تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

ارتدى مسعود جلبابه السميك المذهّب، وعيناه على المسجد. في القرية يلقبونه "ديك الصباح"، كيف لا وهو المؤذّن! كان صباحًا باردًا، وتلوح في الأفق نجمات بيضاء. عادة ما تجعله يهيم في مشيته. يقتفي الأثر للخروج من زحام الدّرب إلى الساحة الكبيرة الّتي يومض فيها عمود إنارة وحيد. تحيط به يرعات مضيئة.

يُشعل ضوء مصباحه ذو بطّاريّات منتهيّة الصلاحية. كلّما انطفأ. أخرج البطاريّات، ثم انهال عليها بحجر حتّى تعوجّ، فيستعيد المصباح بريقه. وكأنه الوحيد الذي يعرف السرّ. 

مسعود شيخ اختلط الشيب بشعره الأسود كالغراب، وله خمسة وعشرون سنًّا فقد إحداها إثر سقوطه من شجرة رمان. مسح رأسه المستطيل بكفيه الكبيرتين. تمشى بخطوات واسعة قبل فوات وقت الآذان...والظاهر أنّ ذلك السكون لم يطمئن إليه. فغالبًا ما يصادف كلابًا تعوي في طريقه، لكنها سرعان ما تصمت حين تتحسّس بأنوفها رائحة المسك. ويحدث أن يتهارش قطّان شقيّان فيرميهما بحصيات، ليصعدا فوق الجدران الطينيّة لإكمال النزال.

أرخى مسعود عمامته، وأطبق على أنفه الحسّاس؛ لئلا يتنفّس روائح جبال روث البهائم النفاذة، تجوب الزّقاق وتختلط ونسيم الصباح العليل. أصدر حشرجة، ثم ضرب بخفيه منزوعي اللّون أرضيّة الساحة. فجأة لطمت قدمه اليمنى حجرا صغيرا، فراح يتدحرج. قال في نفسه: يبدو أنّ هذه الحجارة حيّة كذلك. كان الخفّان متهالكان وأقرب إلى السواد. استرق النّظر كمسبار في جميع الجهات. لم تقع حدقته إلّا على شجرة خروب كبيرة وقاتمة وسط حفرة مربعة زاوية الساحة. المكان مليء ببقايا لفافات السجائر، وقشور بذور عبّاد الشمس المحمّص. عاد بتفكيره إلى سكون الحياة. وخطرت له بعض الأفكار الهامشية، من قبيل...دوره في السقاية، وجلب البرسيم للعنزة، وتسخين الزوج لحساء البارحة قبل العودة من المسجد.

كان عالما جميلًا، يحيا فيه مع الله، والأرض، والماء، والحيوان دون أن يتدخّل ذلك العقل في حياته. عدّل عمامته الصفراء المنسدلة على كتفيه المتخشّبتين. وعلى حين غفلة، ارتطم بأصيص زهور حبق أحد الجيران. قال بصوت مسموع:

-أعتقد أن هذه البلغة لديها طموحات أكبر من مجرد السير على الأرض.

أحنى ظهره وضغط بإبهامه الكبير على فجوة في بلغته يعيدها إلى الداخل، فهواء الصباح البارد يخترق فجوتها ويتسلّل بين أصابع قدمه. الطريق إلى المسجد قطعة من الجنّة بالنسبة له. يشعر فيها بمتعة واحدة، حين يتذكّر متعة الصلاة. يُعمل فيها بكل حواسه، وأعضائه، وجسده. يعرف أنّه لم يأت إلى هذا العالم ليعيش مثل جرذ أو ثور أو ببغاء، فقط للمتعة والأكل. وكثير من الناس يؤمنون بالجنة، ويتركون ألسنتهم وذوابّهم ترعى هناك. أمّا هو فليس عنده سوى عنزة واحدة. يعيدها راعي القرية مع الأغنام إلى أصحابها بعد أن اكتفت بما في الربوة البعيدة من حشائش هزيلة. ففي الشتاء لم تسقط نقطة مطر. وإذا انهمر يتحوّل إلى طوفان، يأتي على الأخضر واليابس.

يلزمه الآن تخطي مرتفع بسيط، وصعود كومة حجارة تركها أحدهم تنكيلا به بعد مشاحنات امتدّت لسنوات. كانت الحوانيت المتراصّة مغلقة، والجذران المغطاة بلون التراب انقلبت رمادية. مرّ خفاش فوقه بعدما حام حول عمود كهرباء دورة كاملة، ثم تلاشى في الظلام إلّا أنّ طقطقة جناحيه بدت واضحة في ذلك السكون كلطمة موج. أخرج المفتاح من بين قطع نقدية داخل خرقة معقودة وقاتمة. ثم أدخله في قفل باب المسجد بهدوء. فالإمام "ف" مازال يغطّ في سباته العميق داخل حجرته في المسجد. بسمل مسعود، وقدّم قدمه اليمنى كعادته. وما أن يدخل حتى يشعر كما لو أنّه ستنبت له أسنان جديدة. صعد الدّرج كشاب في ريعان شبابه. وراح يخاطب نفسه: لقد دخلت الجنّة على قيد الحياة. ثم يعيد السعال إلى داخله. ويكمل قائلا:

-كم أشعر بالراحة. وددت لو أبقى هنا للأبد. إنّ لكل إنسان جنّته الخاصة. هناك من جنته التململ والراحة، وبالنسبة لإنسان آخر ستكون ممتلئة بزجاجات النبيذ والخمر. وآخرون عقولهم بين أطباق الكفيار، واللحم...وعصير اللّيمون.

