منذ بداية طوفان الأقصى بلور التفكير الأمريكي خطرين استراتيجيين على واشنطن وعلى إسرائيل كيانها الوظيفي المزروع الذي يضمن هيمنتها على العرب الضعفاء ويضمن لها أكبر حصة من نفطها وبترو-دولارها:

الخطر الأول ذو طابع جيوسياسي وهو أن محور المقاومة قادر تدريجيا على زعزعة احتلال إسرائيل لفلسطين؛ فقد أثبت هجوم ٧ أكتوبر المباغت هشاشة الجيش الإسرائيلي بسقوط غلاف غزة في لمح البصر وأثبتت صواريخ غزة وجنوب لبنان والإيرانيين قدرتها على تهديد كامل جغرافيا فلسطين التاريخية بما فيها الوصول لغرفة نوم رئيس حكومتها.

ترتيبا على ذلك حسمت أمريكا خياراتها في الانتقال من تدوير الصراع مع محور المقاومة خاصة حماس والجهاد في فلسطين وحزب الله في لبنان عبر جولات منفصلة إلى الحسم بالتصفية التامة أو بشلل يعجزها عن المقاومة لسنوات طويلة. يجري بعده الانتقال لإيران نفسها بإسقاط نظامها من الداخل ومنعها بكل السبل من الوصول للسلاح النووي ومن ثم إبقاء المنطقة تحت رحمة السلاح النووي الوحيد الموجود احتكارا في يد إسرائيل.

معروف ما فعلته أمريكا من اشتراك مباشر مع الجيش الإسرائيلي في تدمير المقاومة وتدمير غزة لأول حرب إبادة غير مسبوقة في التاريخ المعاصر. اعترف بهذه الإبادة الباحثون والمؤرخون الإسرائيليون بل وحتى وزير الدفاع ورئيس الأركان الأسبق موشيه يعلون. ومعروف كذلك أن ما فعلته مؤخرا من دفع للجماعات الإرهابية في سوريا بالتعاون مع إسرائيل وتركيا وأطراف عربية لها ثأر مع نظام الأسد هو جزء من سعيهم لتقويض محور المقاومة بإخراج سوريا ركيزة هذا المحور والوسيط الجغرافي لإيصال إمدادات إيران العسكرية لحزب الله والمقاومة الفلسطينية التي بدونها ما تمكنت المقاومة من منع إسرائيل من شطب القضية الفلسطينية خاصة وقد نفضت الدول العربية يدها من المواجهة مع إسرائيل.

الخطر الاستراتيجي الثاني الذي رصدته أمريكا واستطلاعات رأيها وسفاراتها هو تحقيق الوحدة الشعورية للجماهير العربية في دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية بعد طوفان الأقصى وزيادة شعبية حركات المقاومة وانحسار تأييد السلطة الفلسطينية ونبذها خضوع النظام العربي الرسمي. أي تحققت وحدة الانحياز الكامل لخيار المقاومة واليأس التام من مسار التسوية السياسية والتطبيع الذي لم يجلب غير الاستيطان والحصار وتحويل الفلسطينيين لمعسكرين متواجهين أحيانا بالدم كما في ٢٠٠٧.

هذه الوحدة الشعورية استعادت روح الانتماء لأمة عربية واحدة بوصلتها هي قضية فلسطين. حطمت هذه الوحدة الشعورية كل ما أنجزته أمريكا وإسرائيل منذ كامب ديفيد من تحويل النزاعات العربية الرسمية إلى نزاعات بين الشعوب. وحرضت لجان إلكترونية إسرائيلية متخفية تحت أسماء عربية كل شعب عربي على الكراهية والسخرية من أشقائه من الشعوب العربية الأخرى. ذاب ذلك كله بفضل طوفان الأقصى ووحدت المقاومة وغزة السنة والشيعة والتيارات الثقافية والسياسية العربية. سنحت فرصة تاريخية لإعادة الحياة إلى الحركة الشعبية العربية وخلق ظهير شعبي للمقاومة متحلق حول فلسطين. هذه الوحدة الشعورية كان مظهرها المخيف المقلق للأمريكيين هو تصاعد مشاعر العداء والكراهية للولايات المتحدة في تقارير سفاراتها بالمنطقة بصورة لم تحدث من قبل بما يعنيه من نشوء أجيال عربية كاملة تطلب الثأر من أمريكا وتراها العدو الحقيقي وإسرائيل مجرد الأداة.

