بين رحى الإرهاب| سوريا مسرح عمليات التنظيمات الإرهابية المدعومة من الدول الكبرى
تاريخ النشر: 10th, December 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
شهدت سوريا منذ اندلاع الصراع عام ٢٠١١ تحولات جذرية أدت إلى ظهور تنظيمات إرهابية متنوعة، بعضها موالٍ للنظام السوري بقيادة بشار الأسد، بدعم من روسيا وإيران، والبعض الآخر معادٍ له، مدعومًا من الولايات المتحدة، وقد لعبت هذه التنظيمات أدوارًا بارزة في تعقيد المشهد السوري، ما بين القتال المباشر للسيطرة على المدن والقرى، والتي كان آخرها سيطرة هيئة تحرير الشام على أجزاء من مدينة حلب وتجدد الحرب الأهلية مرة أخرى، مع تداعيات وتأثير التدخلات العسكرية الإقليمية والدولية “البوابة” تستعرض أبرز التنظيمات الإرهابية وتصنيفها حسب ولائها أو معاداتها للنظام السوري.
تشمل هذه التنظيمات جماعات مثل حزب الله اللبناني وميليشيات عراقية كـ"عصائب أهل الحق" و"فيلق بدر". تعمل هذه المجموعات تحت مظلة الدعم الإيراني لتعزيز موقف النظام السوري.
للمزيد: المرصد السوري: الميليشيات الإيرانية تجند 9850 عنصرا غرب الفرات
حزب الله اللبناني.. يعد حزب الله اللبناني من أبرز الميليشيات التي لعبت دورًا محوريًا في دعم النظام السوري. دخل الحزب في النزاع السوري تحت شعار "حماية المراقد الشيعية"، خصوصًا في منطقة السيدة زينب بريف دمشق، لكن سرعان ما تحول إلى لاعب أساسي في العمليات العسكرية، مع تطور دوره ليصبح قوة هجومية تدعم العمليات العسكرية للنظام السوري في مواجهة المعارضة المسلحة.
الدور العسكري
ساهم حزب الله في معارك كبرى، مثل معركة القصير عام ٢٠١٣ التى استعاد فيها النظام السوري السيطرة على المدينة الاستراتيجية بفضل تدخل مقاتلي الحزب.
الدور الأمني والسياسي
الحزب لا يقتصر على الجانب العسكري فقط، بل يدعم النظام السوري عبر قنوات دبلوماسية وعلاقات إقليمية مع إيران والعراق.
التأثير الإقليمي.. أسهم تدخل حزب الله في تعزيز النفوذ الإيراني في سوريا، مما عزز من التوترات الطائفية في المنطقة.
الخسائر
تكبد الحزب خسائر بشرية كبيرة في سوريا، مما أدى إلى انتقادات داخلية في لبنان تتعلق بالتورط في الحرب السورية.
للمزيد.. مستقبل حزب الله ودوره في الشرق الأوسط بعد اغتيال حسن نصر الله
الميليشيات العراقية.. قدمت دعمًا عسكريًا كبيرًا للنظام، مستغلة الطابع الطائفي للنزاع.
وتضم الميليشيات العراقية العديد من الفصائل الشيعية التي قاتلت إلى جانب النظام السوري، منها "عصائب أهل الحق"، "فيلق بدر"، و"حركة النجباء".
الأهداف
تعمل هذه المجموعات على تحقيق أهداف سياسية وطائفية، حيث تدعى أنها تدافع عن الشيعة ضد الجماعات المتطرفة مثل داعش.
الدعم الإيراني
توفر إيران التمويل والتدريب لهذه الميليشيات، مما يجعلها امتدادًا لنفوذ طهران فى المنطقة.
العمليات العسكرية
لعبت هذه الميليشيات دورًا كبيرًا في معارك دير الزور وحلب، حيث دعمت الجيش السوري فى استعادة المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة.