رفع جلبابه وفي الآن نفسه رفع ميكروفون المئذنة ليبدأ آذان الفجر. وما إن فتح فاهه حتّى سمعت القرية:

-عنزة...عنزة...عنزة...أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...يا ناس. الشيطان متنكّرا في صورة عنزة.

ثغت العنزة بصوت متهدج تردّد صداه في الهواء البارد كصرخة. أرخى الميكروفون، وهرع بخوف إلى أسفل الدّرج حافيّا. ارتفعت الضجّة. وأيقظ الإمام الذي لم يستوعب الواقعة. ركضا بسرعة فإذا بهما يجدان نفسيهما فجأة يقفان تحت شجرة الخروب الكبيرة وسط الساحة من شدّة الهلع. كان كلّ واحد منهما يستنشق الهواء أكثر ممّا ينبغي. ويضع يديه على صدره كي لا يخرج قلبه. نهج الإمام بشدة، ثم قال:

-الشيطان لعنة الله عليه. أفسد علينا في هذه الدنيا كلّ شيء، حتى النوم! دخل إلى المسجد! هل أنت متأكّد ممّا رأيت؟

-بالطبع، كانت عنزة سوداء بقرون شيطان مائلة ومتنافرة...أوه...نجوت بأعجوبة.

نظر مسعود إلى ساعته القديمة، ثم تكلّم بصوت مذعور:

-فات وقت الآذان. ما العمل الآن؟

-أذّن في الساحة. لا تثريب عليك.

كان الإمام عاريّ الرأس صامتا من هول الصدمة. واجتاحته قشعريرة غريبة. ثم تناهى لسمع الناس صوت الآذان في الساحة. فجاءوا مسرعين، وتحلّقوا حولهما. أمّا العجائز فقد عجبوا لتماطل المؤذن كغير عادته، وعدم رفع الآذان في وقته. وجدوا الإمام "ف" ومسعود في الساحة حافيين. استفسروا عن تفاصيل الواقعة الغريبة. فلمّا علموا بالتفاصيل. استقبلوا الخبر بقلق وتوتر. وفي خضم تلك اللحظة. قهقه أحدهم مدّة، ثم انبرى قائلا:

-ها...ها...إنّها عنزتك يا مسعود. ظلّت زوجك خديجة تبحث عنها بعد رجوع الأغنام في المساء. وقد علمت الأمر من زوجي البارحة. غالب الظنّ أنّها تسلّلت إلى المسجد عندما كنا نصلي صلاة العشاء. 

وردّدت الساحة صدى ضحك عال. ثم أضاف آخر بعد فترة سكوت:

-يا لها من عنزة ناسكة! ها...ها...والحيوان كذلك يحبّ الأماكن المقدسة. حتى الحيوانات تحمل طابع الغموض! والإيمان شغف يعبر عن نفسه في كل شيء، حتى في حياة كائن صغير.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: إبداع الزائر الغريب قصة

إقرأ أيضاً:

هيثم الغيص : 640 مليار دولار متطلبات الاستثمار بقطاع النفط سنويا لتلبية نمو الطلب

 قال معالي هيثم الغيص، أمين عام منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك”، إن احتياجات الاستثمار في قطاع النفط ستظل كبيرة لتلبية النمو المتوقع في الطلب على النفط بشكل موثوق حيث تقدر متطلبات الاستثمار التراكمية الإجمالية بين عامي 2024 و2050 بنحو 17.4 تريليون دولار بمعدل 640 مليار دولار سنوياً.

وأضاف معاليه في حوار مع وكالة أنباء الإمارات “وام”، بالتزامن مع انطلاق فعاليات القمة العالمية للحكومات 2025 ، أن قطاعي الاستكشاف والإنتاج سيستهلكان الجزء الأكبر من الاستثمار في قطاع النفط حيث تقدر احتياجات الاستثمار الإجمالية في هذا القطاع بنحو 14.2 تريليون دولار، ونحو 525 مليار دولار سنويا، كما أنه من المتوقع أن تبلغ احتياجات الاستثمار في الصناعة التحويلية والتكرير وقطاع النقل والتخزين حوالي 1.9 تريليون دولار و1.3 تريليون دولار على التوالي خلال الفترة نفسها.

