منذ اللحظة الأولى لإعلان سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، وفراره خارج البلاد، كان واضحًا التفاعل اللبناني الواسع مع الحدث الاستثنائيّ والتاريخيّ، الذي كاد "يتفوّق" في بعض جوانبه على التفاعل السوري مع الحدث، حتى إنّ بعض الأوساط "زايدت" على السوريين أنفسهم، وهو ما عكس في مكانٍ ما الانقسام الداخلي الذي استمرّ طويلاً حول مقاربة الشأن السوري، منذ اندلاع الاحتجاجات ضدّ النظام في العام 2011.


 
وكما تجلّى الانقسام على مدى السنوات الماضية، منذ العام 2011، حتى الأيام الأخيرة، بين فريقٍ اعتبر الدفاع عن النظام دفاعًا عن لبنان في وجه مؤامرة كانت تُحاك ضدّ البلدين والشعبين، وآخر تبنّى المعركة ضدّه حتى الرمق الأخير، ورفض أيّ شكل من أشكال المساومة، فقد ظهر مجدّدًا بعد سقوط النظام، بين فريقٍ اعتبر الأمر بمثابة "انتصار" للبنان كما هو لسوريا، وآخر اختار النظر إلى التطورات بريبة، والتحذير من خطورة "اليوم التالي".
 
وبين الفريقين، ثمّة علامات استفهام بالجملة تُطرَح حول تبعات سقوط النظام، وما يمكن أن يترتّب عليه من أحداث لا تزال مبهَمة وغامضة، على الساحة الداخلية اللبنانية، انطلاقًا من المقولة الشهيرة بأنّ لبنان ليس جزيرة معزولة، وبالتالي فهو لا بدّ أن يتأثّر بما يجري في المحيط، فكيف بالحريّ إذا كان في الجوار الأقرب، فكيف يمكن أن تنعكس التطورات السورية على الساحة الداخلية، وهل تكون التداعيات المحتملة إيجابية أم سلبية؟!
 
ملفان "عالقان وشائكان"
 
لا شكّ أنّ خبر سقوط نظام بشار الأسد في سوريا شكّل "صدمة" لكثيرين في الداخل اللبناني، وإن تفاوت تقييمها بين "إيجابية" أو "سلبية"، ليس فقط باعتبار أنّ الحدث جاء مفاجئًا بسرعة تطوراته الدراماتيكية، التي خرجت عن دائرة التوقعات، ولكن أيضًا لكونه في مكانٍ ما، شكّل "تصفية حسابات" مع تاريخ متأرجح شهدته العلاقة اللبنانية السورية على مرّ السنوات، سواء قبل أو بعد خروج الجيش السوري من لبنان في أعقاب "ثورة الأرز" في العام 2005.
 
لكن، أبعد من الانفعالات التي كان من البديهي أن يحدثها خبر سقوط النظام، والتي تختلط بين ما هو وجداني وما هو عاطفي، فإنّ الحديث عن الانعكاسات على الداخل اللبناني، لا بدّ أن تمرّ أولاً من خلال ملفين شائكين وعالقين، أولهما "تاريخيّ" تمتدّ جذوره إلى عقود طويلة، وهو المتمثّل بملف المفقودين والمغيّبين قسرًا، الذين لطالما نفى النظام وجودهم في سجونه، وهو الملف الذي يأمل اللبنانيون أن يُحسَم نهائيًا الآن، تمهيدًا لإقفاله جذريًا.
 
وإذا كان حسم هذا الملف ينتظر انتهاء عملية الكشف على السجون ودهاليزها، ولا سيما "السرية" منها، فإنّ ملفًا آخر ينتظر اللبنانيون "تحريكه" بعد التطورات الأخيرة، وهو المرتبط بأزمة النزوح التي نشأت بعد اندلاع "الثورة" عام 2011، التي سرعان ما تحوّلت إلى "حرب دموية"، وهي أزمة تفاقمت على مرّ السنوات السابقة، لكن يفترض أن تسلك طريق المعالجات، ولو أنّ هناك من يتريّث في ذلك بانتظار اتضاح صورة المرحلة الانتقالية.
 
انعكاسات على السياسة الداخلية؟
 
إلى هذين الملفين العالقين، واللذين لا بدّ أن يستحوذا على أولوية المتابعات في الأيام المقبلة، وهو ما بدأ يتبلور بصورة أو بأخرى على أكثر من مستوى، ثمّة علامات استفهام تُطرَح حول الانعكاسات المحتملة لما جرى على السياسة الداخلية، خصوصًا أنّ هناك من وظّفه في خانة "الخصومة" مع "حزب الله"، الذي لم يصدر أيّ تعليق رسمي على الأمر، فيما اكتفى أحد نواب بالحديث عن "تحوّل خطير"، وإن أكّد أنّه "لن يضعف" المقاومة.
 
