“تقدم”: معارضة الإنقاذ “دور تاني” (1-2)
تاريخ النشر: 9th, December 2024 GMT
ملخص
بدت كلمة حمدوك في عنتيبي عن نزع الشرعية عن حكومة بورتسودان “الكيزانية” شاهداً آخر على أن “تقدم” لم تفرغ بعد من معارضة الإنقاذ، مع قولها إنها “نظام مباد” ورئيسه “مخلوع”.
قال رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية والتقدمية “تقدم” عبدالله حمدوك في عنتيبي بدولة أوغندا في الثالث من ديسمبر (كانون الأول) الجاري إن اجتماعات الهيئة القيادية لمنظمته ستتناول نزع الشرعية عن الحكومة السودانية، التي تدير عملها من مدينة بورتسودان “حكومة بورتسودان”، لأنها ربما، كما سبق له القول، تأتمر بأمر الإسلاميين.
ولا يملك المرء أن يسأل هنا إن كانت “تقدم” هي جبهة لمعارضة الحكومة القائمة، أم إنها اختصت بوقف الحرب بين طرفيها، وهما الحكومة وقواتها المسلحة، بدفعهما للتفاوض. ولا يعرف المرء أيضاً إن كان نزع الشرعية عن القوات المسلحة والتي تأتمر بأمر الإسلاميين في عقيدة “تقدم”، هو الخطوة القادمة لأنها لم تعد في نظر “تقدم” سوى ميليشيات خالصة للمؤتمر الوطني أيضاً.
كما لا يعرف المرء جريرة هذه الحكومة تحديداً التي دعت “تقدم” لطلب إزالتها؟ وما لقيت “تقدم” منها من عراقيل خلال شغلها في إنهاء الحرب مما استدعى نزع الشرعية عنها؟ وهل سيتنزل محوها من ظهر بسيطة السودان برداً وسلاماً عليه؟
يخشى المرء أن تكون “تقدم” جاءت لحل حكومة بورتسودان “بعادة المعارضة” التي اكتسبتها منظماتها خلال نضالها الطويل ضد الأنظمة الديكتاتورية في السودان. وهذه العادة هي محض غيظ لا يلطفه فكر استراتيجي يفرق بين الحكومة والدولة ولا الوطن. وإذا كان ثمة ما يذكر لحمدوك خلال رئاسته للوزارة الانتقالية أنه فكك بعد جهد جهيد النظام الفادح من العقوبات الدولية على السودان، التي ألجمت بها المعارضة حكومة الإنقاذ. فدفع السودان 335 مليون دولار عام 2021 مثلاً تعويضاً لضحايا السفارات الأميركية في كينيا وأوغندا والمدمرة كول التي اتهم بها ليزيل اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب. فكان حمدوك ورث دولة موبوءة بالمقاطعة تناصرت حكومة الإنقاذ ومعارضتها معاً في صنعها.
وعادة المعارضة هي كل ما في جعبة “تقدم” في خطاب الدولة والجيش الدائر من حول الحرب الناشبة. فتجيء “تقدم” إلى محاكمة الدولة، لا بما اصطلح العلم في تعريفها بل بالاحتجاج عليها لأنها لم تكن الدولة الديمقراطية المدنية السعيدة التي أرادوها لوطنهم. فقالت الصحافية رشا عوض بخطأ الوقوف في يومنا مع هذه الدولة التي كانت قواتها المسلحة “أداة لوأد الديمقراطية لأكثر من نصف قرن”. فلا تكون الدولة الحديثة في رأيها إلا بالديمقراطية.