الانتهاكات
تم اتهام الميليشيات العراقية بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق بحق المدنيين، بما في ذلك القتل العشوائي والتهجير القسري.
للمزيد.. أمريكا تدرج "عصائب أهل الحق" على قائمة المنظمات الإرهابية
ثانيًا: الميليشيات المحلية
أبرز هذه الميليشيات ما يُعرف بـ"قوات الدفاع الوطني"، وهى ميليشيا مدعومة من النظام تعمل على استعادة السيطرة على المناطق التي فقدها الجيش السوري.
قوات الدفاع الوطني.. هي ميليشيا شبه عسكرية أنشأها النظام السوري في عام ٢٠١٢ وتكونت من متطوعين موالين للنظام وتدربت بدعم من إيران وحزب الله اللبناني وروسيا.
الهيكل التنظيمي
تعمل قوات الدفاع الوطني ككيان شبه مستقل تحت قيادة الجيش السوري. تتألف من متطوعين مدنيين وعسكريين سابقين، وتُدار من قبل قادة محليين موالين للنظام في كل محافظة.
الدعم الإيراني
تُعد إيران الداعم الرئيسي لتشكيل وتدريب قوات الدفاع الوطني، حيث قدمت الخبراء والمدربين والأسلحة.
الأدوار والمهام
لعبت دورًا محوريًا في الصراع السوري من خلال:
- الدعم العسكري.. شاركت في العمليات القتالية إلى جانب الجيش السوري فى استعادة المناطق التى كانت تحت سيطرة المعارضة المسلحة، مثل حلب وحمص وريف دمشق.
- لعبت دورًا كبيرًا فى معركة حلب التي استمرت لسنوات، وساهمت في استعادة السيطرة على المدينة بالكامل فى عام ٢٠١٦.
- كان لقوات الدفاع الوطني وجود قوي في حمص، حيث شاركت فى استعادة حى بابا عمرو الذى كان معقلًا للمعارضة.
- شاركت في معارك الغوطة الشرقية وداريا، وهما منطقتان استراتيجيتان كانتا تحت سيطرة المعارضة.
الانتهاكات
تورطت قوات الدفاع الوطني في حملات اعتقال واسعة النطاق وتعذيب المدنيين فى المناطق التى أعادت السيطرة عليها. واتُّهمت عناصر من هذه القوات بنهب الممتلكات فى المناطق التى استعادوها من المعارضة. إلى جانب عمليات قتل جماعى للمدنيين، خاصة فى المناطق التى تعتبر معارضة للنظام.
للمزيد.. اشتباكات عنيفة بين قوات "الدفاع الوطني السوري" ومسلحي "الأسايش"
ثالثًا: التنظيمات المعارضة لبشار الأسد١ - داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)ظهر تنظيم داعش لأول مرة في العراق وسرعان ما انتقل إلى سوريا مع بداية الحرب السورية. ليكون بمثابة كقوة رئيسية فى المشهد السوري عام ٢٠١٤، مستغلًا الفوضى وانعدام الأمن فى البلاد ليبسط سيطرته على مساحات واسعة، أهمها مدينة الرقة التى أصبحت عاصمته.
الأيديولوجية
يعتمد تنظيم داعش على تفسير متطرف للشريعة الإسلامية، حيث يفرض قوانين صارمة تشمل إقامة الحدود، مثل الجلد والقطع والرجم. كما قام التنظيم بتجنيد الأطفال والشباب من خلال دعايته الإعلامية واسعة الانتشار، ولعل العديد من الممارسات الوحشية، ما جعل التنظيم يُصنف كأحد أخطر الجماعات الإرهابية فى العالم.
السيطرة الإقليمية
فى أوج قوته عام ٢٠١٤، سيطر التنظيم على ما يقرب من نصف سوريا، بما فى ذلك مدن مثل تدمر ودير الزور، وحقول النفط فى شرق البلاد، مما أكسبه ثروات وموارد إضافية للتمويل.
