أبو محمد الجولاني وتطور مفهوم الدولة في الحركات الجهادية
تاريخ النشر: 10th, December 2024 GMT
من المعلوم أنّ الحركات الجهاديّة منذ القاعدة وحتّى تنظيم الدّولة الإسلاميّة (داعش)، والّذي تأسّس على يد أبي مصعب الزّرقاويّ، حيث غايته في الابتداء وفق أدبيات روائيّة منها ما يتعلّق بأشراط السّاعة، وهو قيام دولة إسلاميّة ابتداء في العراق والشّام، ثمّ تمدّد الدّولة لمناطق أوسع لأجل عودة الخلافة الإسلاميّة من جديد، ولئن ولدت القاعدة ابتداء في خضم مواجهة الاتّحاد السّوفييتيّ في أفغانستان، ثمّ تطوّرت في صراع مع الأمريكان، إلّا أنّهم تبنّوا مفهوم الخلافة، وضرورة تحرير البلاد العربيّة وعلى رأسها الحجاز من الهيمنة الأمريكيّة، وإقامة خلافة إسلاميّة فيها، ولهذا تبنّوا من التّسعينيات عدّة عمليات (إرهابيّة) في المملكة العربيّة السّعوديّة خصوصا.
هذه الحركات الجهاديّة تبنّت الجناح المتشدّد الّذي ولد في الأساس من رحم حركة الإخوان المسلمين، وإن كان الإخوان المسلمون تبنّوا في الابتداء ضرورة عودة الخلافة الإسلاميّة، بيد أنّ مفهومهم حول الدّولة الوطنيّة في الابتداء ليس واضحا، إلّا أنّه تطوّر لاحقا إلى تبنّي أسلمة الدّولة الوطنيّة، مع الاستفادة من الأدوات المعاصرة في تطوّر الدّولة، وإن كانت أدوات علمانيّة أو غربيّة، حيث ولدت فيها العديد من القراءات، منها المنفتحة بشكل كبير على الأدوات العلمانيّة، ومنها من مال إلى التّزاوج مع الفكر السّلفيّ المتشدّد، والرّافض لأي انفتاح حول المفاهيم المعاصرة، واستندوا كثيرا إلى أدبيات ابن تيميّة (ت 728هـ)، مع محاولة تطبيق مفهوم الحاكميّة كما عند أبي الأعلى المودودي (ت 1979م) وسيّد قطب (ت 1966م) بصورتها الحرفيّة، لهذا اتّجهوا إلى تكفير الدّولة الوطنيّة، واعتبار العديد من أدواتها أدوات كفريّة وولائيّة لغير الله.
هذا الاتّجاه المتشدّد والّذي ولد بعد التّعامل غير الإنسانيّ معهم في عهد جمال عبدالنّاصر (ت 1970م)، وهو ما ماثله عند معمّر القذافيّ (ت 2011م) في ليبيا، وزين العابدين بن عليّ في تونس، وهذا مع حدث مع البعثيين في العراق في عهد صدّام حسين (ت2006)، وفي سورية في عهد حافظ الأسد (ت 2000)، واستمر الحال في عهد ابنه بشّار الأسد، فأصبحت هذه المناطق بيئة خصبة لنمو الحركات المتطرّفة؛ لأنّه لم تكن هناك بيئة مهيئة لتفكيك بنية تفكير هذه الجماعات، وتهذّب تفكيرها، كما أنّ الوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ المتدني ساهم في تمدّدها بشكل كبير، أيضا توسع دائرة الاستبداد، والحكم الشّموليّ العِلويّ المطلق أعطى مناخا لهذه الحركات، وللولاءات الخارجيّة.
