"إبداع"|| الزائر الغريب".. قصة للكاتب المغربي هيثم همامون
تاريخ النشر: 10th, December 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
ارتدى مسعود جلبابه السميك المذهّب، وعيناه على المسجد. في القرية يلقبونه "ديك الصباح"، كيف لا وهو المؤذّن! كان صباحًا باردًا، وتلوح في الأفق نجمات بيضاء. عادة ما تجعله يهيم في مشيته. يقتفي الأثر للخروج من زحام الدّرب إلى الساحة الكبيرة الّتي يومض فيها عمود إنارة وحيد. تحيط به يرعات مضيئة.
مسعود شيخ اختلط الشيب بشعره الأسود كالغراب، وله خمسة وعشرون سنًّا فقد إحداها إثر سقوطه من شجرة رمان. مسح رأسه المستطيل بكفيه الكبيرتين. تمشى بخطوات واسعة قبل فوات وقت الآذان...والظاهر أنّ ذلك السكون لم يطمئن إليه. فغالبًا ما يصادف كلابًا تعوي في طريقه، لكنها سرعان ما تصمت حين تتحسّس بأنوفها رائحة المسك. ويحدث أن يتهارش قطّان شقيّان فيرميهما بحصيات، ليصعدا فوق الجدران الطينيّة لإكمال النزال.
أرخى مسعود عمامته، وأطبق على أنفه الحسّاس؛ لئلا يتنفّس روائح جبال روث البهائم النفاذة، تجوب الزّقاق وتختلط ونسيم الصباح العليل. أصدر حشرجة، ثم ضرب بخفيه منزوعي اللّون أرضيّة الساحة. فجأة لطمت قدمه اليمنى حجرا صغيرا، فراح يتدحرج. قال في نفسه: يبدو أنّ هذه الحجارة حيّة كذلك. كان الخفّان متهالكان وأقرب إلى السواد. استرق النّظر كمسبار في جميع الجهات. لم تقع حدقته إلّا على شجرة خروب كبيرة وقاتمة وسط حفرة مربعة زاوية الساحة. المكان مليء ببقايا لفافات السجائر، وقشور بذور عبّاد الشمس المحمّص. عاد بتفكيره إلى سكون الحياة. وخطرت له بعض الأفكار الهامشية، من قبيل...دوره في السقاية، وجلب البرسيم للعنزة، وتسخين الزوج لحساء البارحة قبل العودة من المسجد.
كان عالما جميلًا، يحيا فيه مع الله، والأرض، والماء، والحيوان دون أن يتدخّل ذلك العقل في حياته. عدّل عمامته الصفراء المنسدلة على كتفيه المتخشّبتين. وعلى حين غفلة، ارتطم بأصيص زهور حبق أحد الجيران. قال بصوت مسموع:
-أعتقد أن هذه البلغة لديها طموحات أكبر من مجرد السير على الأرض.
أحنى ظهره وضغط بإبهامه الكبير على فجوة في بلغته يعيدها إلى الداخل، فهواء الصباح البارد يخترق فجوتها ويتسلّل بين أصابع قدمه. الطريق إلى المسجد قطعة من الجنّة بالنسبة له. يشعر فيها بمتعة واحدة، حين يتذكّر متعة الصلاة. يُعمل فيها بكل حواسه، وأعضائه، وجسده. يعرف أنّه لم يأت إلى هذا العالم ليعيش مثل جرذ أو ثور أو ببغاء، فقط للمتعة والأكل. وكثير من الناس يؤمنون بالجنة، ويتركون ألسنتهم وذوابّهم ترعى هناك. أمّا هو فليس عنده سوى عنزة واحدة. يعيدها راعي القرية مع الأغنام إلى أصحابها بعد أن اكتفت بما في الربوة البعيدة من حشائش هزيلة. ففي الشتاء لم تسقط نقطة مطر. وإذا انهمر يتحوّل إلى طوفان، يأتي على الأخضر واليابس.