الرقة.. جعلها التنظيم مركزًا لعملياته وقاعدته الإدارية، حيث أقام نظام حكم قمعى يستغل السكان المحليين.
التمويل.. اعتمد داعش على بيع النفط المهرب، وفرض الضرائب على السكان، وتجارة البشر، بالإضافة إلى الدعم المالى غير المباشر من متعاطفين حول العالم.
المعارك والانهيار
واجه التنظيم ضربات قوية من قوات التحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة، وكذلك من قوات سوريا الديمقراطية والجيش السوري.
معركة الرقة.. كانت نقطة تحول فى هزيمة التنظيم، حيث فقد السيطرة على المدينة فى عام ٢٠١٧.
استمرار الخلايا النائمة.. رغم انهيار "الخلافة"، لا يزال التنظيم يشكل تهديدًا عبر خلاياه النائمة التى تنفذ هجمات متفرقة.
الانتهاكات
ارتكب التنظيم مجازر مروعة بحق الأقليات الدينية والعرقية فى سوريا، مثل الإيزيديين والمسيحيين، بالإضافة إلى عمليات الحرق والذبح والقتل الجماعي.
للمزيد.. التطورات على الأراضي السورية.. هل تمنح داعش قبلة الحياة؟
٢ - هيئة تحرير الشام
تعتبر هيئة تحرير الشام، التى كانت تُعرف سابقًا بـ"جبهة النصرة"، أحد أكبر التنظيمات المعادية للنظام السوري.
النشأة والتطور
تشكلت هيئة تحرير الشام نتيجة اندماج عدة فصائل مسلحة، أبرزها جبهة النصرة، والتى كانت الفرع السورى لتنظيم القاعدة. أعلنت الهيئة انفصالها عن القاعدة فى محاولة لتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي.
السيطرة الجغرافية
تسيطر الهيئة حاليًا على معظم محافظة إدلب وبعض المناطق فى شمال غرب سوريا، وبدأت فى السيطرة على مساحات من مدينة حلب، ولا تزال المعارك بينها وبين الجيش السورى وروسيا مستمرة.
إدلب.. تعتبر إدلب المعقل الرئيسى للهيئة، حيث تدير المنطقة عبر "حكومة الإنقاذ السورية"، وهى حكومة مدنية تتبع للهيئة.
العمليات العسكرية.. خاضت الهيئة معارك ضد النظام السورى وضد فصائل معارضة أخرى، مثل أحرار الشام.
الأيديولوجية
رغم انفصالها عن القاعدة، لا تزال الهيئة تتبع أيديولوجية متطرفة تعتمد على فرض تفسير متشدد للإسلام.
التعليم والإعلام.. تدير الهيئة مدارس ومعاهد إعلامية تروج لفكرها، مع فرض قيود صارمة على الحريات فى المناطق التى تسيطر عليها.
التحديات والانتقادات
تواجه الهيئة انتقادات واسعة بسبب ممارساتها القمعية تجاه المدنيين والفصائل المعارضة الأخرى.
علاقتها مع تركيا.. رغم تصنيفها كمنظمة إرهابية من قبل المجتمع الدولي، تسعى الهيئة لتحسين علاقاتها مع تركيا لضمان بقائها فى إدلب.
للمزيد.. تأثيرات هيئة تحرير الشام على التنظيمات المتطرفة
٣ -الجيش السورى الحرالنشأة والتكوين
تأسس الجيش السورى الحر فى يوليو ٢٠١١ بعد انشقاق عدد من ضباط الجيش السورى رفضًا لقمع الاحتجاجات السلمية التى اندلعت فى البلاد. كان الهدف المعلن للجيش السورى الحر هو الإطاحة بنظام بشار الأسد وإقامة نظام ديمقراطي.
