور اللسان الذي يمثل الأداة الأولى في الخطاب، والمقصود باللسان في القرآن هو اللغة وحاسة الذوق في الوقت ذاته، كما تعبر عنه الآية: {ولسانا وشفتين} (البلد) علما أن لفظ اللغة" لم يرد ذكره في القرآن أبدا، فدائما اتنت اللغة متضمنة في لفظة "اللسان" كما هو واضح في الآيتين المذكورتين {ولسانا وشفتين} و{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}.

إن أول رسالة للبشرية بيان بالخطاب، بدليل أن أول إنسان علم البيان ولقن الأسماء ووهب اللسان كما يتجلى ذلك في قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}..وهذه الآية الأخيرة تدل على أن الله سبحانه وتعالى يهدف من وراء إرسال الرسل بألسنة أقوامهم إلى التأكيد على أهمية الخطاب، ودور اللسان في الجدل بالحجة العقلية والبرهان والإقناع بالمنطق، والإفهام والشرح من باب "خاطب الناس بما يفهمون" وهو ما يعني من جهة أخرى أن اللسان بالنسبة للنبي والرسول هو مثل السمة أو الصفة البشرية له. حتى يسقط بها الله ذرائع الكفار في التحجج بعدم معرفة ما يبلغون به عن طريق الرسول الذي يبعث من بينهم وبلسانهم.. حتى لا يقولوا لم نسمع الكلام، أو لم نفهم لغة الخطاب، ولذلك جعل الله الرسل من البشر وجعل العنصر الإنساني والعنصر اللساني أو الخطابي، هما جوهر الرسالة الربانية في ضبط وتبليغ التكليف للبشرية ..

إن في خطاب الله لجميع الأنبياء والمرسلين بدءا بآدم إلى محمد ﷺ مرورا بموسى عليه السلام الذي خصه الله بالخطاب المباشر {وكلم الله موسى تكليما} (النساء / (164) {إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} (النازعات / (16) {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} ( طه / 44.43) ما يفيد من التوجيه الإلهي إلى الرسل أن يكون خطابهم لينا وجيدا ومؤثرا. وليس منفرا للسامع المدعو إلى المنهج القويم، وفي معنى الآية {وكلم الله موسى تكليما} ما يفيد التشديد الإلهي على أهمية الخطاب في تبليغ الرسالات من الله إلى الرسل، ومن الرسل إلى البشر، بمن فيهم الطغاة مثل النمرود مع إبراهيم وفرعون مع موسى وهارون .

كما يؤكده أيضا قول موسى لربه عند تلقي رسالة تكليفه {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون} (القصص / (34) ويدل في الوقت ذاته على أن محتوى الخطاب الرسالي كله كلام مفيد، يتطلب مرسلا أو مبلغا ومتلقيا، وأن حاجة الإنسان إلى الكلام والخطاب ضرورية في حياته كما قلنا)، كدعاء موسى {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا} (طه / 25، 34)، وتسبيح يونس ومناجاته ربه في بطن الحوت: {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} (الصافات / (144) و{أمّن يجيب المضطر إذا دعاه} (النمل (62) و {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما} (يونس / 12) أو مخاطبة الإنسان بني جنسه، والتواصل معهم في كل ظروف الحياة وأوضح ما تتمثل فيه قيمة التواصل والتخاطب في حياة البشر واستئناس الإنسان بالكلام من ومع أخيه الإنسان هو وضع المذنبين في السجن الانفرادي كأقسى أنواع العقوبات المعنوية، حيث يحرم فيه السجين من الاتصال والتخاطب إرسالا أو استقبالا مع بني جنسه.

إن كل ما أنزل فى القرآن وما أرسل من رسل مبني على الكلام بدليل أنه لم يبعث رسولا فاقدا لحاسة السمع والنطق لكون رسالة الرسول الأساسية هي البلاغ، بنص قوله تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ} (العنكبوب / (18) و{إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر } (الغاشية / (22) وقوله {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم / 4.3) .

وهل يوجد بلاغ للشعوب والأمم بغير الوسيلة الأولى للتبليغ، وهو الخطاب الشفاهي أولا ثم المقروء بعد تقدم البشرية واختراع الحروف، مثلما هو معمول به في القرآن الكريم، ثانيا .