وربط رشا للحداثة بالديمقراطية خطأ بيِّن. فالديمقراطية ليست سوى واحدة من ضروب التعاقد السياسي في الدولة الحديثة. فتكون الدولة الحديثة على حداثتها كيفما تعاقد الناس فيها، وبمثل هذه المحاكمة للدولة جعلت “تقدم” للدولة غاية، كأن تجسد برامجهم السياسة للحكم المدني الديمقراطي التي قاوموا دولة الإنقاذ من أجلها وأسقطوها. وكان بلغ بأهل “تقدم” التأذي من دولة الإنقاذ حداً طلبوا به ليومنا حل الدولة وتسريح الجيش كما رأينا من حديث حمدوك. وغائية الدولة، مثل أن يكون الهدف منها العدل بين الناس في الدولة الدينية أو الاشتراكية، مما لم يعد الشاغل في علم اجتماعها كما كان الحال قبلاً. وجاء العالم الألماني ماكس فيبر بهذه القطيعة مع غائية الدولة. فعرف الدولة بأنها التي لها حصرياً احتكار استخدام القوة على أبدان أهلها.
وأراد فيبر بهذا أن ينأى كعالم اجتماع من الخوض في حكم القيمة على موضوع دراسته، أي الدولة. فحقها في احتكار السلاح من حقائقها وكفى. وليس من وظيفة العلم أن يقرر في أخلاقية هذه الشرعة للدولة. وما تبقى للعلم هو أن يدرس الوسائل التي تستخدمها الدولة التي لها دون سواها توظيف القوة على من هم تحتها، أو ما يطلق عليه فيبر “أشراط السيطرة”. وبعبارة، تخلص فيبر من حمولة تعريف الدولة بالغاية الأخلاقية منها التي رأيناها تستولي على العقول في “تقدم”. وكان الأهدى أن يدرسوا “أشراط السيطرة” هذه في دولة الإنقاذ مثل بيوت الأشباح وغيرها لتعزيز الوعي ببرنامجهم للتقدم والديمقراطية، وتثقيف التغيير ليقع بدماثة ومتانة وفطانة لا في مثل الهرج الذي اكتنف دولة ثورة 2019 وطوى صفحتها بصورة معجلة.
غير أن بعضهم في “تقدم” جاء بفهم للدولة في تعريفها كالهيئة التي لها الحق الحصري في احتكار السلاح، ولكنه ما لبث أن ارتد عنه إلى مدخره من ثقافة مقاومتها. فقال خالد عمر يوسف القيادي في “تقدم” بعد الثورة وقبل الحرب إن قوات “الدعم السريع” تهدد وجود الدولة ولا بد من الخلاص منها بدمجها في القوات المسلحة، لأنه “لا يمكن أن نسمح بتعدد الجيوش”. وسمى هذا الدمج بـ”أولوية” لأنه بغير توحيد الجيش فمستقبل السودان وتحوله إلى الديمقراطية في مهب الخطر، وعزز حجته بقوله إنه بالوسع إعفاء ضباط القوات المسلحة الأعضاء بمجلس السيادة وردهم إلى بيوتهم، ولكن من أين لنا إعفاء محمد حمدان دقلو وأخيه عبدالرحيم، أي ما سلطاننا على جيش سلالي في مصطلح أهل اليمن، ولكنه نصح مع ذلك بالتروي في محو “الدعم السريع” من خريطة العسكرية السودانية لأنه صار فينا غزير العدد، قوي العتاد، واسع النفوذ العالمي.
ولكن ما اندلعت الحرب حتى تخرط خالد من عادة الثقافة إلى عادة المعارضة. فاحتج على من يقول من الإسلاميين إن “الدعم السريع” ليس من الدولة. فقال إنهم مع ذلك من جاؤوا به من رحمهم، ورعرعوه في أكنافهم بجعله جيشاً في حد ذاته بقانون مجاز من البرلمان في دولة الإنقاذ عام 2017. بل وظل ضباط “الدعم السريع” وجنوده، في قوله، يصرفون رواتبهم من خزانة الدولة حتى بعيد الحرب. ولم يتفق لخالد الشرعية التي يضفيها غيره للجيش والدولة في يومنا، فقد انتفت هذه الشرعية عن الجيش و”الدعم السريع” منذ انقلابهما على الوثيقة الدستورية (2019) والحكومة الانتقالية خلال الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021. وهكذا نزع خالد الشرعية عن الدولة و”الدعم السريع” معاً في غمرة احتجاجه على إطاحة دولتهم التي رهنوا التحول الديمقراطي بها. وهذه ردة إلى عادة المقاومة. ونواصل
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: نزع الشرعیة عن دولة الإنقاذ الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
تحالف “تقدم” ودوره في مستقبل السودان
زهير عثمان
في ظل المشهد السوداني المعقد، يمثل تحالف "تقدم" المدني بصيص أمل للعديد من السودانيين الباحثين عن طريق يفضي إلى السلام والاستقرار. يقود هذا التحالف رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، وهو شخصية حظيت بثقة محلية ودولية خلال الفترة الانتقالية السابقة. في وقت تنحصر فيه الخيارات السياسية بسبب تصاعد الحرب والانقسامات الداخلية، يبرز "تقدم" ككيان يسعى لجمع السودانيين حول رؤية موحدة تنقذ البلاد من أزمتها.