الهيكل التنظيمي.. فى بدايته، ضم الجيش السورى الحر تشكيلات من المدنيين المسلحين والعسكريين المنشقين، لكن لاحقًا تعرض لعدة انقسامات أثرت على قوته وفعاليته.
الدعم الخارجي.. تلقى دعمًا من دول إقليمية ودولية مثل تركيا وقطر وبعض الدول العربية، بالإضافة إلى دعم لوجستى من الولايات المتحدة وأوروبا.
المناطق التي سيطر عليها
فى الفترة الأولى من النزاع، تمكن الجيش السورى الحر من السيطرة على مساحات واسعة من سوريا، خاصة فى شمال البلاد وريف دمشق.
معارك كبرى.. خاض الجيش معارك شرسة ضد قوات النظام، مثل معركة حلب ومعارك الجنوب السورى فى درعا والقنيطرة.
ضعف السيطرة.. مع مرور الوقت، خسر الجيش السورى الحر العديد من المناطق لصالح النظام السورى أو الفصائل المتطرفة مثل داعش وهيئة تحرير الشام.
التحديات التي واجهها
الانقسامات الداخلية.. تسببت الخلافات الأيديولوجية والسياسية فى تفكك الجيش السورى الحر إلى فصائل متعددة، منها من انحرف نحو التطرف.
التمويل: رغم تلقيه دعمًا كبيرًا فى البداية، تعرض الجيش السورى الحر لنقص فى التمويل والتسليح، مما أضعف قدرته على الصمود أمام قوات النظام والتنظيمات المتطرفة.
التنافس مع الفصائل الأخرى.. دخل فى صراعات مع فصائل أخرى، مثل داعش وهيئة تحرير الشام، التى كانت تسعى للسيطرة على المناطق نفسها.
بمرور الوقت، أصبح الجيش السورى الحر أكثر ارتباطًا بالدعم التركي. تحول دوره بشكل أساسى إلى قوة تخدم الأجندة التركية فى الشمال السوري، خاصة فى العمليات العسكرية مثل "درع الفرات" و"غصن الزيتون".وينشط الجيش السورى الحر الآن فى المناطق الحدودية مع تركيا، حيث يعمل كقوة حليفة لأنقرة فى مواجهة قوات سوريا الديمقراطية والنظام السوري.
للمزيد.. "السوري الحر" في 10 بلدات ينضم لقوات النظام
٤ - قوات سوريا الديمقراطية
النشأة والتكوين.. تأسست قوات سوريا الديمقراطية (قسد) فى عام ٢٠١٥ كتحالف يضم مقاتلين أكراد وعرب وسريان. كان الهدف الأساسي للقوات هو محاربة تنظيم داعش وإقامة حكم ذاتى فى شمال وشرق سوريا.
العناصر الأساسية.. المكون الرئيسي لقسد هو "وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)"، والتى تشكلت فى شمال سوريا وتلقت دعمًا كبيرًا من الولايات المتحدة، فهب الداعم الأساسي لقسد، حيث قدمت لها الدعم العسكري واللوجستي فى إطار التحالف الدولى لمحاربة داعش.
المناطق التى تسيطر عليها
تمكنت قسد من السيطرة على مناطق واسعة فى شمال شرق سوريا، بما فى ذلك الرقة ودير الزور، التي كانت معاقل رئيسية لداعش.
الهيكل الإداري
أقامت قسد إدارة ذاتية فى المناطق التي تسيطر عليها، تُعرف بـ"الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا".
السياسة الداخلية: تدير الإدارة الذاتية شئون المناطق من خلال مجالس محلية، مع التركيز على تمثيل جميع المكونات العرقية والدينية.
التحديات الداخلية.. تواجه قسد تحديات من السكان المحليين العرب الذين يعترضون أحيانًا على سيطرة العنصر الكردي.