هذا هو الإنجاز الاستراتيجي الأكبر لطوفان الأقصى الذي قض مضجع صانع الاستراتيجية الأمريكي: الأغلبية الساحقة للأمة العربية منحازة لخيار المقاومة والعداء للولايات المتحدة لدعمها المطلق لإسرائيل في احتلالها للأراضي الفلسطينية وفي حرب إبادة الفلسطينيين.

وهنا تتضح خطورة تحريك الهجوم الكبير للجماعات المسلحة في سوريا من قبل التحالف الأمريكي - التركي - الإسرائيلي في أنه موجه عمدا لإعادة شعوب الأمة العربية لحالة التطاحن المذهبي (سني وشيعي)، والاثني (كردي، أمازيغي، عربي)، والطائفي (مسلم ومسيحي) وضرب الوحدة الشعورية الشعبية مرة أخرى. وإذا كان الكثيرون يرون وعن حق أن ما يحدث في غزة ليس حربا وإنما عملية إبادة جماعية وتطهير عرقي فإن هذا المقال يرى أن ما يحدث في سوريا ليس حربا وإنما فتنة بين الشعوب العربية وتياراتها الفكرية والسياسية. السبب في ذلك معروف فإذا كانت فلسطين قادرة على توحيد كل العرب حول خيار المقاومة، حتى المعارك الإعلامية التي رآها الناس حول جدوى طوفان الأقصى ظلت خلافا بين النخب الموالية للغرب ونخب التحرر الوطني لم تمس الشعوب التي حسمت أمرها مع المقاومة منذ صباح ٧ أكتوبر. المشهد السوري هو النقيض تماما فمن بدايته في ٢٠١١ هو مشهد استقطابي تقسيمي حتى على المستوى الشعبي فالتيارات الإسلامية اعتبرت إسقاط نظام سياسي مغلق سبب كافي لاستدعاء الناتو «القرضاوي والبيانوني» وللقيام بتسليح جماعات الإرهاب بينما التيارات القومية واليسارية المعارضة للنظام وسجنت فترات في عهوده أصرت على رفض التدخل الأجنبي وتحويل حراك عام ٢٠١١ إلي حرب أهلية تدعمها واشنطن وتركيا ودول عربية وتمسكت بوحدة سوريا وحل النزاع مع النظام سلميا.

دفن هذا الاستقطاب المرير خمسمائة يوم ونحو ما يقرب من ١٧ شهرا فقام الأمريكيون بإيقاظ الفتنة مرة أخرى وإحيائها مرة أخرى. كان محزنا بقدر ما هو سيريالي احتفاء أطراف عربية داعمة للمقاومة بنصر لجماعات مسلحة تعرف أنه سيحطم محور المقاومة ويمنع إمدادها بالسلاح، وأنها وقفت دون أن تقصد في معسكر نتنياهو ورئيس الكنيست الذي اعترفوا بأن تقدم جبهة تحرير الشام في صالح إسرائيل ويزيد من ضعف المقاومة. وكان مخيفا ويأتي من دنيا العجائب والغرائب أيضا أن داعمي المقاومة من الشعوب والنخب تحولوا في الأسبوع الأخير من هجوم المسلحين على حلب وحماة وحمص من التعلق بوسائل الإعلام الداعمة للمقاومة الفلسطينية طيلة الحرب إلى متابعة وسائل الإعلام العربية التي كانت تعادي المقاومة وتنحاز لإسرائيل. السبب في أن الإعلام الداعم للمقاومة طيلة الحرب تحول مع سوريا للاحتفاء بتقدم الجماعات المسلحة على النظام السوري وأصبح محللوه مرة واحدة يصفون ميليشيات المقاومة بالميليشيات الشيعية التابعة لإيران. بينما تحول الإعلام المعادي للمقاومة لكن القلق من عودة الجماعات المتطرفة إلى دعم الحكومة السورية والتحذير من تقدم جبهة تحرير الشام. عاد الارتباك والاستقطاب الشعوري والحيرة والبلبلة للمواطن العربي العادي بعد الوحدة بشأن فلسطين والمقاومة. وعاد الإسلاميون من جهة والقوميون واليساريون من جهة أخرى لحرب داحس والغبراء القديمة. قد تنجح الأنظمة العربية المتنازعة بشأن سوريا في الوصول لحل ميكافيلي عن طريق ما يسمي «بالآستانة بلس» وقد لا ينجحون. لكن ضياع المكسب الاستراتيجي لطوفان الأقصى في تحقيقه لوحدة شعور الأمة وإيمانها بأنها يمكن أن تهزم العدو وتستنزف قواه، سيأخذ وقتا طويلا جدا حتى يمكن استعادته واستعادة روح الأمة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: محور المقاومة طوفان الأقصى

