لقد كان أسبوعًا مثيرًا حول العالم «تاريخ المقال 6 ديسمبر». فرئيس كوريا الجنوبية فرض الأحكام العرفية في بلاده. لكنها قوبلت بالرفض من البرلمان الذي شرع في اتخاذ خطوات لعزله. وفي فرنسا تم حجب الثقة عن رئيس الوزراء وحكومته لأول مرة منذ أكثر من 60 عامًا. هذه الأحداث رغم تباينها تشترك في موضوع ضمني هو أزمة المؤسسات الديموقراطية.

ظاهريا، تمثل كوريا الجنوبية قصة نجاح مذهلة. فاقتصادها ازدهر بمعدل نمو يزيد عن 5% على مدى خمسة عقود متتالية. وهذا معدل قياسي، وكوريا الجنوبية اليوم أكثر ثراء من اليابان بمقياس الناتج المحلي الإجمالي للفرد. لكنها مع ذلك ظلت تعاني من استقطاب حاد ومعارك سياسية ضارية.

خلفية إعلان الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول فرض الأحكام العرفية تتمثل في سنتين ونصف من الانسداد بين المعارضة الليبرالية والرئيس المحافظ. لقد اتهمته المعارضة باستخدام سلطات الحكومة لمهاجمة خصومه ووسائل الإعلام. واتهم هو بدوره المعارضة بسوء استخدام سلطاتها من خلال محاولة عزل أعضاء حكومته. وربما سينتهي هذا النزاع بتحريك إجراءات عزله هو نفسه. (شرعت المعارضة البرلمانية في ذلك لكنها فشلت- المترجم.)

في فرنسا الحكاية مختلفة ولكنها تتسق مع ما حدث في كوريا الجنوبية. فالرئيس ايمانويل ماكرون ظل يحاول لسنوات تمرير إصلاحات أثار العديد منها معارضة شديدة. آخر إصلاح تقدم به رفع سن استحقاق راتب التقاعد ويمكن تشريعه فقط عبر إجراء نادر الاستخدام ويتجاوز البرلمان. لقد تعرض حزبه السياسي الوسطي في الانتخابات الأخيرة إلى هزيمة نكراء. ويسيطر على البرلمان الآن أقصى اليمين وأقصى اليسار وتواطآ لإسقاط رئيس الوزراء.

الموضوع المشترك (في هذه الديمقراطيات) هو تآكل ثقة الناس في المؤسسات الديمقراطية التقليدية والنخبة التي تديرها. في استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث في عام 2023 ذكر 85% من الأمريكيين البالغين أن المسؤولين المنتخبين «لا يهتمون بما يفكر فيه الناس من أمثالنا». وقال 80% إنهم يشعرون بالغضب أو الإحباط تجاه الحكومة الفيدرالية. هذا الإحساس بالغضب الشديد من النخب الحاكمة لا يقتصر على الولايات المتحدة. فالأحزاب السياسية الرئيسية في كل بلد من ألمانيا وإلى اليابان تعرضت لضربات قاسية في الانتخابات.

نحن نجتاز فترة تغير سريع أو ما أسميته «عصر الثورات» الاقتصادية والتقنية والثقافية. فالأنماط القديمة تُطرح جانبًا. وتواجه كوريا الجنوبية الآن حقبة جديدة من النمو الأكثر بطئًا والتدهور السكاني، وتقترن بهما تطلعات اجتماعية أكبر. أوروبا بدورها تواجه عهدًا جديدًا من المهددات من روسيا ومن المنافسة الاقتصادية من الصين ومن أمريكا الأقل استعدادا لأن تكون زعيمة سخية.

كثيرا ما لاحظ الناس تدهور الثقة في مجتمعات عديدة وخصوصا في الولايات المتحدة. لكن وكما ذكر الكاتب ديريك طومسون ما يحدث حقا ليس فقط تدهور ولكن تحول في الثقة. فالناس فقدوا الثقة في المؤسسة الطبية ويولون ثقتهم باطراد لمقدمي برامج البودكاست (الإذاعية الرقمية) من أمثال آندرو هيوبرمان وبيتر عطية (بل حتى إلى ساسة من شاكلة روبرت كنيدي الابن). لقد فقدوا الثقة في وسائل الإعلام التقليدية وينقلون تلك الثقة إلى صحفيين ومعلِّقين أفراد.

لقد فقد عشرات الملايين من الجمهوريين إيمانهم بحزبهم وعلقوا آمالهم على فرد واحد هو دونالد ترامب. هذا الانتقال من المؤسسات إلى الأفراد يسرته التقنيات الجديدة التي أتاحت للأفراد الحصول على ذلك النوع من التمدد والنفوذ الذي كان في السابق حكرًا على المنظمات الكبيرة.