الصراعات مع الأطراف الأخرى
النظام السوري.. رغم وجود هدوء نسبى بين الطرفين، إلا أن النظام السوري يعتبر قسد قوة انفصالية وهدد أكثر من مرة باستعادة السيطرة على مناطقها.
تركيا.. تعتبر تركيا قسد امتدادًا لحزب العمال الكردستاني (PKK)، المصنف كمنظمة إرهابية. لذا شنت تركيا عدة عمليات عسكرية ضدها، أبرزها "نبع السلام" عام ٢٠١٩.
داعش.. خاضت قسد معارك دامية ضد داعش وتمكنت من هزيمته فى معاقله الرئيسية، لكنها لا تزال تواجه تهديد الخلايا النائمة التابعة للتنظيم.
للمزيد.. حفظ الاستقرار.. «قسد» تكثف عمليات التفتيش والتعقب لخلايا داعش النائمة
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: سوريا التنظيمات الإرهابية الإرهاب في سوريا مصطفى حمزة النظام السوري الارهاب قوات الدفاع الوطنی العملیات العسکریة حزب الله اللبنانی الولایات المتحدة هیئة تحریر الشام فى المناطق التى للنظام السوری النظام السوری المناطق التی الجیش السوری السیطرة على قوات سوریا التى کانت ا کبیر ا فى شمال
إقرأ أيضاً:
النظام العالمي ينهار أمام أعيننا
ترجمة: أحمد شافعي -
بعد أسبوع ابتدأ بأسوأ اضطراب مالي في التاريخ الحديث وانتهى بأخطر تصعيد حتى الآن في الصراع الصيني الأمريكي، حان الأوان للتمييز بين التحولات لكبيرة والزلزال. إذا لم يتغير شيء، فإن العقد الحالي من هذا القرن سوف يبقى في الذاكرة باعتباره عقد الشيطان، وقد استعمل المؤرخون هذا المصطلح في وصف ثلاثينيات القرن العشرين من قبل. لن يسمه فقط موت سبعة ملايين إنسان بسبب وباء كوفيد 19 وارتفاع الفقر والتفاوت في العالم، ولكن سوف يسمه أيضًا تمزيق أوكرانيا، وإحراق غزة، وأهوال إفريقيا وغزة التي لا تكاد تلتفت إليها الأخبار، وكل عنصر من هذه يشهد على إزاحة عنيفة للنظام العالمي القائم على القواعد لصالح نظام قائم على القوة.
فها هو أمام أعيننا يتعرض كل عمود من أعمدة النظام القديم للهجوم، فلا يقتصر الأمر على التجارة الحرة إنما يمتد إلى سيادة القانون والأهمية التي طالما أوليناها لحقوق الإنسان والديمقراطية وحق الشعوب في تقرير المصير، والتعاون متعدد الأطراف بين الأمم بما في ذلك من مسؤوليات إنسانية وبيئية كنا نقبلها ذات يوم بوصفنا مواطنين عالميين.
تحولات القوة هي بالطبع مادة التاريخ. وفي غضون قرنين، شهدنا قيام وانهيار أربعة أنظمة عالمية.
الأولان منها ـ أي توازن القوى الذي نشأ بعد هزيمة نابليون في مطلع القرن التاسع عشر ونظام معاهدة فرساي في ما بعد 1918 المولود بعد انهيار أربع إمبراطوريات حاكمة ـ انتهيا بكارثة الحربين العالميتين.
ثم جاء تنظيم ما بعد 1945 بقيادة الولايات المتحدة والأمم المتحدة، وبعد عام 1990 الذي شهد تفكك الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، جاء ما أطلق عليه الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب «النظام العالمي الجديد».
والآن، إذ يتحول ميزان القوى الاقتصادي شرقًا، ويترسخ مذهب تجاري جديد، فإن ما كان يسمى بإجماع واشنطن لم يعد يلقى دعمًا في أي مكان، ولا في واشنطن نفسها. فالملايين الآن يرفضون العولمة إذ يرون أنها كانت «متاحة للجميع» ولم تكن منصفة للجميع. فما هي بالتجارة المفتوحة لكنها العكس، أي قيودًا على التجارة باتت الآن تروج باعتبارها مسار أمة إلى الرخاء.
