عربي21:
2025-02-11@07:49:49 GMT

مسالك مقاصد الشريعة عند الطاهر ابن عاشور.. قراءة معاصرة

تاريخ النشر: 10th, December 2024 GMT

مسالك مقاصد الشريعة عند الطاهر ابن عاشور.. قراءة معاصرة

نظرية المقاصد هي واحدة من أبرز الإسهامات الفكرية في الفقه الإسلامي، وقد تطورت بشكل كبير من خلال جهود علماء بارزين مثل الإمام الشاطبي والشيخ الطاهر بن عاشور.
فقد أصل  الإمام الشاطبي (ت 790هـ) لنظرية المقاصد كركيزة أساسية للشريعة، فهو هو أول من وضع الأسس الفكرية لنظرية المقاصد بشكل شامل في كتابه "الموافقات".

ويرى أن الشريعة الإسلامية وُضعت لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة.

وقسّم المقاصد إلى ثلاث مراتب:  الضروريات: الأمور التي لا تستقيم الحياة بدونها، كالدين، النفس، العقل، النسل، والمال.
الحاجيات: ما يُرفع به الحرج عن الناس ويُيسّر حياتهم.
التحسينيات: الأمور التي ترتقي بحياة الإنسان إلى مستوى الكمال والجمال.

وركّز على ضرورة أن يُراعي المجتهد مقاصد الشريعة في فهم النصوص واستنباط الأحكام، مشيرًا إلى أن الغفلة عن المقاصد قد تؤدي إلى تعطيل روح الشريعة.

أما  الطاهر بن عاشور (ت 1973م)، فقد وسّع نطاق المقاصد في كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية"، محاولًا إبرازها كمنهج شامل يصلح للتعامل مع المستجدات في العصر الحديث.

ورأى أن المقصد العام للشريعة هو "حفظ نظام الأمة وضمان استمرارها بتحقيق الصلاح في الدنيا والآخرة". هذه الرؤية أضافت بعدًا اجتماعيًا وتنمويًا لنظرية المقاصد.

ودعا بن عاشور إلى استخدام نظرية المقاصد في مواجهة القضايا المعاصرة، مثل قضايا التنمية، حقوق الإنسان، والمساواة. وقد ركّز على أن المقاصد يجب أن تكون موجهة للإصلاح وتيسير حياة الناس.

وأضاف بن عاشور مقاصد مثل الحرية والعدالة كأهداف أساسية للشريعة، مما يُظهر عمق تفكيره في توسيع المفهوم التقليدي للمقاصد.

الكاتب والمفكر التونسي الدكتور عبد المجيد النجار وهو أحد المفكرين والباحثين في مجال الفقه والفكر الإسلامي المعاصر، ويعتبر من المساهمين في تأصيل الاجتهاد المقاصدي كمنهج للتعامل مع النصوص، ومؤكدا على أهمية النظر إلى مقاصد الشريعة لتحقيق المصلحة العامة، يقدم في هذه السلسلة من المقالات التي تنشرها "عربي21" بالتزامن مع نشرها على صفحته على منصة "فيسبوك"، مسالك المقاصد عند ابن عاشور.. مقارنة بالإمام الشاطبي.

4 ـ  منهج الكشف عن المقاصد عند ابن عاشور:

لقد كان ابن عاشور واعيا وعيا عميقا بأهمية المنهجية التي بها يتمّ الوصول إلى تعيين مقاصد الشريعة من الأحكام، وكان واعيا بأنّ غياب تلك المنهجية ما هو إلا باب من أبواب الوقوع في الخطإ عند تقرير الأحكام الشرعية بالاجتهاد، إذ الأحكام إنما تُقرّر بناء على المقاصد، فإذا وقع الخطأ في تقرير المقاصد تبعه الخطأ في تقرير الأحكام. وكذلك فإنّ غياب هذه المنهجية يُعدّ أحد الأسباب في توسّع الخلاف بين الفقهاء توسّعا قد يداخله التعصّب فيبوء بمجانبة الحقّ، فإذا ما ضُبطت منهجية لتحديد المقاصد كان ذلك سببا من الأسباب التي تحقّق أكبر قدر من الوفاق. واستشعارا لأهمية هذا الموضوع فإن ابن عاشور أولى اهتماما كبيرا ببيان هذه المنهجية على الصعيد النظري وعلى الصعيد التطبيقي.

