"الحرب تسلب الأمم أصواتها الثقافية، وتحول الموروث إلى أطلال."
- إدوارد سعيد
من حقائق هذه الحرب الدائرة منذ الخامس عشر من ابريل 2023، ان اي محاولة لتقدير احجام الخسائر الناجمة عنها، سوف تصبح محاولة ناقصة، او اقل بكثير مما تقوله التصريحات الرسمية لإعلام الطرفين المتحاربين، أو ربما الجهات الدولية المختصة، أو ذات الصلة.
غير ان في الغد ستنجلي المعلومات اكثر عن حجم الضرر البشري والمادي الذي سببته الحرب. ذلك وبلا شك سيشمل أعداد الموتى بسبب قصف أسلحة الطرفين، او بسبب المترتبات الصحية المتدنية، المدمرة التي اوجدتها عمليات التهجير، والنزوح، والتجريد من الممتلكات. كذلك سيكون الفقد المرتبط بالحياة المادية من دمار مؤسسات ، وبيوت ، وموجودات ترتبط بمنجزات الانسان السوداني على مر التاريخ.
غير ان ما يهم هنا، هو التنبيه لمتغيرات الثقافة المادية نفسها في علاقتها بالحرب بتأسيس، وإتفاق مع مقولة فيكتور هوغو بأن "الثقافة تقاوم الحرب، لكن الحرب غالبًا ما تبتلع الثقافة."
ان الاسلامويين في ثنائيتهم المتحاربة بالجيش او الدعم السريع حققوا للخراب ذات نفسه، امنية عزيزة بجعله قدرا يخص السودان والسودنيين، ضمن اخرين، بما إستطاع سحقه في هذه الحرب من وثائق الهويات التاريخية المتعددة.
ان الخراب في هذه الأيام، وفي النسخ الأحدث، يبدو كعملية إبادة كاملة تستهف الإنسان والحيوان والارض بما يحفظه باطنها من ثروات.
ما اود تلمسه بالنقد، أوالتفكير النقدي هنا يتصل بتأثير الحرب على الثقافة والقيم بنقد لمقولة "عندما تتكلم المدافع فعلى الموسيقى أن تصمت.". هذه المقولة المجهولة المصدر، وبحكم تجارب شعوب كثيرة في الحرب او الحروب، تغدو من منتجات النظر السياسي القصير المحدود لماهية العلاقة بين الثقافة، والثقافة الفنية بصفة خاصة، والحرب. فهذا النظر الاحادي البعد يتأسس على افكار تتبنى، او تدعم صحة فرضية أن على الثقافة الفنية أن تكف عن الحديث أثناء الحرب. هذه الفكرة تلغي الدور المناط بالثقافة لعبه في البناء بتجميده وتاجيله لما بعد سكوت البنادق. وهذا يعني أن علي الثقافة الفنية، والتي منها "الموسيقى" ان تصمت أثناء تدفق لغة العنف الحربي.
تلك وفي تقديري نظرة تستبعد فكرة مهمة للغاية عن الحرب كونها تتمظهر بصفة يومية مستمرة ودائمة عبر التخلخل، والتشقق، والتغيير الذي يلحق بالنسق القيمي الثقافي للناس مما ينفي سلامة، وأصالة فكرة تجميد التفكير الثقافي لحين إنتهاء الحرب للبدء في التفكير الثقافي بعدها وإفتتاح أعمال العلاج والتعافي منها.
إن التحولات بالنسق القيمي للناس بازمنة الحرب امر يحدث أثناءها نفسها بما تنتجه من ظواهر أجتماعية، وفنية، وأخلاقية لحماية قيمها، وتصوير نفسها كحرب واقع وكقدر حتمي. فالحرب الحالية، ودونما تمييز للطرفين، او عزل لهما عن بعضهما البعض، هى حرب، وفي العمق الحيوي لها، تقوم على نهب الموارد، وهي وبسبب ذلك الهدف العزيز حرب تعمل على دعم أهدافها الخاصة عبر إنتاج قيمها الأجتماعية، والإقتصادية والفنية والادبية والاخلاقية دفاعاً عن توصيفها الذاتي لنفسها كونها حرب *كرامة*، بالنسبة للجيش، وحرب تخليص وتخلص من غول الإسلامويين *الفلول* بالنسبة للدعم السريع.