إن القرآن كله خطاب رباني منطقي مقنع (محكمه ومتشابهه) يدعو إلى التعقل والتدبر والاستنباط والاقتناع والإقناع بالحجة العقلية والبرهان والدليل على ذلك نلمسه في ثلاث آيات بينات معبرة عن دور الخطاب القرآني وأهميته في التأثير على النفوس والأذهان لدى الإنسان.

1 ـ قوله تعالى في وصفه لموقف المشركين من القرآن الكريم بأنهم كانوا: {وهم ينهون عنه وينأون عنه} (الأنعام (26) ينهون عنه الناس مخافة أن يتأثروا بخطابه الآسر وحجته القوية المفحمة التي لا يقدرون على دحضها ... وينأون عنه وهم أرباب الفصاحة والبيان، خوفا على أنفسهم من عدم القدرة على مقاومة التأثر به... كمن يبتعد عن النظر إلى أشعة الشمس الساطعة في وضح النهار، مخافة فقدانه حاسة الإبصار !!

2 ـ قولهم: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} (فصلت (26) وهم بذلك يقرون بأن الغلبة التي يطمعون فيها ليست بنفس الحجة والوسيلة التي برعوا فيها وتحداهم الله بها. وهي الفصاحة والبيان، كما يظهر ذلك في قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} (الإسراء / (88) ، فقد تحداهم أولا بأن يأتوا بعشر سور مثله إن كانوا يرون أنه مفترى بقوله: {أم يقولون افتراه، قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون} (هود / 14.13) ، فلما انقطعوا وقامت الحجة عليهم تحداهم بأن ياتوا بسورة من مثله، وأخبر أنهم لن يفعلوا، حيث قال: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} (البقرة/ 23 24).

إن القرآن كله خطاب رباني منطقي مقنع (محكمه ومتشابهه) يدعو إلى التعقل والتدبر والاستنباط والاقتناع والإقناع بالحجة العقلية والبرهان.ويشمل هذا التحدي قصار السور كما يشمل طوالها، فهو تحداهم بسورة الكوثر والإخلاص والمعوذتين والنصر ... أو أية سورة يختارونها، ومن المعلوم أن العرب لم يحاولوا أن يفعلوا ذلك فقد كانوا يعلمون عجزهم عنه، ورأوا أن سبيل الحرب والدماء وتجميع الأحزاب أيسر عليهم من مقابلة تحدي القرآن. وبعد هذا العجز الكلي عن التحدي، كما هو ثابت، عمدوا إلى التشويش على كلام الله، واللغو فيه كما سبق، والتعتيم عليه، وهو في ذاته اعتراف ضمني منهم، ودليل على قوة الخطاب القرآني في التأثير على العقل الإنساني الفطري السليم الذي لم يحط به الران، فقفل عليه منفذ النور المبين، ولعل في طريقة إسلام عُمر رضي الله عنه  دليلا على ذلك، إذ مكنه الله من سماعه في بيت أخته في الوقت المناسب، قبل أن يختم على قلبه مثلما وقع للمكابرين كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهم..

وإننا نعتقد جازمين أنه لو وجد الكفار في الخطاب القرآني شيئا مما ينفر الناس منه ولا يجذبهم، ويبعدهم عنه ولا يقربهم.. لحثوا هم أنفسهم الناس على سماعه ليتخذوا منه حجة عليه، ولكن نهيهم الغير عن سماعه والنأي عنه، ثم الأمر باللغو فيه، للحؤول دون سماعه الجيد من الغير، لإدراك معناه ومغزاه الذي أدركوه، لدليل قاطع على إدراكهم لخطورة تأثيره على عقول أتباعهم، وهو تأكيد لمصداقية قوله تعالى: {إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} (يونس / (67) و (الروم / (23) ولتؤكد لنا هذه الآية أيضا على أن الأصل في العلم هو السمع، والسمع هنا أتى بمعنى العلم والعقل ... مثل كلمة (انظر) التي تأتي بمعني اعقل واعلم وتدبر.