أ ـ المنهجية النظرية لاستكشاف المقاصد

خصص الإمام ابن عاشور فصلا من فصول الباب الأول من مقاصد الشريعة لطرق الكشف عن مقاصد الشريعة  ترجم له بقوله: "طرق إثبات المقاصد الشرعية"، وأوضح مراده من هذا الفصل بأنه "معرفة الطرق التي نستطيع أن نبلغ بها إلى إثبات أعيان المقاصد الشرعية في مختلف التشريعات وكيف نصل إلى الاستدلال على تعيين مقصد ما من تلك المقاصد استدلالاً يجعله بعد استنباطه محل وفاق بين المتفقهين سواء في ذلك من استنبطه ومن بلغه فيكون ذلك باباً لحصول الوفاق في مدارك المجتهدين أو التوفيق بين المختلفين من المقلدين". وقد ضبط فيما سماه بإثبات مقاصد الشريعة، وهو يقصد بالإثبات الكشف والتعيين طرقا ثلاثة هي التالية:

الطريق الأول: الاستقراء

وقد وصفه بأنه أعظم الطرق: وهو استقراء الشريعة في تصرفاتها من خلال أحكامها المتعددة المتنوعة للانتهاء من ذلك الاستقراء إلى تعيين مقاصد الشريعة، ويتم ذلك بنوعين من الاستقراء، وجدنا بعد المقارنة بينهما أنهما يمثلان مرحلتين متكاملتين، وقد قدم الإمام الثاني منهما في عرضه واصفا إياه بأنه أعظمهما، ولكننا سنعرضهما في هذا المقام بحسب ما تبين لنا من ترتب منطقي بينهما عل النحو التالي:

أولا ـ استقراء أدلة الأحكام:

وذلك بأن يقع تتبّع جملة من أدلّة الأحكام فيقع الانتهاء إلى أنّ جملة منها اشتركت في علة واحدة، فيحصل من ذلك يقين بأن تلك العلة التي اشتركت فيها الأحكام هي مقصد الشارع، ومثاله: أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه والنهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة، والنهي عن احتكار الطعام، هي أحكام شرعية علتها التي تشترك فيها جميعا ما تؤدي إليه من عرقلة الطعام عن أن يروج في الأسواق، فتكون هذه العلة معينة لمقصد الشارع وهو رواج الطعام وتيسير تناوله بين الناس.

ثانيا ـ استقراء علل الأحكام

لقد كان ابن عاشور واعيا وعيا عميقا بأهمية المنهجية التي بها يتمّ الوصول إلى تعيين مقاصد الشريعة من الأحكام، وكان واعيا بأنّ غياب تلك المنهجية ما هو إلا باب من أبواب الوقوع في الخطإ عند تقرير الأحكام الشرعية بالاجتهاد، إذ الأحكام إنما تُقرّر بناء على المقاصد
إنّ علل الأحكام إنما هي مقاصد قريبة لأنها متعلقة بآحاد الأحكام، وفوقها مقاصد أعم منها على حسب ما مر بيانه، وبناء على ذلك إذا ما تحصلت لدينا علل عديدة للأحكام، وأصبحت معلومة لدينا بطرق مسالك العلة فإننا نقوم باستقراء لهذه العلل، فإذا ما وجدنا عددا كبيرا منها يشترك في الدلالة على حكمة واحدة أيقنا بأن تلك الحكمة هي مقصد شرعي أصلي يتنزل من تلك العلل منزلة المفهوم الكلي الذي يحصل باستقراء الجزئيات كما هو مرسوم في المنطق. ومثال ذلك أن نعلم أنّ علّة تحريم المزابنة هي الجهل بمقدار أحد العوضين، وأنّ علّة لنهي عن بيع الجزاف بالمكيل هي جهل أحد العوضين، وأنّ إباحة القيام بالغبن هي نفي الخديعة، تبيّن لنا باستقراء هذه العلل كلها تبين عن مقصد شرعي هو إبطال الغرر في المعاوضات .