وأوضح أن أولويات منظمة الدول المصدرة للبترول “أوبك” دعم وضمان استقرار سوق النفط العالمي من أجل تأمين إمدادات فعالة واقتصادية ومنتظمة من البترول للمستهلكين ودخل ثابت للمنتجين وعائد عادل على رأس المال للمستثمرين في صناعة البترول، مشيرا إلى أن أوبك تسعى لضمان مستقبل الطاقة بكافة أنواعها وشتى مصادرها وتوفرها عالميا من أجل معالجة فقر الطاقة وتعزيز الرخاء لنمو اقتصادي شامل تحت نهج جميع الطاقات وجميع التقنيات للجميع.

وأضاف أن هذه الأهداف تعد مطلباً أساسياً لتطوير اقتصاديات العديد من الدول وخصوصا البلدان النامية التي تعد المحرك الرئيسي للطلب على النفط ولتحقيق هذه الأهداف فلا بد من تحفيز الاستثمار في جميع أنواع الطاقة بما في ذلك الصناعة النفطية.

وقال إنه بناءً على توقعات “أوبك” في تقريرها السنوي “آفاق النفط العالمية 2024 WOO”، سيصل الطلب العالمي على النفط لمستوى يتخطى 120 مليون برميل في اليوم خلال عام 2050 بزيادة مقدارها 18 مليون برميل يوميا مقارنة بعام 2023.

ونظراً للتوسع السكاني والتمدن والنمو الاقتصادي من المتوقع أن تشهد البلدان النامية نموا في الطلب على النفط بحدود 28 مليون برميل يوميا على العكس من الدول المتقدمة التي ستشهد تراجعا في الطلب بحوالي 10 ملايين برميل يوميا.

ولفت معاليه إلى أن توقعات نمو الطلب العالمي على النفط لعام 2025 تظل عند 1.4 مليون برميل يوميا، حيث من المتوقع أن ينمو الطلب في الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بنحو 0.1 مليون برميل يوميا في حين سينمو الطلب في الدول غير الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بنحو 1.3 مليون برميل يوميا.

وحول الدور الذي تضطلع به “أوبك” للحفاظ على استقرار سوق النفط العالمي .. قال معالي هيثم الغيص، إن منظمة أوبك أدركت منذ فترة طويلة الحاجة الماسة إلى الحوار بين المنتجين والمستهلكين في شتى مجالات الطاقة، وإن القضايا الدولية المهمة والمتعلقة بالطاقة كاستقرار السوق وأمن العرض والطلب والآفاق الاقتصادية فضلاً عن القضايا البيئية، تؤثر بشكل مباشر على توازن أسواق الطاقة العالمية، وعلى وجه التحديد صناعة النفط والغاز، لذا فإن الحوار الاستباقي أمر أساسي لتقريب وجهات النظر بين جميع الأطراف المعنية.

وأضاف معاليه أن قرارات منظمة أوبك و”أوبك +” ساهمت منذ عام 2016 في دعم أسواق النفط العالمية وتوفير الطاقة التي نحتاجها جميعاً ، مشيرا إلى أن منظمة أوبك كانت وما زالت سباقة في مد جسور التعاون والحوار مع كل الدول والهيئات المعنية وعلى مختلف الأصعدة، مشيرا إلى أن ندوة أوبك العالمية التاسعة والتي ستعقد في العاصمة النمساوية فيينا خلال الفترة من 9-10 يوليو القادم هي دليل على جهود أوبك ودولها الأعضاء على بناء جسور التواصل في سبيل تحقيق استقرار سوق النفط العالمي.


مقالات مشابهة

  • هيثم الغيص : 640 مليار دولار متطلبات الاستثمار بقطاع النفط سنويا لتلبية نمو الطلب
  • عمرو موسى: الحياة السياسية تحتاج لأحزاب حقيقية وليس مجرد رقم على الساحة
  • هيثم مفيد يكتب: المسكوت عنه في عالم مصطفى بيومي
  • «أسرار أخطر فترة عاشتها مصر».. طبعة جديدة من كتاب «الصندوق الأسود.. عمر سليمان» للكاتب مصطفى بكري
  • حزب الله: إيران باتت قوة اقليمية راسخة فرضت مكانتها على الساحة الدولية
  • المستشار أول “باغاثي الملك سلمان” يلتقي فريقًا طبيًا من وزارة الحرس الوطني
  • أغنية إش إش.. هيثم نبيل يكشف سر صورة نجوم الغناء الشعبي.. فيديو
  • مستشار مسعود بارزاني يصف متظاهري الإقليم المطالبين برواتبهم بـالمهرجين
  • إطلاق "واحة الصاروج" بمدينة السلطان هيثم.. و82 ألف ريال أعلى سعر لـ"فلل عهد"
  • حديث البرهان يشعل الساحة السياسية