يلزمه الآن تخطي مرتفع بسيط، وصعود كومة حجارة تركها أحدهم تنكيلا به بعد مشاحنات امتدّت لسنوات. كانت الحوانيت المتراصّة مغلقة، والجذران المغطاة بلون التراب انقلبت رمادية. مرّ خفاش فوقه بعدما حام حول عمود كهرباء دورة كاملة، ثم تلاشى في الظلام إلّا أنّ طقطقة جناحيه بدت واضحة في ذلك السكون كلطمة موج. أخرج المفتاح من بين قطع نقدية داخل خرقة معقودة وقاتمة. ثم أدخله في قفل باب المسجد بهدوء. فالإمام "ف" مازال يغطّ في سباته العميق داخل حجرته في المسجد. بسمل مسعود، وقدّم قدمه اليمنى كعادته. وما أن يدخل حتى يشعر كما لو أنّه ستنبت له أسنان جديدة. صعد الدّرج كشاب في ريعان شبابه. وراح يخاطب نفسه: لقد دخلت الجنّة على قيد الحياة. ثم يعيد السعال إلى داخله. ويكمل قائلا:
-كم أشعر بالراحة. وددت لو أبقى هنا للأبد. إنّ لكل إنسان جنّته الخاصة. هناك من جنته التململ والراحة، وبالنسبة لإنسان آخر ستكون ممتلئة بزجاجات النبيذ والخمر. وآخرون عقولهم بين أطباق الكفيار، واللحم...وعصير اللّيمون.
رفع جلبابه وفي الآن نفسه رفع ميكروفون المئذنة ليبدأ آذان الفجر. وما إن فتح فاهه حتّى سمعت القرية:
-عنزة...عنزة...عنزة...أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...يا ناس. الشيطان متنكّرا في صورة عنزة.
ثغت العنزة بصوت متهدج تردّد صداه في الهواء البارد كصرخة. أرخى الميكروفون، وهرع بخوف إلى أسفل الدّرج حافيّا. ارتفعت الضجّة. وأيقظ الإمام الذي لم يستوعب الواقعة. ركضا بسرعة فإذا بهما يجدان نفسيهما فجأة يقفان تحت شجرة الخروب الكبيرة وسط الساحة من شدّة الهلع. كان كلّ واحد منهما يستنشق الهواء أكثر ممّا ينبغي. ويضع يديه على صدره كي لا يخرج قلبه. نهج الإمام بشدة، ثم قال:
-الشيطان لعنة الله عليه. أفسد علينا في هذه الدنيا كلّ شيء، حتى النوم! دخل إلى المسجد! هل أنت متأكّد ممّا رأيت؟
-بالطبع، كانت عنزة سوداء بقرون شيطان مائلة ومتنافرة...أوه...نجوت بأعجوبة.
نظر مسعود إلى ساعته القديمة، ثم تكلّم بصوت مذعور:
-فات وقت الآذان. ما العمل الآن؟
-أذّن في الساحة. لا تثريب عليك.
كان الإمام عاريّ الرأس صامتا من هول الصدمة. واجتاحته قشعريرة غريبة. ثم تناهى لسمع الناس صوت الآذان في الساحة. فجاءوا مسرعين، وتحلّقوا حولهما. أمّا العجائز فقد عجبوا لتماطل المؤذن كغير عادته، وعدم رفع الآذان في وقته. وجدوا الإمام "ف" ومسعود في الساحة حافيين. استفسروا عن تفاصيل الواقعة الغريبة. فلمّا علموا بالتفاصيل. استقبلوا الخبر بقلق وتوتر. وفي خضم تلك اللحظة. قهقه أحدهم مدّة، ثم انبرى قائلا:
-ها...ها...إنّها عنزتك يا مسعود. ظلّت زوجك خديجة تبحث عنها بعد رجوع الأغنام في المساء. وقد علمت الأمر من زوجي البارحة. غالب الظنّ أنّها تسلّلت إلى المسجد عندما كنا نصلي صلاة العشاء.