الطريق الثاني: التصريح النصّي المباشر

وهو الاستخلاص المباشر لمقاصد الشريعة من تصريحات القرآن الكريم، فقد جاء القرآن ـ وهو القطعي الثبوت ـ بجملة كبيرة من النصوص الضابطة للمقاصد في ألفاظ لئن لم تكن كلها قطعية الدلالة فإن الظنية فيها ظنية قوية حتى لتقارب القطع، وذلك مثل قوله تعالى  (البقرة،205)، وقوله: (البقرة،185)، وقوله  (الحج،78)، فهذه كلها مقاصد شرعية تعرف بالفهم المباشر من النص القرآني .

الطريق الثالث: التصرّف النبوي

وذلك بالاستخلاص المباشر من السنة المتواترة  إما بما شاهده عموم الصحابة من أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بما حصل لآحاد الصحابة من تكرر مشاهدة أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يستخلص من مجموعها مقصد شرعي كلي. والحقيقة أن الإمام لم يبسط هذا الطريق في معرفة المقاصد بما يوفى بالبيان اللازم، فكيف يعرف مقصد الشارع من التواتر فيما شاهده عموم الصحابة من أعمال الرسول؟ ذلك ما لم يبين في هذا الطريق، ولم يوضح بأمثلة، بل الأمثلة التي ذكرت في ذلك تهدف فقط إلى ثبوت أحكام تشريعية بهذا التواتر لا إلى بيان الكشف عن المقصد. أما ما يحصل لآحاد الصحابة من معرفة للمقاصد بما تواتر عندهم من أعمال الرسول فإنه وإن كان مفيدا بالنسبة لهم، فكيف يفيد غيرهم من سائر الأجيال؟ إن ظاهر هذا الطريق يفيد أنه طريق منوط بمشاهدات الصحابة لما تكرر من أفعال الرسول فتبين لهم من تلك الأفعال المتكررة مقاصد للشريعة إذ الأعمال النبوية من صميم الشريعة.

ولعل الإمام يقصد من وراء هذا إلى أن تلك المشاهدات التي نقلت إلى أجيال الأمة بالتواتر تتخذ من قبل الناظرين مادة للاستقراء فيسفر ذلك الاستقراء عن ملاحظات متكررات من الأفعال النبوية متحدة في العلة والغاية وإن اختلفت بالنوع فيتخذ من ذلك شاهد على مقصد معين من مقاصد الشرع، وهذا ما أشار إليه ابن عاشور في موضع آخر من كتاب المقاصد حينما قال: "ترى جميعهم ( الفقهاء) لم يستغنوا على استقصاء تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم ولا على استنباط العلل، وكانوا في عصر التابعين وتابعيهم يشدون الرحال إلى المدينة ليتبصروا من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم وأعماله وعمل الصحابة ومن صحبهم من التابعين، هنالك يتبين لهم ما يدفع عنهم احتمالات كثيرة في دلالات الألفاظ، وليتضح لهم ما يستنبط من العلل تبعا لمعرفة الحكم والمقاصد" .

بالإضافة إلى هذه الطرق الثلاثة للبحث عن مقاصد الشريعة أشار الإمام إلى أن هناك مبحثا آخر يتنزل منزلة الطريق لإثبات المقاصد، ولكنه لم يعده طريقا وهو طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة، وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصودا لها، واعتذر في ذلك بأن هذا الطريق لم يجد فيه من حجج السلف في تعيينهم للمقاصد ما يجعله يعينه طريقا لإثباتها، فعقد له فصلا آخر خارجا عن الفصل المخصص لطرق إثبات المقاصد.

ب ـ تطبيقات عملية لاستكشاف المقاصد

ولم يكن هذا البيان لمسالك الكشف عن المقاصد مقتصراً على أن يكون بياناً نظرياً يبقى عند حدّ ذاته، بل قد كان الإمام يلتزمه عملياً، فهو في كل أبواب كتابه يعمل على استكشاف المقاصد وفق هذا المنهج، وقد توصّل به إلى نتائج بالغة الأهمية في تقرير مقاصد شرعية لم يُسبق إلى تقريرها.

ويمكن أن نذكر في هذا السياق ما توصّل إليه من عدّ الحرية مقصداً أصلياً من مقاصد الشريعة؛ إذ يقول: "استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة، وذلك هو المراد بالحرية،"  وما توصّل إليه أيضاً من تقرير حفظ المجتمع وكذلك حفظ البيئة مقصدين أصليين من المقاصد، وهو ما أشار إليه في قوله: "إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع، استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقرّة أنّ المقصد العامّ من التشريع، هو حفظ نظام الأمّة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان... وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه".