قولهم: {ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} (الزخرف/ 30 ـ 11) دليل أيضا على أن أئمة الشرك والكفر البلغاء والفصحاء والشعراء يدركون في قرارة أنفسهم قوة الخطاب القرآنى مبنى ومعنى، وعجزهم على تحديه بالإتيان بمثله، كما أسلفنا ، أو بالافتراء عليه بقولهم على المنزل عليه الذين هم متأكدون من أميته وعدم القدرة على أن يأتي بمثله من عنده ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر" (النحل/ (103) وسماعهم الرد من السماء على ذلك الافتراء بما أبهتهم بقوله المباشر: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} (النحل (103) أي هو لسانكم وكل حروفه ومخارج كلماته ومادة تركيبه وبنائه وبيانه من مخارج حروفكم، ومادة كلامكم وبيانكم ومعلقاتكم !!

إن اصطدامهم بهذه الحقائق كلها دفعهم إلى التخلي عن مجابهة القرآن في ذاته والتصادم معه بسلاحه واللجوء إلى صب جام غضبهم وحقدهم على متلقيه، حسدا له عليه واستخسارا له فيه، وهو اليتيم الضعيف الذي اتبعه الأرذلون والفقراء والضعفاء (كما قالوا)، وإن ترشيحهم لعظيم من عظمائهم لتلقي هذا التنزيل الحكيم في قرارة أنفسهم لدليل على أن رفضهم وغضبهم وسخطهم كان على المنزل عليه وليس على المخاطبين به في ذاته، بعد أن عجزوا عجزا مطلقا على رفع تحديهم له باللسان والبرهان والبيان، وفشلوا في محاربته بمادة خطابه من الألفاظ والحروف والكلمات، فعمدوا إلى محاربته بالسنان والحراب والدسائس والمؤامرات والتحالفات مع اليهود ونقض العهود..

وإنهم لم يطعنوا في القرآن ذاته لقوة حجته كما هو ثابت، ولكنهم ظلوا يطعنون في المنزل عليه بقولهم: إنه ساحر وشاعر ومجنون.. علما أنهم لم يصفوه بالأمية، لأنهم يدركون أنها صفة تشرفه، وليست مذمة تحط من قيمته، ومع ذلك فقد حاجهم القرآن، وأبطل كل ادعاءاتهم وقوضها من أساسها، كما فضحهم وكشف عن خفايا نفوسهم بقوله تعالى عنهم، وعن تأثير آياته فيهم {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين }(النمل ( 14) .

إن العبادة هي طاعة أمر المعبود بــ (افعل ولا تفعل)، كما قلنا. الأمر لا بد له من خطاب لتبليغ شروط التكليف إلى العباد، وأن الدليل على علاقة الخطاب بالعقل وعلاقة العقل بالتكليف، هو رفع القلم عن الصبي والمجنون، وعدم التوجه إليهما بالخطاب، وهذا ما يتبين في معنى الآيات مثل: "تعقلون"، "تسمعون"، يتدبرون"، "يتفكرون.. وذلك تأكيد على تمشي الخطاب القرآني مع مستوى نضج العقل الإنساني حيث أتى كله خطابا معجزا في ذاته، دون حاجة إلى معجزة مادية تدعمه في حينه، مثلما حصل مع خطابات غيره من الأنبياء السابقين.

ومما جعله يتسم بتلك الأوصاف، ويتميز بتلك الخصائص المعجزة كلها، هو ربطه بين القول المجازى عليه، مثل الفعل، وبين الإيمان المرتبط بالعمل والمجازى عليه مثله، والذي يتضمن في معناه القول والفعل معا، والذي يشمله ويجمله الله تعالى في قوله: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (الزلزلة / 8,7) ويلخصه صاحب الأرجوزة الفقهية ( ابن عشير) في بيته الشهير بقوله :

فصل وطاعة الجوارح الجميع

قولا وفعلا هو الإسلام الرفيع


ولهذا جعل الإيمان المجرد وحده غير ذي جدوى، بدون تزكيته بعمل الصالحات، وهو ما نلاحظه على امتداد الخطاب القرآني كله حيث لا نجد فيه كلمة الإيمان إلا مقرونة بالعمل الصالح، ولا نجد القول إلا مقرونا بالفعل : {يا أيها الذين آمنوا لٍمَ تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف / (32) .