إقرأ أيضاً:

بذكرى النكبة.. إغراق القدس بأعلام إسرائيل ومستوطنون يتوعدون الأقصى

في اليوم الخامس من شهر مايو/أيار حسب التقويم العبري، يحتفل الإسرائيليون كلّ عام بما يسمى بـ"يوم الاستقلال" ويغرقون شوارع القدس بالأعلام الإسرائيلية. وفي هذا التاريخ من عام 1948، وقبل يوم واحد من انتهاء الاحتلال البريطاني لفلسطين، أعلن رئيس مجلس الشعب ديفيد بن غوريون آنذاك عن إقامة دولة إسرائيل، وقرأ وثيقة استقلالها، ووقّع الحضور عليها خلال احتفال أُقيم بمتحف "تل أبيب".

ويرتبط هذا اليوم بذكرى نكبة الشعب الفلسطيني لأن دولة الاحتلال أُقيمت بعد تهجير الفلسطينيين من مدنهم وقراهم وأراضيهم، وباتوا مشتتين داخل وطنهم وخارجه ويحملون صفة "لاجئين".

وفي السنوات الأخيرة أيضا، بات الاحتفال بـ"يوم الاستقلال" الإسرائيلي يرتبط بالمسجد الأقصى، مع إصرار جماعات المعبد المتطرفة على إقحام هذا المقدس في كافة المناسبات الوطنية، لا الدينية فقط.

مستوطنة ترفع العلم الإسرائيلي أثناء اقتحامها المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال في مناسبة سابقة (مواقع التواصل) مناسبة لانتهاك الأقصى

وتدلل الأرقام في العامين الأخيرين على أن هذه المناسبة أُدرجت على قائمة الاقتحامات الجماعية لأولى القبلتين، وحسب إحصائيات دائرة الأوقاف الإسلامية اقتحم المسجد في هذه المناسبة من العام الماضي 526 متطرفا ومتطرفة، بزيادة بلغت 11% عن عام 2023 الذي سبقه والذي اقتحم الأقصى فيه 474 مستوطنا.

وشهدت الساحات انتهاكات عدة، أبرزها رفع العلم الإسرائيلي، وترديد النشيد الوطني (هاتيكفا)، وتنفيذ طقس السجود الملحمي (وهو طقس ديني يعني الانبطاح الكامل واستواء الجسد على الأرض ببسط اليدين والقدمين والوجه بالكامل)، وأداء الصلوات التوراتية، وينتظر المسجد هذا العام الانتهاكات ذاتها مع نيّة الجماعات المتطرفة التلويح بالأعلام بشكل جماعي.

وتصادف هذه المناسبة هذا العام يوم الخميس الأول من مايو/أيار، وبدأت منظمات ونشطاء جماعات المعبد بحثّ أنصارهم على اقتحام المسجد الأقصى ورفع العلم فيه، ونشر الرئيس التنفيذي لمنظمة "بيدينو" المتطرفة توم نيساني تصميما يُظهر مصلى قبّة الصخرة المشرفة وحولها عشرات الأعلام الإسرائيلية، وكتب "برأيي أهم مكان للتلويح بعلم إسرائيل في يوم الاستقلال القادم هو على جبل الهيكل (المسمى التوراتي للمسجد الأقصى)".

لافتة مرفوعة في شوارع تل أبيب تدعو لرفع الأعلام الإسرائيلية في المسجد الأقصى (مواقع التواصل) تشويه متعمد

وعلى صفحة المنظمة ذاتها على موقع فيسبوك نُشرت صورة للافتة ضخمة رُفعت في طريق "أيالون" السريع في تل أبيب ظهرت فيها القبّة الذهبية وعلم إسرائيلي يغطي نصفها وكُتب عليها "في يوم الاستقلال يُرفرف العلم في جبل الهيكل".

إعلان

ولا يكتفي هؤلاء المتطرفون بآلاف الأعلام الإسرائيلية التي شوّهت الفضاء العام في القدس، بل تتعمد بلدية الاحتلال نشرها في كافة الشوارع الرئيسية في شرقي وغربي المدينة بما في ذلك محيط البلدة القديمة.

ولاحظ سكان حي رأس العمود (أحد أحياء بلدة سلوان) النشر المبتذل للأعلام أمام سور القدس من الناحية الشرقية، الذي تظهر من خلفه قبّتا المسجد الأقصى الذهبية والرصاصية.