إنها لمحات مقاصدية مبتكرة أثمرها المنهج الذي رسمه للكشف عن المقاصد، غير أنّ الإمام ليته أدرج هذه الأصول المقاصدية ضمن الهيكل المأثور للضرورات الخمس، فيصبح من قسائمها حفظ المجتمع وحفظ البيئة مثلا، إذاً لكان أحدث في هذا العلم نقلة نوعية بأكثر ما أحدث، ولكنه طريق رسمه للآتين من بعده للتنمية والتطوير كما أشار هو إلى ذلك في خاتمة كتابه.

ولما أقام الإمام بابا من أبواب كتابه خاصا ببيان مقاصد الشريعة في المعاملات، فإنه اعتمد في بيان المقاصد لكل معاملة من تلك المعاملات بحسب الأحكام الواردة فيها على الطرق التي ضبطها، فيما يشبه التطبيق العملي لمنهجية الكشف عن المقاصد التي كان قد قرّرها نظريا، فإذا هو يصدر كل ما يضبطه من المقاصد أو أغلبها ببيان منهجه في الوصول إلى ضبطها.

إنّ الإمام ابن عاشور في بيان هذه المسالك التي تعرف بها مقاصد الشريعة في تفاصيلها قد خطا خطوة مهمّة في واحدة من أهمّ مسائل هذا العلم، وهي مسألة لم تحظ فيما نقدّر بما يناسب أهميتها من البحث لا في القديم ولا في الحديث..ومن أمثلة ذلك ما جاء في صدر بيانه لمقاصد الشارع في أحكام العائلة من قوله: "وقد استقريت ما يُستخلص منه مقصد الشريعة من أحكام النكاح الأساسية والتفريعية، فوجدته يرجع إلى أصلين: الأصل الأول: اتضاح مخالفة صورة عقد النكاح لبقية صور ما يتّفق في اقتران الرجل بالمرأة. الأصل الثاني أن لا يكون مدخولا فيه على التوقيت والتأجيل".

فهذا التحديد لمقاصد أحكام الأسرة إنما تمّ تقريره بمنهج الاستقراء الذي هو أحد الطرق لاستكشاف المقاصد.

وفي المعاملات المنعقدة على أعمال الأبدان كالمغارسة والزارعة والمساقاة يقول الإمام في تقرير مقاصدها: "وقد استقريت ينابيع السنة في هذه المعاملات البدنية على قلة الآثار الواردة في ذلك، فاستخلصت من ذلك أنّ المقاصد الشرعية فيها ثمانية ..." فهو إذن نفس المنهج في استكشاف المقصد الشرعي من الأحكام وهو منهج الاستقراء كما ضبطه في تأصيله .

ومهما يكن من أمر فإنّ الإمام ابن عاشور في بيان هذه المسالك التي تعرف بها مقاصد الشريعة في تفاصيلها قد خطا خطوة مهمّة في واحدة من أهمّ مسائل هذا العلم، وهي مسألة لم تحظ فيما نقدّر بما يناسب أهميتها من البحث لا في القديم ولا في الحديث، والباب فيها مفتوح للمزيد من الاجتهاد، ليس لأهميتها في ذاتها فحسب، وإنما لأهميتها أيضا في تفعيل مقاصد الشريعة تفعيلا تطبيقيا، وهو الأمر الذي دفع الإمام للبحث فيها، فهي إذاً المدخل الأساسي لتوجيه المقاصد توجيها تطبيقيا، وهي خطوة خطاها ابن عاشور في سبيل التطبيق تتلوها خطوات أخرى.