هذه الحركات الجهاديّة المتطرّفة لا توجد لها أدبيات متكاملة يمكن قراءتها، على عكس اتّجاه الإخوان المسلمين، حيث ظهرت لهم رموز كتابيّة كسيّد قطب (ت 1966م) وفتحي يكن (ت 2009م) ومحمّد قطب (ت 2014م) ويوسف القرضاويّ (ت 2022م)، وكذا الحال عند في الاتّجاه السّلفيّ الصّحويّ كما عند محمّد سرور زين العابدين (ت 2016م) وعبدالرّحمن عبدالخالق (ت 2020م) وسلمان العودة والحوينيّ، وهؤلاء منهم من يميل إلى جانب السلفيّة الحركيّة في شكلها الدّعويّ الأفقيّ، ومنهم من تطوّر إلى المطالبة بإسقاط الأنظمة وإقامة حكومات إسلاميّة بشكل علنيّ كما عند المسعريّ وسعد الفقيه.
بيد أنّ محمّد عبدالسّلام فرج (ت 1982م) حاول في كتابه «الفريضة الغائبة» أن يبلور بشكل واضح أدبيات الحركة الجهاديّة، ابتداء من كفر الدّولة الوطنيّة بما فيها ذلك النّظام الحاكم ومن يعينهم من الاتّجاهات الأمنيّة والعسكريّة ومن يساندهم في العمل الحكوميّ؛ لما بينهم وبين الكفّار (أي أمريكا والغرب) من ولاءات، ولأنّهم لا يقيمون الشّريعة، واستبدلوها بالقوانين الغربيّة، وعليه «حكّام العصر كفّار مرتدون وعقوبتهم أشدّ»، «وأنّ إعانة الدّول الّتي لا تحكم بالشّريعة حرام، وأموالهم مستباحة بعد التّخميس، وقتالهم واجب، ولا تجوز موالاتهم»، مستندا إلى بعض ظواهر المتشابهات من القرآن، وإلى بعض الرّوايات، وبعض الآثار، مع الاقتباس من آراء ابن تيميّة خصوصا من فتاويه.
أدبيات كتاب «الفريضة الغائبة» تبلورت بشكل عمليّ عند القاعدة في أفغانستان، ولكنّها كانت في الابتداء مدعومة سياسيّا من الأمريكان وبعض دول الخليج ضد السّوفييت، ثمّ انقلبت ضدّ الأمريكان أنفسهم، ثمّ توسعوا إلى تهديد قواعدهم في الخليج، وبعد أحداث 11 سبتمبر، ثمّ حرب العراق، اتّجه أبو مصعب الزّرقاويّ (ت 2006م) إلى تشكيل جناح للقاعدة في العراق، ولقي دعما من ابن لادن (ت 2011م) في الابتداء، بيد أنّ الثّاني يرى عدم تشتيت المقاومة، بحيث يكون الهدف هو أمريكا وقواعدها في المنطقة، إلّا أنّ الزّرقاويّ رأى تمديد حركة القتال لتشمل السّنّة والشّيعة الموالين لأمريكا، كما مارس العنف ضدّ الأقليات من قتل وسبي كالإيزيديين، مع حرق وذبح الأسرى، ممّا ولد اتّجاها جديدا أكثر عنفا، وأكثر رغبة في التّمدّد لإقامة خلافة إسلاميّة، ومحاولة تجنيد أكبر عدد من الشّباب عن طريق الوسائل الرّقميّة المعاصرة، وانضمامهم إلى داعش، وإعلان البيعة لزعيمهم، وأنّه من مات وليس في عنقه بيعة (لزعيم داعش) مات ميتة جاهليّة.