إن كلى الطرفين في هذه الحرب القذرة يستلهم ثقافة، وقيم، وفنون قتال ثقافي، كما منازلات إعلامية تروج لمحتوياتها بثقافة إعلامية ذات محتوى فني غنائي وموسيقي، وشعري لتأييد، وتحسين موقفه القتالي بالمعركة بما يؤكد صحة مقولة جورج أورويل " إن الحرب تجعل من الثقافة أداة للدعاية، بدلاً من أن تكون أداة للتنوير.".
وبما ان المهمة المنتظرة بعد توقف الحرب هي البناء الجديد وليس *اعادة البناء* كما هو شائع، فإن البناء الجديد يعني البناء على القيم المضادة، القيم المغايرة لثقافة الحرب من كراهية، وعنصرية قبلية، او حتى انعدام الديمقراطية الداخلية بالأحزاب. يقول مارتن لوثر كينغ "إن أسوأ ما تفعله الحروب هو أنها تجعل البشر ينظرون إلى بعضهم كأعداء، بدلاً من شركاء في الإنسانية." ذلك اذن يقترح ان النشاط الامثل لمقاومة تلك الكراهية يتمثل في أن ننشط أثناء الحرب نفسها لبث روح الإخاء والوحدة في المجتمعات.
ان المواد المكونة للنسق الثقافي القديم، واعني به النسق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفني الذي ساد تصبح جميعها من عداد الماضي. الماضي الذي ساهم بكلياته في اعداد حالة الحرب، ان لم هو ما تسببت في إشعالها أصلاً. ولكن فإن تيارات ومجموعات التفكير السياسي القصير النظر عندنا، ما تفتأ ان تستخدم كماضي ملهم ل "اعادة البناء" بإعتباره مكونا ذا "أصالة" وافضلية. ان ذلك موقف يستبعد ديالكتيك الحرب وما تولده من انساق قيمية جديدة باتت تشكل الحاضر القيمي الثقافي بما نكاد نشاهده، ونشهد عليه، ونتابعه، ونتعرف على عروضه البائسة عبر الميديا الجديدة بهذه الايام وما تضخه من غرائب وصدمات.
ان الحقائق اليومية المستخلصة من هذه الحرب هذه تشير الى استمرارها، واستمرار تدهور البنى البشرية والمادية معا ، مما يضع مهمة البناء بالمستقبل لا تبدا مع سقوط *النظام الثنائي* لحرب الاسلامويون ضد بعضهم البعض* جيش دعم سريع*، بل يجب ان تترافق مع ما يقع من هدم يومي بوجود قوة ثقافية ما، اقرب ما تكون للقوة الثقافية لمكافحة الانهيارات بسبب الحرب، وعلى ذات قاعدة مكافحة الظواهر التي تصنعها الحرب للامراض النفسية والفيزيائية المرتبطة بها وباستمرارها.
هنا اجد أننا سنكون بحاجة لإطلاق ما يمكن تسميتها بالكتلة الثقافية الحرجة التي يجب ان تتنظم للقيام بمهمتها المركزية في الدرء والتخفيف لآثار التدمير القيمي الثقافي الذاتي اليومي. فالدمار او الخراب لم يلحق فقط بقيم السياسة الشاخصة المرئية للجميع. ولكن بقيم الثقافة الاجتماعية التي تذروها الرياح وتتبدل وتتغير يوميا مع هذه الحرب، وبحيث تنتج نسقها القيمي المناوئ للتطور والتقدم. ان من المهم الإبقاء والصيانة للقيم الكبرى هنا والمتمثلة في الحرية والسلام والعدالة ولكن، على الحيز الاجتماعي لمجتمعات العيش والبقاء تحت القصف، ومجتمعات النزوح بالداخل والخارج والتي بدون وجود الكتلة الثقافية الحرجة سوف يكون ما نقوم به من جهود سياسية كما الحرث في البحر.