المشكلة هي أن الديمقراطية الليبرالية تقوم على المؤسسات والإجراءات. فحكومة الفرد هي في النهاية حكومة الأهواء المتقلبة. جائزة نوبل في الاقتصاد لهذا العام حصل عليها علماء طرحوا أسئلة بسيطة هي: لماذا تفشل معظم البلدان في أن تكون ثرية وناجحة؟ وما الذي يفسر نجاح القلة التي حققت ذلك؟ الإجابة التي قدمها هؤلاء العلماء هي المؤسسات القوية. فالبلدان القليلة التي تخلصت من الفقر وسوء الحكم أقامت مؤسسات وإجراءات جيدة ونزيهة تتجاوز الفرد. ذلك يفسر لنا لماذا أصبحت سويسرا وهي بلا سواحل وفقيرة في الموارد واحدة من أغنى البلدان في العالم مقارنة ببلدان أخرى مثلها بدون سواحل وفقيرة الموارد ولكنها عاجزة. كما يفسر ذلك أيضا لماذا سنغافورة وهي شريط ساحلي مليء بالمستنقعات لديها الآن أحد أعلى متوسطات الدخل في العالم.

اتَّسمت الديموقراطية الليبرالية بتأكيدها على الإجراءات وليس النتائج. نحن (في الغرب) نحترم الإجراءات حتى حين نكره نتائجها. فالاندفاع للحصول بسرعة على ما نريد حتى إذا كان ثمن ذلك تجاوز الإجراءات وتقويض المؤسسات أمر بالغ الخطورة. ذلك صحيح عندما يعين ترامب موالين له يتبعونه تبعية عمياء لقيادة وزارات مفتاحية. كما إنه صحيح أيضًا عندما يصدر جو بايدن عفوًا (رئاسيًا) عن ابنه بعدما وعد الشعب الأمريكي بعدم التدخل في عمل النظام العدلي.

إذا قادنا الإحساس بالإحباط من مشاكلنا المؤقتة الحالية إلى التخلي عن مؤسساتنا الراسخة التي أقامت الديمقراطية الليبرالية سنكون قد أدرنا ظهورنا لواحدة من أهم إنجازات البشرية في التاريخ الحديث.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کوریا الجنوبیة

إقرأ أيضاً:

كوريا الجنوبية تسجل أطول مدة استخدام للذكاء الاصطناعي في ديسمبر

أظهرت بيانات اليوم السبت، أن الكوريين الجنوبيين استخدموا خدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي الرئيسية لأطول فترة في الشهر الماضي.
ووفقًا للبيانات التي جمعتها شركة أبحاث سوق الهواتف المحمولة "وايز أب.رتيل.غودز"، فقد أمضى مستخدمو الهواتف الذكية الكوريون 900 مليون دقيقة على منصات "شات جي بي تي"، و"ايه دوت"، و"WRTN"، و"بيربلكستي"، و"مايكروسوفت كوبايلوت"، و"كلود" في ديسمبر.
وكان هذا الرقم هو الأعلى على الإطلاق، وأكثر من ثمانية أضعاف الرقم المقابل للعام السابق البالغ 110 ملايين دقيقة.
وفي الشهر الماضي، كانت خدمة "شات جي بي تي" من "أوبن إيه آي" هي خدمة الذكاء الاصطناعي التوليدي الأكثر استخدامًا في كوريا الجنوبية؛ إذ بلغ عدد مستخدميها 6.82 ملايين.
واحتلت خدمة المساعد الذكي "ايه دوت" من "إس كيه تيليكوم"، المرتبة الثانية بعدد 2.45 مليون مستخدم، تليها "WRTN" بعدد 2.32 مليون، و"بيربلكستي" بـ 590 ألف مستخدم، و "مايكروسوفت كوبايلوت" بعدد 310 آلاف مستخدم، و"كلود" بعدد 120 ألف مستخدم.
يذكر أن "WRTN" هي منصة تجميعية لأدوات الذكاء الاصطناعي من تطوير شركة "Wrtn" الكورية الناشئة في هذا المجال، و"بيربلكستي" محرك بحث عالمي للذكاء الاصنطاعي، و"كلود" مساعد ذكاء اصطناعي أنشأته شركة "أنثروبيك" الأميركية.

أخبار ذات صلة الإمارات الأولى «أوسطياً» في استخدام الذكاء الاصطناعي بالتصنيع الدوائي طحنون بن زايد: الاستثمار في التكنولوجيا يعزز الإنتاجية والتنافسية العالمية المصدر: وام

مقالات مشابهة

  • كوريا الجنوبية تسجل أطول مدة استخدام للذكاء الاصطناعي في ديسمبر
  • صادرات كوريا الجنوبية في قطاع الطاقة النووية تصل لمستوى قياسي
  • موجة برد تجتاح كوريا الجنوبية وانخفاض الحرارة إلى 15 تحت الصفر
  • مؤيدو رئيس كوريا الجنوبية المعزول يتظاهرون أمام مقر إقامته.. فيديو
  • ما حقيقة هروب رئيس كوريا الجنوبية المعزول؟
  • رئيس كوريا الجنوبية المعزول يتوارى عن الأنظار.. والشرطة تُكثف ملاحقته
  • فشل محاولة الاعتقال الثانية لرئيس كوريا الجنوبية المعزول
  • اعتصام مفتوح أمام إقامة رئيس كوريا الجنوبية وشائعات عن فراره
  • رئيس كوريا الجنوبية يواجه محاولة اعتقال ثانية بتهمة التمرد
  • رئيس كوريا الجنوبية يواجه محاولة اعتقال ثانية