إن القرآن هو الفارق والفاصل بين الحق والباطل الذي لا فرقان بعده، لأنه هو آخر خطاب الرسالات التي تميزت بتكامل القول فيها بعمل الجوارح، بحيث ورد فيها أن عمل اللسان وحده قد يساوي عند الله وفي الحياة أكثر من عمل الجوارح في كثير من الأحيان.

إن العبادة هي طاعة أمر المعبود بـ (افعل ولا تفعل)... والدليل على علاقة الخطاب بالعقل وعلاقة العقل بالتكليف هو رفع القلم عن الصبي والمجنون، وعدم التوجه إليهما بالخطاب.إن الخطاب أتى مرتبطا بالسمع أساسا في كل الرسالات {وقال ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني} (الأعراف / (143) . إن مجال السمع لدى الإنسان أوسع بأضعاف من مجال البصر ومجال الرؤية.. فنحن نسمع عن فعل الرسول ولا نراه ونسمع عن معجزات الرسول وكل الأنبياء الذين بعثوا من قبله، بالخطاب القرآني فقط، ولا نراها أبدا. فكلها نعرفها من خلال سماع القرآن والمتمثلة في قوله تعالى في آيات كثيرة عن الأقوام الأولين مثل قوله : {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين} (القصص / 44) {وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين، وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما آتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون} (القصص / 46_45)، و{نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (يوسف (3) ولهذا السبب كانت معجزات الأنبياء كلها مشاهدة لأقوامهم بالحس واللمس، ونحن لا نعلم عنها إلا ما نبأنا به القرآن عنها. إلا معجزة الرسول الخاتم الأعظم، فهي معقولة ومسموعة ودائمة وقائمة بالبرهان العقلي الصامد المتحدي للإنسان في كل زمان ومكان. وإن هذا الطابع المحلي والمرحلي الخاص بالأنبياء السابقين، هو الذي بينه الله في القرآن بإعطائه صفة الشمولية في الخطاب الخاص الموجه لكل البشرية بقوله : {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} (سبا / 28) و{قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} (الأعراف / (158) و{ يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم} .... (يونس / 104) بدليل أن كل الأنبياء والمرسلين السابقين ناداهم الله بأسمائهم الشخصية ( يا آدم)، (يا نوح)، (يا صالح) (يا هود). (يا إبراهيم) (يا لوط) (يا شعيب يا موسى) (یا هارون) (يا يحيى)، (يا عيسى) ... إلا محمدا فقد خاطبه الله دائما ب {يا أيها النبي حرص المؤمنين على القتال} (الانقال / (65)، و{ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} .... (المائدة / (67) .

ومن الأمثلة الواضحة على أهمية الخطاب فى حياة الكائن الإنساني الذي خلقه الله ليعبد ربه من خلال المنهج الذي يحدده بالدين عن طريق الرسل، هو جعله الرسالات السماوية متدرجة في معجزاتها الرسالية من الملموس والمنقول إلى المجرد والمعقول، وإن جوهر الإيمان في الحقيقة لا يكون إلا غيبا، والغيب لا يكون إلا مجردا ومعقولا، وهذا ما نجده واضحا في قوله تعالى في أولى آياته البيئات: {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب....} ( البقرة / 3.1) ....

وإذا كانت الحواس تخاطب بالمادة المحسوسة والملموسة، كما قلنا، فان العقول لا تخاطب إلا بالمعقول المجرد وحده( أي الإيمان بالغيب) ولا وسيلة لنقل المعقول وتبليغه إلى السامع إلا بالقول والخطاب والكلمة التي تخرج من العقل باللسان إلى الأذن والفؤاد عن طريق الصوت والنطق والتبليغ بالقول المعقول (مسموعا أو مكتوبا أو مقروءا أو منقولا)، {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ...} (المائدة (67). بالكلام والخطاب القرآني والبياني المعجز والمقنع للذين يؤمنون بالغيب عقلا وحده، والتكليف كله مناط المعقول( المقول منه والمنقول !!)