ان قمة جبل المأساة في النظام السياسي الثنائي المتورط في ادامة الحرب ينشط بمن يسانده ويؤيده من مجتمعات مصالح محلية، واقليمية، وعالمية، وان التخلص من كل ذلك، ومحاصرته لأجل إيقاف الحرب امر مهم وواجب بالطبع. ولكن التفكير السياسي الاستراتيجي الفعال يجب ان يعمل على معالجة الانساق الثقافية الاجتماعية المنهارة بشكل يفوق التوقع والوصف أثناء الحرب في حال اتباع تفكير سياسي قائد جديد . فقيم الفرد والجماعة اذا لم تتحرر من قيم الحرب، ويتم طرد الحرب نفسها من تلك القيم في أثناء إشتعال الحرب سنكون في إنتظار السلام المنقوص. سلام الخيبة والخيبات، وأعني به السلام السياسي. فمثل هذا السلام الذي تجتهد السياسة القديمة لتحقيقه. هنا علينا تذكر شعار اليونسكو القائل بأن الحرب: "تبدأ في عقول البشر، ولذلك يجب أن تبدأ ثقافة السلام من هناك أيضًا.".
إن ثمة اوقات اخرى ستكون في انتظار السلام السياسي ولكنه انتظار لن يكون بأسلحة بيضاء، ويمعركة بريئة تخلصنا منها نوايا السياسي صاحب الحسابات الآنية، ذلك المتعجل للتكوين والمشاركة وتقاسم المناصب في الحكومات. ما أعنيه ان تلك معركة اخرى جديدة تحتاج منذ الان الى اعداد مبكر في الوعي الثقافي الذي عليه أن يبحث عن تكوين كتلته وتمثيها بكافة مستويات العمل السياسي المقاوم للحرب. ان تأجيل المعركة مع النسق القيمي للحرب، هو ذات ما ترمي اليه غايات الاسلامويين من الطرفين في سباقهما المحموم للانفراد بالسلطة او بالتاثير في التشكيلات السياسية المكونة لسلطة ما بعد الحرب حتى تضمن عدم المساءلة عن جرمها الضخم الذي ارتكبته.
ان ما يستدعي التفكير والانتباه في ذات الوقت، هو ادراك، ومعرفة ان الطرفين المتقاتلين يعملان ضمن موقف ثقافي واحد. انه موقف غير معني وفي اطار ذاك النسق بفكرة الجودة، أو التحسين القيمي الثقافي. كلا الطرفين بما يحتويانه من موقف بائس من دمقرطة جودة الحياة نفسها سينصرفان الى غاياتهما الساخنة، لمراكمة اكبر قدر من الحماية، والمحافظة على ما تم نهبه، وارتكابه من جرائم، وإن افضل ما يمكن أن يفعلاه هنا توظيف الأخلاق والقيم بما يخدم مصلحتهما كمنتضرين، وليس توظيف الاخلاق المعبرة عن مصالح الشعوب السودانية وحقها في محاكمتهم. كل ذلك يؤكد أن المعركة الحالية، ومن الناحية الفعلية معركة مدنية ديمقراطية صرفة وحصرية بامتياز، *معركة أكثر من حرب بالنسبة لنا. انها معركة تكشف، وبجلاء، ان اعتبار أن لحظة وضع الحرب لاوزارها هي اللحظة المثالية للبدء في الانخراط ( سياسيًا) بغرض ايجاد الحلول والمعالجات الثقافية النفسية والذهنية، أمر سيعد وبلا ريب كارثة ومأساة لا تقل عن اي كارثة ومأساة أخرى تنبئ عن مجيء حروب مستقبلية، حروب سندفع أثمانها مجددا الأجيال القادمة كونها حروبا محتملة.
wagdik@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: هذه الحرب
إقرأ أيضاً:
النائب عادل اللمعي: رئيس الوزراء استجاب لمطالب الكتلة البرلمانية بمحافظة بورسعيد في مختلف الملفات الشائكة
أكد النائب عادل اللمعي، عضو مجلس الشيوخ، أن الدكتور مصطفى مدبولي قد عقد اجتماع مع الكتلة البرلمانية لمحافظة بورسعيد، لمناقشة الكثير من الملفات الشائكة التي تخص أهالي المحافظة، فقد ناقشت الكتلة البرلمانية ضرورة تخصيص وحدات لمستحقي الإسكان التعاوني وتطوير الأسواق التجارية بحي العرب وإنشاء مجمع تجاري بالمنطقة الجمركية، كما تناولت أيضا شكاوي المواطنين فيما يتعلق بمشكلات البنية التحتية والعمل على وضع خطها للحفاظ على سلامة المواطن، من خلال تطوير وإعادة تأهيل طريق "بورسعيد - دمياط"، وأيضا طريق "بورسعيد - الإسماعيلية" القديم، محور 30 يونيو، الطريق الدولي الساحلي، وكذلك القري الموجودة بغرب محافظة بورسعيد.