في هذا السياق، ثمّة من يخشى أن تكون تبعات ما جرى سلبية على الداخل اللبناني، بغضّ النظر عن السيناريو الذي ستشهده الأحداث، وذلك من زاوية توظيف ما جرى على مستوى "تعميق الشرخ" بين المعسكرين الأساسيّين، وهو ما كان قد بدأ بشكل أو بآخر بعيد الحرب الإسرائيلية على لبنان، التي خرج منها "حزب الله" بإعلان "انتصار"، وهو ما رفضه الفريق الآخر، الذي بدأ يتعامل مع الحزب، باعتباره في "أضعف" أوقاته على الإطلاق.
 
وإلى الخشية من التبعات السياسية، جاء الدخول الإسرائيلي "المريب" على خطّ الأحداث في سوريا، ليعزّز الهواجس والمخاوف من تبعات، خصوصًا بعدما أضافت إسرائيل سوريا إلى "جبهاتها" المفتوحة، بذريعة "حماية حدودها"، في وقت يخشى كثيرون أن تكون بوارد استغلال الفوضى التي يمكن أن ترافق مثل هذه المرحلة، من أجل فرض أمر واقع جديد، خصوصًا مع الاستيلاء على المنطقة العازلة، واحتلال المزيد من الأراضي.
 
لا تزال "الضبابية" تحيط بشكل وآليات المرحلة الانتقالية التي ستشهدها سوريا في القادم من الأيام، وسط سيناريوهات متباينة، وربما متناقضة، تقلّل من غموضها الإدارة المعتمدة حتى الآن، والتي تغلّب منطق "المواطنة" على كلّ مخاوف التقسيم والطائفية وغير ذلك. وإذا كان من الطبيعي أن يتأثّر لبنان بكلّ هذه السيناريوهات، فإنّ الأهمّ بحسب ما يقول العارفون، يبقى في "تحصين" الساحة، عبر تكريس "الندية" في العلاقات، وعدم تكرار تجارب الماضي! المصدر: خاص "لبنان 24"

المصدر: لبنان ٢٤

إقرأ أيضاً:

صدمة سقوط الأسد

سوريا بدون الأسد، هذه حقائق التاريخ وثمن التضحيات التي دفعها الشعب السوري طوال 14 عاما، ونتيجة طبيعية لمسار حكم العائلة طوال 54 سنة.

قبل ساعات قليلة من فرار بشار الأسد وانهيار منظومته العسكرية والأمنية، وأمام زحف قوات المعارضة السورية باتجاه دمشق، كانت بعض الأصوات المحسوبة على تيار دعم النظام في الداخل السوري ومن بعض الدوائر العربية تحاول تبديد هذه الحقائق، لكن سرعة الحدث وفرض السيطرة، بدلت كل الخطاب الإعلامي الذي حاول حصر المشهد السوري، واختزاله بـ"هيئة تحرير الشام" كتنظيم مدرج على قائمة "الإرهاب"، وإسباغ كل فصائل المعارضة بثوب التزوير مجددا من بوابة الإرهاب، واستحضار "داعش" فزاعة للداخل والإقليم والمجتمع الدولي.

انهيار كل ما علق بصورة الثورة السورية من تزوير، يؤكده مشهد التعامل مع المناطق التي أصبحت تحت سيطرة فصائل المعارضة من الشمال السوري حتى الجنوب بشهية طمأنة مجتمعها وبتطبيق تجربة الضبط الذاتي، ويقول إن هناك شمعة صغيرة بدأت تضيء في سماء وأرض بلدٍ غارق في الظلمة والدمار والموت والقهر لأكثر من خمسة عقود.

صدمة نهاية نظام بشار الأسد، لن تكون محصورة في الحيّز الجغرافي السوري، فحلقة وظيفة النظام كانت مرتبطة بسلسلة عربية إقليمية ودولية لفترة طويلة من حكم الأسدين الأب والابن
وهذا يحتاج لجهود جبارة وعمل كثير يعرفه السوريون تماما، فالتخلص من نظام الأسد وإعادة كشف الندوب الكثيرة التي تركها خلفه، تفتح المجال لبداية طريق جديد بعد التخلص من الاستبداد، وتجعل البحث عن أي حل سياسي غير خاضع لمنطق ومفهوم الأمن والسيطرة، لتجنب الانتكاسة المعهودة في الثورات العربية، كما حدث في مصر وتونس وليبيا واليمن، مع أنها جُربت في سوريا بسلوك النظام السابق وارتباطه الوثيق مع محور الثورات المضادة الذي ظل حتى الثانية الأخيرة من وقت الإعلان عن فراره يدافع عن جرائمه وتبريرها.

من المؤكد أن صدمة نهاية نظام بشار الأسد، لن تكون محصورة في الحيّز الجغرافي السوري، فحلقة وظيفة النظام كانت مرتبطة بسلسلة عربية إقليمية ودولية لفترة طويلة من حكم الأسدين الأب والابن، وسرعة امتصاص هذه الصدمة بدأ بتغيير اللهجة والاستعداد للتواصل مع القوى على الأرض لمحاولة استعادة هذه الحلقة. فما حصل مرعب ومخيف لكل القوى التي كانت ترى في نظام الأسد ضمانة وحائط صد في منع التغيير في المنطقة العربية، وخصوصا في بلدان الثورات المضادة والحلف الداعم لها. ومن هنا تبقى المخاطر قائمة ومحيطة تتربص انتهاز فرصة استنساخ الفشل المطبق في ثورات عربية مغدورة، وهذا ما يستدعي الوعي والانتباه الذي نعتقد أن السوريين بلغوه منذ زمن ارتكاب المجتمع الدولي جريمة منع سقوط النظام.

