لم يكن فـي ذهني وأنا أُعِدُّ فصلا من كتابٍ جديد عن قصص العلماء أن أجد ثراءً وتنوُّعًا وفتنةً فـي ما نحاه العُلماء من أنحاء القصص، فقد كانت نيَّتي وأنا أثير هذا المبحث فـي كتاب اختصَّ فـي البحث فـي النثر العربيّ فـي شبه الجزيرة العربيَّة أن أشير إلى استعمال القصص أداةً للبيان والإقناع ببعضٍ من الظواهر العلميَّة، وأن أقول إنَّ القصَّة عند هذه الفئة من مستعملي السرد هي مُسخَّرة، مُوظَّفة، تقلُّ فـيها مناحي الإبداع، فإذا أنا واجدٌ فـي قصص العلماء تخييلاً وممكنًا سرديًّا وانفتاحًا على عوالم مطلقة ما يجعل سهمَ العلماء فـي بناء السرد العربيِّ وفـيرا وقسطهم غزيرا ومنطقهم بديعا.
أدركتُ أنّ العلماء فـي الثقافة العربيَّة لا يركنون إلى إنتاج القصص لغايةٍ علميّة توظيفـيّة فحسب، وهو واقعٌ حقيقيّ، وإنَّما هم -أحيانًا- يُجرون القصص فُسْحة إبداعٍ وإيمانًا حقيقيًّا بدوره فـي الإمتاع والمؤانسة من جهة، وبدوره فـي التأثير فـي المُخاطَب أو المتلقِّي العلمي. مقامُ الأدب يفترض وجود قارئٍ يتقصَّد لذّة الأدب ومُتَعه، ولذلك، فإنّك عندما تتخيَّر قراءة الجاحظ أو ابن المقفّع فإنَّك تطلب متعةَ المكتوب، آفاقكُ فـي التلقِّي حبيسة ما تعقده من أملٍ فـي تخيُّر كاتب أو كتابٍ، أمَّا مقام العلم، فإنَّ طالبه يرجو منه علمًا فـي مسألة بعينها، فإذا به يجد أثناء العلم مقاطع وفصول تسرُّ الخاطِرَ وتنشد التخييل، وتُقَاطِعُ منطق العلم الدقيق الصارم، إلى منطق القصص المنفتح على ممكن التخييل. المثال الأظهرُ والأجلى فـي تاريخ حضارة العرب هو ابن الجوزي، وهو الفقيه والمحدِّث المتشدِّد، الزاهِدُ، عالم الدين الذي دخل فـي القصص وألَّف كُتُبًا صارت مصادر فـي كلّ حديث عن أصول السرد العربيّ، بل هو تعدَّى ذلك إلى سرد الذات، سيرةً اجتماعيَّة وعلميّة وسلوكيَّة، وسرد الذات من المواضيع المهمَّة التي يُمكن أن يُثيرها الباحثون فـي التراث العربيِّ، فإنْ غابت إلى حدٍّ مَا سِيَر الأدباء الذاتيّة، فإنّ كثيرًا من علماء الفقه خاصَّة عرضوا سيرهم فـي سردٍ مشوِّقٍ حريٍّ بالبحث والدرس، فمن ذلك أنّ ابن الجوزي يقول فـي سرد مظاهر من حياته: «كنت فـي زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج فـي طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها شربة، وعين همَّتي لا ترى إلا لذَّة تحصيل العلم».
الرغبةُ فـي القصص متمكِّنةٌ من الفقيه، أصليَّةٌ فـيه، ولم يشعر بحرجٍ وهو يكتب فـي «ذمِّ الهوى»، ولا وهو يكتب فـي «أخبار الحمقى والمغفّلين»، ولا وهو يكتب فـي «أخبار الظرَّاف والمتماجنين»، وكتابه الأخير هو مصدرٌ من شعبةٍ فـي الأدب الساخر يُعتَبر ابن الجوزي رأْسًا فـيها، إضافةً إلى نوادره التي فتَّحت فـي الأدب بابًا وسيعًا فـي كتاب قصص الحمقى والمغفّلين.