وأضاف "اللمعي"، أن اللقاء الذي جمع الكتلة البرلمانية ورئيس الوزراء كان أيضا بمشاركة وفد وزاري مكون من الفريق كامل الوزير، نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير النقل والصناعة، والدكتورة منال عوض، وزير التنمية المحلية، والمهندس شريف الشربيني، وزير الإسكان، ومحمد عبداللطيف، وزير التربية والتعليم، واللواء محب حبشي محافظ بورسعيد، لمناقشة كافة الملفات التي تهم المواطن البورسعيدي، فقد طالبت الكتلة البرلمانية بسرعة إنهاء العمل في استاد النادي المصري والمستشفى الجامعي، لافتاً إلى أن رئيس الوزراء، قد استجاب للكثير من الطلبات المقدمة، بعدما وجه ببناء وحدات سكنية لصالح مستحقي الإسكان التعاوني بالحي الإماراتي علي مساحة 20 فدان بإجمالي 3140 وحدة سكنية، مع الموافقة علي طلب النواب بتخصيص عدد 2420 وحدة سكنية "الإسكان الاستثماري" بمدينة بورفؤاد لصالح مستحقي الإسكان التعاوني بمساحات 110,116,120 كاملة التشطيب بسعر التكلفة .
وأشار عضو مجلس الشيوخ، إلى أن نتائج اللقاء انتهت بتوجيهات رئيس الوزراء، والمهندس خالد صديق، رئيس هيئة تطوير العشوائيات، بإزالة العمارات التي صدر بشأنها قرارات إزالة بمنطقة السيد متولي، وبناء عمارات بديلة لتسكين المستحقين، مع رفع مخلفات البناء من الإسكان الاجتماعي بأبراج اللنش وحتى مرور بورسعيد، مع البدء في تطوير شامل للشوارع التجارية في حي العرب، وتطوير منطقة العرب القديم لإنعاش الحركة التجارية بالأسواق القديمة، كذلك العمل علي إنشاء مجمع تجاري داخل المنطقة الجمركية لتسهيل استيراد البضائع برسم المنطقة الحرة وإمكانية إعادة تصديرها خارج البلاد لإنعاش القيمة السوقية للبطاقة الاستيرادية .
وأوضح النائب عادل اللمعي، أن الكتلة البرلمانية طالبت أيضا بتنظيم مؤتمر اقتصادي تحت رعاية رئيس مجلس الوزراء لتنمية الاستثمار وتنشيط التجارة، كما أثمر اللقاء عن توجيهات
بالدراسة للبدء في تنفيذ فندق عالمي بأرض المتحف والأرض المجاورة، مع تحويل مبنى قبة هيئة قناة السويس إلي متحف، وتطوير الفنار والمنطقة المحيطة به ليكون احد المزارات السياحية الهامة.
وكذلك تطوير البيت الإيطالي الذي تم إنشاؤه القرن الماضي، فضلا عن التأكيد علي التوجيه بإنهاء استاد النادي المصري في يونيو 2025، مع إنشاء منطقة خدمية لوجستية بجوار الجامعة الأهلية ورصف طريق معدية شرق بورسعيد، وكذلك استجاب رئيس الوزراء لمطالب أعضاء مجلسي النواب والشيوخ بالمحافظة بشأن دراسة موقف مرافق منطقة القابوطي خاصة الكهرباء وخطوط التليفون وسرعة إدراج موازنتها، مع سرعة الانتهاء من تقوية شبكات المحمول بطريق 30 يونيو.
كما وجه وزارة العدل بسرعة دراسة موقف تسجيل الوحدات السكنية والإدارية بمدينة بورفؤاد، وشدد أيضا على سرعة الانتهاء من تجهيز المستشفي الجامعي لخدمة أهالي المحافظة.