الفوضى بعد سقوط نظام الأسد حذر منها الطاغية نفسه، وأخاف بها السوريين والعالم، بأن بديل وجوده إرهاب سيعم المنطقة، وكذلك التحذير العربي والدولي من فقدان سوريا لوحدتها وسيادة أرضها، وكأن الفراغ قدر لا رد له لعدم امتلاك السوريين حلا لمعضلة التخلص من قاتلهم.

وكل هذه المحاذير أكذوبة كبرى مستمرة بدون الاعتراف بأن الشعب السوري يمتلك القدرة على تقرير مصيره وبناء دولته على أسس المواطنة والحرية والقانون والدستور. فالمأزق المستحيل انتهى بنهاية عهد الطاغية، وكل الصعوبات والمستحيلات التي حاول فرضها أعداء التغيير في سوريا فشلت، وكل صعوبة ستكون أسهل من رؤية الماضي بتحويل سوريا كلها لمعتقلات وزنازين لم ينته السوريين من فتحها لفتح طاقة أملٍ نحو المستقبل. مهام كثيرة تنتظر السوريين، وآمال أكثر ينتظرها الشعب السوري من النظام العربي؛ أولا التخلص من حالة الذهول والصدمة مما حصل في سوريا، والاعتراف بشرعية مطالب السوريين ببناء وطن موحد يقوم على المواطنة والحرية والتعددية السياسية، والتخلي عن وظيفة الأمن غير المرتبط بالأمن العربي وعمقهفمن كان يخاف على وحدة التراب السوري في النظام العربي الرسمي ليتفضل بالتحرك لمواجهة تمدد الاحتلال بإعادة احتلال أراضٍ جديدة في سوريا، ويصرخ بوجه نتنياهو لتمزيقه اتفاق فض الاشتباك، ويندد ويدين مواصلة المحتل غاراته وعدوانه على سيادة سوريا.

مهام كثيرة تنتظر السوريين، وآمال أكثر ينتظرها الشعب السوري من النظام العربي؛ أولا التخلص من حالة الذهول والصدمة مما حصل في سوريا، والاعتراف بشرعية مطالب السوريين ببناء وطن موحد يقوم على المواطنة والحرية والتعددية السياسية، والتخلي عن وظيفة الأمن غير المرتبط بالأمن العربي وعمقه. فالمخاطر ليست كامنة برغبات ومطالب الشعب السوري، وما أكده السلوك الصهيوني بإعادة احتلال مواقع جديدة في سوريا وضرب مخازن السلاح على الأرض، هو الشيء الأكيد غير الوارد في القلق العربي من أن المخاطر تكمن خارج حدود سوريا وفي الاحتلال نفسه بعد هروب رأس النظام حارس الحدود.

الطريق طويل والمخاطر عديدة في مسيرة بدأت في اليوم التالي لسقوط النظام السوري، لكن المستحيلات المتخيلة والأوهام سقطت، ويمتلك الشعب السوري من المواعظ والتجارب كمّا هائلا يجنبه السقوط في أفخاخ عدة تنصب له. فأنهار الحقد والدم والصواريخ التي بناها النظام ستجف، وملايين الضحايا كلفة النفاق والتخاذل العربي والدولي للسوريين كان لها وقع الصدمة.. انحسار كل ذلك وتخفيفه بحصر المعركة الآن بكيفية إدارة المرحلة الانتقالية في سوريا والانتقال السلس والسلمي للسلطة بدون الغرق بمشاعر القلق هو تعافٍ من صدمة لن تُخلف إعاقة مستحيلة على الشعب السوري، وبكيفية نهوضه مجددا في وطن يسترد حضوره ودوره على الخارطة العربية والدولية.

x.com/nizar_sahli

مقالات مشابهة

  • الإستراتيجية الأميركية في سوريا وسقوط نظام الأسد
  • بعيدًا عن الرياضة! سقوط نظام الأسد
  • التحول الإقليمي الذي أطلقه طوفان الأقصى
  • تداعيات سقوط نظام الأسد على تركيا
  • ما الذي يجب على الحكومة التركية فعله بشأن اللاجئين السوريين بعد سقوط الأسد؟
  • باحثون سوريين يرصدون السيناريو المتوقع لاختيار حكومة جديدة في سوريا بعد سقوط حكومة الأسد
  • الرابحون والخاسرون من سقوط الأسد
  • صدمة سقوط الأسد
  • بعد سقوط نظام بشار الأسد.. ما مصير الأسلحة الكيميائية التي كانت بحوزته؟