في هذه الأجواء القتاليّة في العراق انضمّ السّوريّ أبو محمّد الجولانيّ، لتتقوى علاقته بالزّرقاويّ، ويكون جزءا من هذا العنف، وبعد أحداث2011م وجدت القاعدة وفرعها (داعش) في سوريّة منطقة خصبة لتمدّدها، مستغلّة الثّورة السّوريّة، والّتي كانت أهدافها إصلاحيّة، بيد أنّ النّظام السّوريّ لم يستوعبها ويحاول احتواءها بطرق سلميّة، بل قابلها بالعنف والتّعذيب والقتل والتّشريد، ممّا خلق بيئة ساهمت بشكل كبير في خلق انشقاق وتكوّن اتّجاه ثوريّ عسكريّ من خلال الجيش السّوريّ الحرّ، بيد أنّ هذه الأجواء مهدت لتمدّد القاعدة من خلال داعش، وأصبح الجولانيّ أكبر رموزها في المحيط السّوريّ، وأصبحت من يسيطر على الجيش السّوريّ الحرّ، ولم تعد هناك ثورة في بعدها الإصلاحيّ كما في مصر وتونس ولو قادت إلى تغيير النّظام، بل أصبح النّظام في مواجهة الجماعات الجهاديّة المسلحة، وهو ذاته ما حدث في ليبيا، وإن كُتب له عمر أطول من البقاء والمواجهة قبل سقوطه هذه الأيام.
في هذه الأجواء ولدت جبهة النّصرة، أو جبهة تحرير الشّام، وزعيمها الجولانيّ ذاته، ومارست ذات العنف الّذي مارسته داعش في العراق، ثمّ حدث لها انقسامات داخليّة كجبهة فتح الشّام، وأنصار الدّين، ولواء السّنّة وغيرها، ومع محاولة الزّرقاويّ أن يبقي النّصرة موحدة مع داعش العراق، ومع الصّراعات بينها إلّا أنّ جبهة تحرير الشّام سيطرت على الوضع العام، وأصبح مركزها محافظة إدلب، وسميت بحكومة الإنقاذ، وهنا بدأت تغيّر أدبياتها، وتبتعد عن تطرّف داعش إلى شيء من الاعتدال، فاعترفت بالأقليّات، كالدّروز والمسيحيين والنّصيريين، وضرورة إقامة دولة وطنيّة لها دستورها تستوعب الجميع، ولم تستخدم مصطلحات التّكفير بصورة كبيرة، ولا وسائل العنف، وأعطت مجالا رحبا لمن يريد حتّى من النّظام ذاته وعسكره أن يلقي سلاحه، وينظمّ إلى الثّورة، فلا يقتل، ولا يتبع أن أدبر، مع حضور مفردات الإنسان والتّنمية والبناء والعدالة والحرية والمساواة، وأنّها ضدّ الطّائفيّة، وضدّ الولاءات الخارجيّة، وأنّها ثورة سوريّة ليست غايتها التّمدّد، بل غايتها بناء سورية.
هذه الأدبيات غدت واضحة في خطابات ومقابلات الجولانيّ، والّذي أظهر اسمه الحقيقيّ أحمد الشّرع، ممّا لقي حاضنة خارجيّة ودعما دوليا أجبر بشّار الأسد على التّنازل والخروج من سورية، وإقامة نظام جديد، والّذي أرجو أن يبقى هذا النّظام عند مبادئه، وأن يحقّق دولة مدنية تستوعب الجميع، وأنّ لا تكون مجرد شعارات للوصول إلى الحكم، ثمّ تتحوّل إلى دولة لاهوتيّة ماضويّة مغلقة ترفض التّعدّديّة، وتمارس الاستبداد الفكريّ والدّينيّ، فهذا يؤدّي -لا قدّر الله- إلى صراعات أهليّة، كما أرجو وجود دستور يحمي الحريّات، ويعنى بالإنسان السّوريّ، ويكون هو مدار التّنميّة، وأن يكون مداره الولاء للوطن وليس لاتّجاهات خارجيّة، فآن لهذا الشّعب أن تحقّق كرامته وحقوقه في بلده، فسورية لها فضل كبير على العالم الإنسانيّ والعربيّ قديما وحديثا، فهي بلد السّريان، لغة العلم والمعرفة قبل العربيّة، كما أرجو لها أن تتخلّص من الأفكار المتطرّفة، وأن تعنى بالإنتاج والعلم والإبداع والفنّ كما كانت وستكون بعونه تعالى.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الد ولة الوطنی ة فی العراق الجهادی ة إسلامی ة الس وری الن ظام إل ا أن فی عهد بید أن الش ام
إقرأ أيضاً:
هل يؤثر وقت الشاشة على ذكاء طفلك وتطور لغته؟ إليك ما يكشفه الخبراء!