وردّدت الساحة صدى ضحك عال. ثم أضاف آخر بعد فترة سكوت:
-يا لها من عنزة ناسكة! ها...ها...والحيوان كذلك يحبّ الأماكن المقدسة. حتى الحيوانات تحمل طابع الغموض! والإيمان شغف يعبر عن نفسه في كل شيء، حتى في حياة كائن صغير.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: إبداع الزائر الغريب قصة
إقرأ أيضاً:
«التلغراف البريطانية»: نقل أجزاء من حطام طائرة لوكربي إلى أمريكا قبل محاكمة «أبوعجيلة»
أعلنت صحيفة التلغراف البريطانية، أنه سيتم نقل جزء من الطائرة التي انفجرت فوق لوكربي إلى الولايات المتحدة قبل محاكمة المواطن الليبي أبو عجيلة مسعود، الذي قامت حكومة الدبيبة بتسليمه لأمريكا.
وقالت الصحيفة البريطانية، في تقرير لها، رصدته وترجمته «الساعة 24»: “سيشكل حطام جسم الطائرة في رحلة بان آم 103 جزءًا من أدلة الادعاء في القضية المرفوعة ضد أبوعجيلة مسعود عندما يمثل للمحاكمة في واشنطن العاصمة، ويشكل النقل جزءًا من اتفاقية تبادل الأدلة بين سلطات إنفاذ القانون الأسكتلندية ونظيرتها الأمريكية”.
وأضافت “تم إبلاغ العائلات والأقارب بهذا التطور قبل الذكرى السادسة والثلاثين للهجوم الإرهابي الذي وقع في 21 ديسمبر 1988، وقام محققو الحوادث الجوية بإعادة تجميع جزء من جسم الطائرة بطول 65 قدمًا وتبين أن القنبلة كانت مخبأة في جهاز راديو كاسيت في حقيبة في الطائرة”.
وتابعت “كان ضابط المخابرات الليبي السابق عبد الباسط علي محمد المقرحي -الذي أدين في عام 2001 بتهمة القتل الجماعي وسُجن مدى الحياة مع حكم بالسجن المؤبد لمدة لا تقل عن 27 عاماً -هو الشخص الوحيد الذي أدين، وقد تم احتجاز أبوعجيلة مسعود في الولايات المتحدة منذ عامين -عقب تسليم حكومة الدبيبة له-، ومن المقرر أن تتم محاكمته في محكمة فيدرالية في مايو من العام المقبل بتهم عدة، بما في ذلك تدمير طائرة مما أدى إلى الوفاة”.
وأوضحت لورا بوتشان، رئيسة فريق من المدعين العامين من مكتب التاج البريطاني والنيابة العامة في اسكتلندا الذين يعملون على القضية، أنه منذ أن احتجزت الولايات المتحدة الأمريكية أبوعجيلة مسعود في عام 2022، انخرط المدعون العامون والشرطة الأسكتلندية في عملية رسمية لتبادل الأدلة مع وزارة العدل الأمريكية.
واستطردت بوتشان “بدأت عملية نقل العناصر المادية للأدلة من اسكتلندا إلى عهدة الولايات المتحدة، ويشمل النقل أجزاءً من جسم الطائرة بان آم 103 التي تُعدّ جزءاً من التحقيق الجنائي، ونحن ندرك أن جسم الطائرة سيكون له أهمية بالنسبة للعديد من عائلات الذين فقدوا حياتهم وقد تم إبلاغهم بخطط النقل”.
بدوره، قال جو فاريل، رئيس شرطة اسكتلندا: “لا تزال شرطة اسكتلندا ملتزمة بالعمل مع مكتب التاج البريطاني والنيابة العامة في اسكتلندا وزملائنا في مجال إنفاذ القانون في الولايات المتحدة لدعم التحقيق وتقديم المسؤولين عن تفجير طائرة بان آم الرحلة 103 إلى العدالة مهما طال الزمن”.
الوسومأمريكا بوعجيلة لوكربي ليبيا