ومن دلائل ارتباط الإسلام بالسمع والكلام والخطاب هو اكتفاء الله تعالى في تبليغ الدين الخاتم بالخطاب وحده في وقوله: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} (التوبة / (6) بما يعني أن في الخطاب القرآني وحده ما يكفي لإقناع العقل السليم فطريا بالحق، فيتبعه دون أن يدعم بأية معجزة مادية أخرى.. وأن السماع هنا وحده يكفي لإقناع الإنسان برسالة السماء في القرآن، بما فيها من حجة وقوة إقناع وبرهان، وتأثير في النفوس والعقول السليمة، إلا المريضة منها والمكابرة المتعصبة، استنكافا واستكبارا عن دين الحق دون مبرر مقنع، وهذا ما يكشفه الله في سورة الإسراء (الآيات 90 ـ 93).

وإن ما يدل على مبدأ الإقناع بالتي هي أحسن وأعقل، ومخاطبة العقول بالكلام المعقول في القرآن هو الخطاب الواضح الذي يتمثل في قوله تعالى: (حتى يسمع كلام الله) ولم يقل حتى يرى أو يشاهد آية الله المادية (مثلما طلب المشركون)، في آيات الإسراء المذكورة، فقد قال (يسمع) والكلام هنا هو القول والقول هو ترجمان العقل، وصورته الخاصة التي يتحمل الإنسان الناطق المفكر والعاقل مسؤوليته كاملة فيما يقول وما يفعل بالعضلات، كما قلنا، وهو ما يتمثل في قوله تعالى {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق) (18) وقوله: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية (29) والعمل هنا كما قلنا، هو القول والفعل معا، وقوله أيضا: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} (الكهف/ (5)، وقوله : {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ، لا مبدل لكلماته، وهو السميع العليم }(الأنعام / (115) ، تدل كلها على ثقل الكلمة وأهمية الخطاب ودوره في الدعوة والتبليغ، وتلخصه كله الآية الكريمة {يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا ، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا، إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} (المزمل (51)، والقول الثقيل المقصود هنا هو هذا القرآن الذي تعهد الله بحفظه بنفسه من التحريف، وهي ميزة خاصة بالخطاب الثابت والخالد والصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وهو كلام وقول ثقيل كله خطاب للعقل والقلب وعلة تنزيل القرآن وثقله وإعجازه متضمنة في داخله.

ومعجزته في نصه، الذي يخاطب كل العقول والأذهان في كل زمان ومكان، مع مسايرة التطور والتدرج في الخطاب، تمشيا مع تطور عقل الإنسان في كل ميدان دون تناقض أو زيادة أو نقصان {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (الأنعام (38) مما يثبت اكتمال الرسالة السماوية الخاتمة المستوعبة في القرآن الكريم، التي كانت كلها خطابا معجزا ووعدا منجزا بالحق المبين نابضا بالصدق اليقين، موضحا لمعناه محصنا لمبناه بالحفظ المؤكد في النص ذاته بقوله تعالى: {إنا نحن نزلناذكر وإنا له لحافظون} (الحجر / (9).

ودون الخروج عن الموضوع الذي يهم إظهاره هنا، وهو نوع هذا الخطاب وخصائصه وعوامل تأثيره في نفوس المخاطبين، سنواصل الحديث تفصيلاً فيه بالنسبة للخطاب الإسلامي في القرآن كتاب هذا الدين الدائم والشامل والكامل، الذي قال عنه تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة / 3)  صدق الله  العظيم.

مقالات مشابهة

  • المحافظة على روحانية الشهر الفضيل
  • دور الخطاب في تبليغ الرسالات السماوية وأثره في التأثير والإقناع
  • الوقف.. «الصدقة الجارية»
  • الكشف عن تفاصيل صادمة… من أين يحصل فلول النظام على السلاح في الساحل السوري
  • هواجس مسيحية حيال الخطر السوري: قد نحمل السلاح!
  • رويترز: أمريكا شجعت قسد على إبرام اتفاق مع النظام السوري الجديد
  • رزق تطلبه ورزق يطلبك
  • من أين يحصل فلول النظام على السلاح في الساحل السوري؟
  • أفضل عبادة في رمضان ويحبها الله تعالى.. لا تكلفك شيئا
  • وقفة أمام بقع الدم السوري..!