احتفالا بما يسمى "عيد الاستقلال" الإسرائيلي.. سلطات الاحتلال ترفع الأعلام الإسرائيلية في شوارع مدينة القدس المحتلة.
وكانت جماعات الهيكل قد دعت إلى رفع العلم الإسرائيلي داخل المسجد الأقصى يوم الخميس المقبل في الأول من مايو/أيار احتفالا بالذكرى التي تتزامن مع ذكرى النكبة… pic.twitter.com/ofoGDMkAsj

— الجزيرة نت | قدس (@Aljazeeraquds) April 28, 2025

"مجابهة الاقتحام بشد الرحال"

ومن المتوقع أن ينجح المستوطنون المقتحمون للمسجد الأقصى في رفع العلم الإسرائيلي داخل الساحات هذا العام، وذلك على ضوء تمكنهم من تحقيق ذلك في هذه المناسبة خلال العامين المنصرمين.

خطيب المسجد الأقصى ورئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس الشيخ عكرمة صبري قال للجزيرة نت، معقّبا على دعوات الجماعات المتطرفة لرفع العلم داخل الأقصى، إن هذه الجماعات تستغل المناسبات المتعددة من أجل الانقضاض على الأقصى، مضيفا أن "الذكرى التي يحيونها بالنسبة لنا هي ذكرى أليمة".

وتطرق صبري إلى ارتفاع وتيرة اقتحامات المسجد منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزة، معتبرا ذلك "عدوانا واستباحة واستفزازا لمشاعر المسلمين"، ويجب مجابهة ذلك بشدّ الرحال، وهو النداء القائم إلى يوم القيامة والذي وجهه الرسول محمد صلّى الله عليه وخاطب به "كل مسلم يستطيع الوصول للأقصى لإعماره والدفاع عنه".

صبري: يجب مجابهة الاقتحام بشدّ الرحال إلى الأقصى وهو واجب على كل مسلم يستطيع الوصول إليه لإعماره والدفاع عنه (الجزيرة) أعمال عدوانية

وختم خطيب الأقصى حديثه للجزيرة نت بالقول إن الأخطار زادت بحق الأقصى، والجماعات اليهودية قامت بتصرفات لم تقم بها سابقا كالصلوات التلمودية والانبطاح الملحمي ورفع الأعلام وغير ذلك، وكل ذلك "أعمال عدوانية تجاوزية لا يحق لهم أن يقوموا بها لمسجد قرره الله أن يكون للمسلمين من فوق سبع سماوات".

إعلان

أما المحامي المقدسي بلال محفوظ فقال إن فكرة الاقتحامات بحد ذاتها خطيرة وتشكل تهديدا للأمن والسلم المقدسي بشكل خاص، بسبب ردود الفعل على امتهان كرامة المسلم الدينية في المسجد الأقصى الذي يعتبر واحدا من أهم ثلاثة مساجد في العالم.

ووصف المحامي المقدسي تكثيف الدعوات لاقتحام الأقصى يوم الخميس المقبل بـ"الاستفزاز وفرض السيادة من خلال رفع الأعلام" خاصة أن المناسبة وطنية ولا علاقة لها بـ"الهيكل المزعوم".

وتهدف جماعات المعبد من خلال هذه الدعوات لتكريس فكرة الاقتحامات الجماعية للأقصى، وجعلها أمرا واقعا في كافة المناسبات اليهودية.

مقالات مشابهة

  • منظمة عربية تطلق مبادرة لدعم التعليم في فلسطين
  • سويسرا تحظر حركة المقاومة الفلسطينية حمـ.ـاس
  • غارات إسرائيلية على صحنايا.. ومفتي سوريا: فتنة يشعلها الأعداء
  • مفتي سوريا: فتنة صحنايا يشعلها أعداء الوطن والأمة ولا رابح منها
  • شيخ العقل يحذر من مخططات لزعزعة الوحدة الوطنية في سوريا
  • عاجل. جنبلاط: إسرائيل تسعى لاستغلال الدروز لإحداث فتنة في سوريا
  • بذكرى النكبة.. إغراق القدس بأعلام إسرائيل ومستوطنون يتوعدون الأقصى
  • دنابيع السياسة العربية.. من دنبوع اليمن إلى دنبوع فلسطين
  • مندوب فلسطين لدى مجلس الأمن: ندعو كل الدول لـ دعم الحكومة الفلسطينية وخطة إعمار غزة
  • بلجيكا: ليس لـ “إسرائيل” حق السيادة على الأراضي الفلسطينية