لقد كانت حيلة الرئيس ترامب التكتيكية تتمثل في استغلال التحولات العميقة التي كانت ماضية بالفعل في إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للعالم: أولا، الفجوة المتسعة بين فوائد العولمة وبين ما حققته في حياة الناس اليومية، فأصبح ترامب أبرز مناهضي العولمة في العالم. كما أنه رأى كيف يمكن أن يستفيد بحملات التواصل الاجتماعي المتواصلة عبر هواتف الناس، فيحيي نظرية «الرجل العظيم» التاريخية فقد أظهر له بوتين وشي وأردوغان وكيم يونج أون قدرة القادة الشعبويين، وإن كانوا طغاة، على تحديد الأجندات.
غير أن تقلبات ترامب الهائلة تنذر بخطر أكبر. إذ يبدو أن شعار «دع الفوضى تسُد ولا تكبح جماحها» هو السائد، ورغم وجود أمل مستمر في أن يظهر عما قريب حكمٌ أشبه بالطبيعي، فلم يعد هذا الأمل أساسًا منطقيًا للتخطيط المستقبلي لأحد. فبدلا من ذلك، مع مخاطرة الولايات المتحدة والصين بتسريع وتيرة المواجهة بينهما إلى مستويات جديدة، يصبح هذا هو السؤال المطروح: هل نتجه نحو مستقبل فيه «عالم واحد ونظامان»، أم أننا ببساطة نتجه نحو الفوضى العارمة التي وسمت تاريخ أغلب القرون السابقة؟ وهل ثمة فرصة الآن لبناء نظام عالمي مستقر ومستدام؟
الواضح بعد الأحداث الأخيرة هو استحالة استعادة النظام العالمي الرابع. فنحن لا نعيش في عصر تتزايد فيه الحمائية فحسب، بل ننتقل من عالم أحادي القطب كانت الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة الوحيدة فيه، إلى عالم يضم مراكز صنع قرار أكثر تنوعًا. ولكن لأننا أيضًا في عالم أكثر ترابطًا، فنحن أكثر عرضة للأزمات ـ
من الأوبئة وحالات الطوارئ المناخية إلى العدوى المالية. ويزداد الأمر سوءًا لأن الدول قادرة، كما رأينا هذا الأسبوع، على تحويل هذا الترابط إلى سلاح تستغله لصالحها مثلما تستغل نقاط الاختناق التي ينشئها. فلو أننا راغبون في الوصول إلى ما يشبه نظاما قائما على القيم، فسوف يكون لزاما علينا في مرحلة ما أن نتفق على ميثاق عالمي محدَّث لمستقبلنا المشترك، ميثاق يقوم على ميثاق الأطلسي لعام 1941 وميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 ولكنه مصمم لقرن مختلف تمامًا.
ومثلما قال وليم بيفريدج آنذاك: «إن اللحظة الثورية في تاريخ العالم هي لحظة الثورات، لا لحظة الترقيع». على مدار الأيام القليلة الماضية، صدرت دعوات إلى التعاون متعدد الأطراف من قادة إسبانيا والبرازيل وجنوب إفريقيا، وهم رؤساء هذا العام لثلاثة مؤتمرات عالمية: المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية، ومؤتمر الأمم المتحدة الثلاثين لتغير المناخ، ومجموعة العشرين. وكتب رئيس الوزراء الماليزي ورئيسا كولومبيا وجنوب إفريقيا: «علينا الآن، مجتمعين، أن نتحد لتطبيق القانون الدولي. والخيار واضح: إما أن نعمل معا من أجل تطبيق القانون الدولي أو نخاطر بانهياره».