ومن عجيب ما أتاه ابن الجوزي الظرف الذي قد لا يتحمَّله شيوخ اليوم، فمن ذلك مثلاً ما رواه عن «رجل من الأعراب يعمل فـي معمل للذهب فلم يُصِب شيئا، فأنشأ يقول يا ربِّ قدِّر لي فـي حماسي وفـي طلب الرزق بالتماس صفراء تجلو كسل النُّعاس، فضربته عقرب صفراء، سهَّرته طول الليلة، فجعل يقول يا ربِّ الذنب لي إذ لم أبيِّن لك ما أريده، اللَّهم لك الحمد والشُكر. فقيل له ما تصنع أمَا سمعت قول الله تعالى ولئن شكرتم لأزيدنَّكم؟ فوثب جزعًا وقال لا شكرا لا شكرا»، وفـي خبر آخر يروي أنَّ بعض الأعراب قد «صلَّى خلف بعض الأئمَّة فـي الصفِّ الأوَّل، وكان اسم الأعرابيِّ مُجرمًا، فقرأ الإمام: «والمرسلات» إلى قوله: «ألم نهلك الأَوَّلين»، فتأخَّر البدويُّ إلى الصفِّ الآخر، فقال: «ثمَّ نتبعهم الآخرين»، فرجع إلى الصفِّ الأوسط، فقال: «كذلك نفعل بالمجرمين»، فولَّى فارًّا، وهو يقول: ما أرى المطلوب غيري». إنّ روايةَ أخبار الظرف والظرفاء دالَّة على ظرف متمكِّن، مغروس فـي الذات الكاتبة، فـي ابن الجوزي نفسه، الذي تفرَّغ إلى روايةِ قصص تخصُّ إبليس فـي كتابه البديع «تلبيس إبليس»، ورواية قصصِ أهل الهوى والعشق، وقصص أهل الغباء والجنون، وقصص الظرفاء من نساء ورجال وصبية، فلم يُؤتَ بهذه القصص لأجل إقناعٍ أو بيانٍ أو حجاجٍ وإنّما كانت متعة القصص مطلوبة مرغوبة، وهو الأمر الذي نلحظه فـي قصص متفرِّق، متوزّع فـي كتب التفاسير أوَّلاً وفـي كتب الفقهاء عن مختلف المسائل التي يعرضون لها. وهذا بابٌ له مادَّةٌ ونظرٌ ولم يُنظَر فـيه بالشكل الأتمِّ فـي تراث العرب القصصيّ، أمَّا عموم العلماء، فـي الطبّ والبصريّات والجغرافـيا والتاريخ فالحديث يطول فـي تفصيل القصص واستعمالها لغاية تسلية القارئ، وتخفـيف وطأة الحسابات أو التجزئة التفصيليّة لعلم من العلوم.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
المصباحي: أدب الرحلة في تراجع والعالم العربي بحاجة لإحيائه
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال حسونة المصباحي، الكاتب والروائي التونسي، إن الجوائز الأدبية دائمًا ما تشكل شرفًا للكاتب، حيث لا تقتصر على كونها تكريمًا ماديًا فقط، بل تشمل التكريم المعنوي الذي يعزز من عزيمته، مضيفًا أنه ككاتب يعيش من قلمه، فإن حصوله على جائزة يسهم في حل العديد من مشكلات الحياة اليومية ويدفعه للاستمرار في الكتابة.
تعليقًا على أدب الرحلات، أشار المصباحي، خلال مداخلة ببرنامج "صباح جديد"، على قناة "القاهرة الإخبارية"، إلى أن العرب في الماضي كانوا سفراء عظام، حيث كان العديد من الفلاسفة والكتاب والشعراء من كبار المسافرين مثل ابن خلدون وابن عربي وابن بطوطة، الذين سافروا إلى مختلف أنحاء العالم، لكن أدب الرحلة في العصر الحديث فقد مكانته البارزة، في الوقت الذي تم فيه تسليط الضوء على الرواية والشعر، ومع ذلك، هناك محاولات حاليًا من مركز ابن بطوطة للأدب الرحلي، الذي يساهم في تشجيع الكتاب على تدوين رحلاتهم، بالإضافة إلى المكتبات الخاصة التي تروج لهذا النوع الأدبي في تونس والعالم العربي.
وتحدث المصباحي عن تونس باعتبارها مصدر إلهامه الأول، حيث قال إنها تحمل تاريخًا وثقافة غنية، وأن الشخصية التونسية كانت وما زالت محور اهتمامه في أعماله الأدبية، مضيفًا أنه رغم سفره بعيدًا عن تونس، ظل متمسكًا بهويته الثقافية، واهتم بتوثيق تاريخ بلاده، كما في روايته "أشواك الياسمين"، التي تناولت فترة ما بعد سقوط نظام بن علي وناقشت بعض الظواهر التي كانت مستترة في تونس مثل التطرف الديني.
وأوضح المصباحي أنه ابن الريف التونسي، وتحديدًا من مدينة قيروان، حيث نشأ في بيئة معزولة عن العالم، ولم تكن هناك كهرباء أو سيارات، مضيفًا أنه تربى على الحكايات الشعبية التي كانت سائدة في تلك المنطقة، وعندما انتقل إلى الجامعة، شعر أن الأدب التونسي كان يركز فقط على المدينة، ما دفعه للكتابة عن حياة الريف في أعماله.