يتميز "تقدم" بقدرته على مخاطبة كافة الأطياف السودانية، مقدماً خطاباً مدنياً يدعو إلى التعايش السلمي وإنهاء العنف. من خلال تبني قضايا مثل المساعدات الإنسانية والممرات الآمنة، يسعى التحالف ليكون مظلة جامعة تنطلق منها الحلول للأزمة الحالية. لكن، وبالرغم من هذه الطموحات، يبقى التساؤل حول قدرته على الصمود والريادة في مواجهة تحديات سياسية واجتماعية متعددة قائماً.
قراءة في وضعية "تقدم" والمعارضة السودانية
يواجه "تقدم" تحدياً مزدوجاً يتمثل في الحفاظ على تماسكه الداخلي من جهة، ومواجهة تعقيدات المشهد السياسي السوداني من جهة أخرى. المعارضة السودانية بمختلف أطيافها باتت أسيرة حالة من التشرذم والاستقطاب، وهو ما يجعل التنسيق الفعّال بين مكوناتها أمراً صعباً. ورغم ذلك، يتمتع "تقدم" بفرصة نادرة لفرض نفسه كقوة مدنية قادرة على تعبئة الشارع وإحداث تغيير حقيقي.
لكن، للوصول إلى هذه المكانة، يحتاج التحالف إلى تجاوز مجموعة من الإشكاليات. أولا، غياب الحضور الميداني يجعل ارتباطه بالجماهير ضعيفاً، خصوصاً في المناطق المتضررة من الحرب. ثانياً، الانتقادات الموجهة للتحالف بسبب تبنيه لبعض الخيارات المثيرة للجدل، مثل الدعوة إلى حكومة المنفى أو الحظر الجوي، تُضعف موقفه الشعبي. ثالثاً، قدرة التحالف على بناء جسور مع المكونات السياسية الأخرى، سواء داخل المعارضة أو مع الأطراف العسكرية، تبدو محدودة حتى الآن.
التفكير في خيارات المعارضة المستقبلية
المشهد السوداني الراهن يفرض على المعارضة، بما فيها "تقدم"، إعادة تقييم استراتيجياتها. في ظل غياب إجماع وطني حقيقي، تبرز الحاجة إلى طرح رؤية شاملة لا تقتصر على إنهاء الحرب، بل تمتد إلى إعادة بناء الدولة وفق أسس مدنية وديمقراطية.
تحالف "تقدم" يمتلك القدرة على لعب دور محوري في هذا السياق، لكنه بحاجة إلى تطوير آليات عمل تعزز تواصله مع الجماهير وتضمن استدامة نشاطه السياسي. كما يجب أن يعمل على توسيع قاعدته لتشمل قطاعات جديدة من السودانيين، مع التركيز على القضايا الملحة مثل النزوح والفقر والبطالة.
الدعوة للتفكير العميق
ما يحتاجه السودان اليوم ليس مجرد تحالفات سياسية تقفز على الأزمات دون حلول جذرية، بل كيانات تدعو للتفكير العميق في مستقبل البلاد. "تقدم"، في هذا السياق، يمكن أن يكون منصة لإعادة توجيه المعارضة السودانية نحو مسار أكثر اتساقاً مع تطلعات السودانيين.