ينبغي أن تتعهد جميع الدول المؤمنة بالتعاون الدولي بأن يقدم هذا الجيل، من خلال تعددية جديدة، حلولًا عالمية لما أصبح الآن مشاكل عالمية حتمية لا يمكن حلها من خلال عمل الدول القومية بمفردها أو من خلال اتفاقيات ثنائية فحسب. ثانيا، وباعتبارها لبنات أساسية في هذا المستقبل، ينبغي أن ينخرط تحالف الراغبين هذا على الفور في تعاون عملي بشأن القضايا الملحة التي لا يمكن حلها من خلال الدول القومية ـ
من قبيل الأمن العالمي، والمناخ، والصحة، والاحتياجات الإنسانية، بالإضافة إلى تدفق التجارة. وينبغي العمل على تحديث المؤسسات الدولية المعنية بهذه القضايا.
وثالثا، ينبغي أن نسعى إلى بناء جسور للتواصل مع المشككين من أمثال ترامب، وذلك بالاتفاق معه على ضرورة المعاملة بالمثل وتقاسم الأعباء بشكل عادل بين الدول، ولأن هذا العالم مثقل بالديون، فعلينا أن نقترح سبلا مبتكرة وعادلة لجمع الموارد اللازمة لتحويل هذه الالتزامات إلى أفعال.
ومن خلال معالجة إخفاقات عصر العولمة المفرطة، يمكننا جميعا أن نسعى جاهدين من أجل عالم لا يكون مفتوحا للتجارة وحدها، وإنما يشمل جميع من تخلفوا عن الركب.
قبل مائتي عام، في أوقات مماثلة بالغة الأهمية، دعا زعيم بريطاني إلى «إيجاد عالم جديد يعيد التوازن إلى العالم القديم»، والدرس المستفاد من التاريخ هو أن أي نظام جديد قابل للدوام يجب أن يقوم على أساس المبادئ الراسخة، لا على رمال المصلحة المتحركة والتفسير الضيق للمصالح الوطنية.
لقد كان جوهر ميثاق الأطلسي، إعلان التعاون الدولي المستوحى من روزفلت، يتمثل في مجموعة مبادئ تشيد بالحريات الأساسية ـ ضد استخدام القوة والحمائية، ومن أجل تقرير مصير الدول والعقود الاجتماعية الوطنية التي من شأنها سد الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وحتى لو لم يكن ترامب مناصرًا لأي من هذه الأهداف حتى الآن، فإننا لم نفقد كل شيء بعد: فوفقا لتحالف القيادة العالمية الأمريكية، يعارض 82% من الأمريكيين الانعزالية، معتقدين أن الولايات المتحدة تكون أقوى عندما «تنخرط في العالم».
وفي حين أنه لم يعد بإمكان الولايات المتحدة قيادة عالم أحادي القطب بالإملاء على الآخرين، فإن بوسعها أن تقود عالمًا متعدد الأقطاب من خلال الإقناع.
والمؤسف أنه، على الرغم من جهود كير ستارمر الشجاعة، لا يمكن لأحد الآن ضمان عدم تفتيت أوكرانيا - ومواردها - بما يشجع الطغاة في كل مكان. ولكن بوسعنا توجيه البوصلة الأخلاقية التي سترشدنا وتجعلنا أكثر استعدادًا للتحديات المقبلة.
وإننا نبقى معرضين لخطر تكرار الانزلاق إلى الفوضى العالمية في ثلاثينيات القرن العشرين، ولكن من خلال العمل المشترك بين الدول، يمكننا أن نخلق لحظة مماثلة لتلك التي شهدتها أربعينيات القرن العشرين عندما نبدأ في المهمة الجبارة المتمثلة في بناء النظام العالمي الخامس في العصر الحديث.
جوردون براون شغل منصب رئيس وزراء المملكة المتحدة من 2007 إلى 2010.