شمسان بوست / متابعات:
كشفت دراسة حديثة، أجراها باحثون من 20 دولة، أن الأطفال الصغار يقضون وقتا أطول أمام الشاشات مقارنة بالمستويات الموصى بها، حيث يعد التلفزيون والهواتف الذكية أكثر الوسائل استخداما.
شهد استخدام الشاشات بين الأطفال ارتفاعا ملحوظا، لا سيما بعد جائحة “كوفيد-19″، ما أثار مخاوف بشأن تأثيره على التطور المعرفي والحركي في مرحلة الطفولة المبكرة. وتشير دراسات سابقة إلى أن زيادة وقت الشاشة قد تؤدي إلى تأخر في اكتساب اللغة، وضعف في المهارات الاجتماعية والعاطفية، بالإضافة إلى تأثير سلبي على قدرة الأطفال على التنظيم الذاتي.
وبناء على ذلك، توصي جمعيات طب الأطفال بتجنب استخدام الشاشات تماما للأطفال دون سن الثانية، والحد من استخدامها للأطفال الأكبر سنا مع إشراف الوالدين.
وفي الدراسة الجديدة، حلل الباحثون بيانات 1878 طفلا تتراوح أعمارهم بين 12 و48 شهرا، في الفترة بين أغسطس 2021 ومارس 2023، حيث تم تقييمهم من خلال استبيانات أعدها أولياء الأمور حول استخدام الأجهزة الإلكترونية، ومدى تفاعل الأهل مع الأطفال أثناء مشاهدة البرامج والتعرض للشاشات، بالإضافة إلى قراءة الأطفال للكتب وتقييم مهارات اللغة والنمو. كما تم تصنيف الوضع الاجتماعي والاقتصادي بناء على معايير تشمل الوصول إلى الاحتياجات الأساسية ومستوى تعليم الوالدين والمهنة.
وتبين أن التلفاز كان الوسيلة الأكثر استخداما، سواء عند المشاهدة المباشرة أو تشغيله دون المشاهدة المباشرة، بمتوسط يومي تجاوز ساعة واحدة.
وكان المحتوى الترفيهي الأكثر استهلاكا، يليه الموسيقى والبرامج التعليمية. كما اختلف استخدام الشاشات حسب الوضع الاجتماعي والاقتصادي والجنسية، إلا أن العائلات ذات الدخل المنخفض أفادت بضعف قراءة الأطفال للكتب والموارد التعليمية.
وارتبط التعرض المفرط للشاشات، خاصة تشغيل التلفاز دون المشاهدة المباشرة، بانخفاض المهارات اللغوية، حيث أظهرت الدراسة تراجعا في حجم المفردات وتأخرا في تطور اللغة لدى الأطفال.
وفي المقابل، كانت قراءة الكتب والمشاركة النشطة مع البالغين أثناء المشاهدة عاملا إيجابيا في تحسين مهارات اللغة.
ولم تجد الدراسة علاقة ذات دلالة بين وقت الشاشة والتطور الحركي.
وتدعم هذه النتائج الأبحاث السابقة التي تحذر من التأثير السلبي للاستخدام المفرط للشاشات على التطور اللغوي المبكر. ومع ذلك، فإن التفاعل المشترك بين الأطفال والبالغين أثناء المشاهدة، إلى جانب اختيار محتوى تعليمي مناسب، قد يساعد في تقليل هذه التأثيرات السلبية.
نشرت الدراسة في مجلة PLOS ONE بعنوان: “استخدام الشاشات والكتب وتفاعلات الكبار وتأثيرها على اللغة والمهارات الحركية لدى الأطفال الصغار: دراسة عبر الثقافات في 19 دولة بأمريكا اللاتينية من مختلف الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية”.
المصدر: ميديكال إكسبريس