هذه اللحظة هي اختبار حقيقي ليس فقط لتحالف "تقدم"، بل لكل المعارضة السودانية. فإما أن تنجح في تقديم بديل مدني شامل وواقعي، وإما أن تبقى عاجزة عن مواكبة تعقيدات المرحلة، تاركة الفراغ للقوى العسكرية لتحديد مستقبل السودان.
التحديات المستقبلية لتحالف "تقدم"
في سياق البحث عن حلول للأزمة السودانية، يبقى تحالف "تقدم" في مواجهة خيارات مصيرية تتطلب منه تجاوز معوقات العمل السياسي التقليدي في السودان. المشهد السياسي الحالي يفرض تحديات عميقة تتطلب استراتيجيات مبتكرة تشمل:
إعادة صياغة الخطاب السياسي:
رغم الطابع المدني الجامع لخطاب "تقدم"، إلا أن المشهد السوداني بحاجة إلى رسائل أكثر وضوحاً وواقعية تعكس هموم الناس اليومية. يجب على التحالف أن يوازن بين الطموحات الكبيرة كالسلام والديمقراطية، والاحتياجات المباشرة مثل الأمن، والمعيشة، وإعادة الإعمار.
الارتباط بالمجتمعات المحلية:
لا يمكن لأي تحالف مدني أن يحقق نجاحاً مستداماً دون أن يكون له وجود فاعل في المجتمعات المتأثرة مباشرة بالأزمة. المناطق التي تعاني من النزوح والفقر والعنف بحاجة إلى مبادرات ملموسة تُظهر جدية "تقدم" في التفاعل مع قضايا الشعب، وهو ما سيعزز ثقة الجماهير في التحالف.
بناء شراكات سياسية:
لكي يحقق "تقدم" رؤية موحدة للسودان، عليه تجاوز الانقسامات الحالية وبناء جسور حقيقية مع القوى السياسية الأخرى، بما في ذلك الحركات المسلحة والتيارات المختلفة. التنسيق المشترك سيكون عاملاً حاسماً في تقديم جبهة موحدة قادرة على مواجهة التحديات.
فرصة للريادة المدنية
رغم الصعوبات، فإن السودان يقدم اليوم فرصة نادرة لإثبات جدوى التحالفات المدنية كبديل حقيقي للسلطة العسكرية. من خلال التركيز على الإصلاحات المؤسسية وبناء أسس ديمقراطية، يمكن لـ"تقدم" أن يساهم في إعادة تعريف العمل السياسي السوداني، وجعله أكثر اتساقاً مع متطلبات القرن الحادي والعشرين.
إن نجاح هذه التجربة يعتمد على مدى قدرة السودانيين أنفسهم على دعم التحالفات الإصلاحية. الحديث عن "تقدم" ليس مجرد استعراض لمشروع سياسي، بل هو دعوة لكل السودانيين لدعم الإصلاحات وجعلها ذات صدى جماهيري واسع.
المسار نحو التغيير الشامل
ما يحتاجه السودان اليوم هو كيان جامع يتجاوز حدود السياسة التقليدية، ليصبح نموذجاً يحتذى به في العمل الجماعي المدني. يمكن لـ"تقدم" أن يكون نقطة انطلاق جديدة تعيد تعريف المعارضة السودانية، وتجعلها أكثر تركيزاً على القضايا الجوهرية للشعب.
إذا نجح التحالف في تجاوز التحديات، فإنه سيؤسس لمرحلة جديدة من العمل السياسي، مرحلة تتسم بالواقعية والطموح، وتستند إلى القيم المدنية التي تعكس آمال الشعب السوداني. هذه ليست مجرد دعوة للإصلاح، بل خطوة نحو بناء مستقبل يليق بتضحيات السودانيين وتطلعاتهم.
في النهاية، يبقى مصير "تقدم" مرهوناً بقدرته على إعادة صياغة دوره ككيان جامع لكل السودانيين، وبتحوله من مجرد تحالف سياسي إلى قوة تغيير حقيقية تعكس آمال الشعب وتطلعاته.
zuhair.osman@aol.com