إقرأ أيضا: مسالك المقاصد عند ابن عاشور.. مقارنة بالإمام الشاطبي.. مقدمات أولية

إقرأ أيضا: مقاصد الشريعة بين ظاهر النص وباطنه.. مقارنة بين ابن عاشور والإمام الشاطبي

إقرأ أيضا: مسالك مقاصد الشريعة عند الإمام الشاطبي.. قراءة معاصرة

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير المقاصد الأصول دين أصول مكانة مقاصد أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة صلى الله علیه وسلم مقاصد الشریعة فی الصحابة من هذا الطریق عن المقاصد الشریعة من فی تقریر من مقاصد الکشف عن من تلک إلى أن فی ذلک من ذلک فی هذا

إقرأ أيضاً:

قراءة خلف السطور لحديث البرهان

يقول ماكس فيبر عن الشرعية ( أن نظام الحكم يكون شرعيا عند الحد الذي يشعر فيه المواطنون بأن ذلك النظام صالح و يستحق التأييد و الطاعة)
جاءت ردود الفعل متعددة و متباينة و بعضها تغلف بشيء من الحدة على كلمة الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة و القائد العام للجيش التي كان قد القاها أمام "القوى الوطنية السياسية المجتمعية" ببورسودان.. و ردود الفعل كانت متوقعة لسببين الأول الكل؛ إذا كانوا مجموعات منظمة، أو تحالفات، أو حتى أفراد كان لديهم تصوراتهم الخاصة لفترة ما بعد الحرب، و عن كيفية التعامل مع الواقع الجديد بعد غياب الميليشيا.. و غياب الميليشيا لا يشملها وحدها بل كل القوى السياسية المتحركة في محورها.. القضية الثانية الصراع على السلطة و كيفية التعامل معه، البعض يعتقد أن القيادات العسكرية تريد الاستمرار في السلطة تحت زرائع عيدة.. و آخرين يعتقدون أن الحوار بين القوى السياسية و التوافق هو الذي يجعلهم الأجدر بالسلطة.. و هناك أيضا قوى منتظرة أن تقف الحرب لكي تبدأ ثورة من جديد.. هذا التباين في الأراء و التصورات كان لابد ان يخرج إلي العلن..
و أيضا يمكن القول؛ أن سبب ردود الفعل المتباينة؛ لكلمة البرهان لأنها نقلت الحديث من السر إلي الجهر، و من التفكير الذاتي المغلق إلي التفكير الجمعي بصوت عال،.. و هنا يأتي السؤال لماذا قرر البرهان أن يقول كلمته السياسية أمام " جمع سياسي" و ليس في منبر عسكري؟ مع العلم أن البلاد ما تزال في حالة حرب.. لأن كلمة القائد العسكري في المنابر العسكرية لا تناقش بل هي لرفع الروح المعنوية و توجيهات للتنفيذ .. أما المنبر السياسي يقبل الخلاف و المجادلة حول الرؤية المطروحة و لا يقبل المسلمات.. و بدلا من التخيلات التي لا تسندها وقائع أن تطرح القضية بكلياتها أمام الناس لمعرفة الأراء المختلفة و المتدثرة.. فالخروج بالتفكير إلي العلن هو الذي أدى إلي هذا الحراك السياسي و تقديم الأراء رغم حدة بعضها، و من الضروري أن يخرج النفس الحار من الصدور حتى يستطيع الناس أن يفكروا عقلانيا.. أن غياب القوى السياسية و عجزها أن تقدم تصوراتها تجعل الآخرين يفكرون نيابة عنها، و يملأوا الفراغ الذي تخلفه في الساحة السياسية..
في هذه المقال أطرح أربعة قضايا خلافية و أحاول أقدم فيها رؤية مغايرة للذ تم طرحه في كلمة رئيس مجلس السيادة البرهان:-
القضية الأولي – الوثيقة الدستورية التي ذكرها البرهان و قال أنهم بصدد تعديلها.. أن الوثيقة كانت قد أتخذت شرعيتها بشرعية ثورية و ليست دستورية، و تعديلها أيضا تنقصه الشرعية، و يصبح وضع شاذ جديد في الساحة السياسية.. و المكون العسكري موافق عليه لآن الحركات متمسكة بالوثيقة، ليس لمصلحة عامة، و لكن لكي تبقي علي " اتفاق جوبا" الذي يعطي قيادتها أمتيازات عن الأخرين، رغم أن الحرب جعلت كل ولايات السودان دون استثناء تعاني من التهميش.. و الأفضل الرجوع لشرعية دستورية كان متفق عليها من أغلبية القوى السياسية، و هو دستور 2005م و الذي تترتب عليها نقلة مباشرة للشرعية الدستورية، أي انتخاب رئيس للجمهورية، و الذين يريدون استمرار الجيش في قمة السلطة عليهم بترشيح القائد العام لرئاسة الجمهورية بعد استقالته من موقعه في الجيش، و تكون البلاد انتقلت مباشرة للشرعية الدستورية...
القضية الثانية – السبب الذي أغضب العديد من النخب الإسلامية من كلمة البرهان هي بعد الكلمة من أدبيات السياسة و الدبلوماسية .. إذا كان البرهان قال أن الفترة التأسيسية لا تشارك فيها أية قوى سياسية فقط تشكل من التكنقراط كان حسم الموقف تماما..
القضية الثالثة – غضب الجماهير من قول البرهان أننا سوف نرحب بأي شخص ينزع يده من الجانب الأخر و يتخذ موقا وطنيا.. أن الجماهير رافضة مقولة " عفا الله ما سلف" و هي كلمة مشجعة للأخرين أن يمارسوا ذات الفعل مرة أخرى.. و بالتالي لابد من الإشارة إلي المحاسبة بقدر الجرم الذي وقع من أية شخص.. من الصعب جدا أن تكسب الجماهير عبر مراحل طويلة و سهلا تخسرها بكلمة واحدة.. لا اعتقد هناك أية شخص مع ممارسة افعال الانتقام و لكن ترسيخ مبدأ العدالة مسألة ضرورية في المجتمع حتى لا ينحرف إلي العنف و أخذ الحق باليد..
القضية الرابعة – أن أية سلطة دون جهاز رقابي و محاسبي هي دعوة صريحة للمفسدة.. إذا أصرت السلطة الحالية أن تشكل جهاز تنفيذي من التكنقراط يجب عليها أن تشكل مجلس تشريعي من خلال قيام انتخابات لمجالس الأحياء، و كل ولاية تبعث مناديب يتم اختيارهم انتخابيا من هذه المجالس ليكونوا المجلس التشريعي.. أن شرعية وضع اليد لن تصلح البلاد غير أنها تخلق خلافات عميقة بين الناس..
الحكم ليس شعارات تطلق في الهواء، أنما هي أفكار تقدم للحوار، و الغريب أن الأحزاب المناط بها تقديم المبادرات و الأفكار، أصبحت مجموعة من العناصر تقدم انتقادات سالبة لرؤى الآخرين، دون أن تقدم بدائل للأراء التي ينتقدونها.. صحيح أن الحرب قد وحدت قطاع عريض من الشعب و وقف مع الجيش في معركة الكرامة، و البعض الأخر ذهبوا مقاتلين في الاستنفار و المقاومة الشعبية، هؤلاء جميعا كان هدفهم الانتصار على الميليشيا حتى لا يكون لها وجد مستقبلا إذا كان عسكريا أو سياسيا.. و أيضا عدم الرجوع إلي فترة ما قبل 15 إبريل 2023م .. هذا التحول السياسي لا يمكن التنازل عنه، و الحرب أيضا سوف تخلق قيادة جديدة في المجتمعات السودانية في الأقاليم المختلفة.. هذا التحول يجب قيادة الجيش أن تدركه و تعرف كيف تتعامل معه في ظل الصراع على السلطة.. نسأل الله حسن البصيرة..

zainsalih@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • بعد إقرارها.. ضوابط وإجراءات الاستئناف كأحد طرق الطعن في الأحكام الصادرة بالجنح
  • تشكيليون عرب في ندوة أرت فير كايرو: التراث متجدد ومتطور ويقدم رؤية معاصرة
  • أمين الفتوى بدار الإفتاء: اتباع الموضة جائز بشرط الالتزام بضوابط الشريعة
  • الطعن في الأحكام.. طريقة تقديم المعارضة بمشروع القانون الجديد
  • قراءة خلف السطور لحديث البرهان
  • مزمل أبو القاسم.. قراءة في خطاب البرهان!!!..
  • رئيس جمعية المقاصد في صيدا يهنئ الحكومة الجديدة
  • التنكيس في قراءة القرآن في الصلاة: حكمه وآراء الفقهاء
  • هل تؤثر الشاشات على ذكاء طفلك؟!
  • قراءة في انسحاب المجلس الوطني الكوردي من الائتلاف السوري