ضيف هذا الحوار الروائي والجراح السوري خليل النعيمي، ولد في بادية الشام، عاش طفولته وصباه مرتحلا مع قبيلته في سهوب البادية السورية. لم يدخل المدرسة إلا مصادفة بسبب مرور قافلة والده بإحدى القرى حيث أقام خيامه فيها، وقال شيخ القرية لوالده لماذا لا تترك ولدك يتعلم مع أطفال القرية في "الكتّاب" وتعطينا "كبشا" أو "خروفا" من القطيع؟ وافق والده على ذلك، ومن يومها شكلت تلك الحادثة نقلة نوعية في حياة خليل النعيمي الشخصية والمهنية، الذي انتقل من حياة البداوة إلى أن يصبح من أمهر الجراحين في المشافي الفرنسية.

كما تعددت مواهبه وانشغالاته في أكثر من حقل من حقول المعرفة، فإلى جانب عمله طبيبا جراحا في مستشفيات باريس، فإنه يمارس الكتابة الروائية والنقدية، كما أنه رحالة متمرس، وكاتب رحلات فريدة في لغتها وتقصيها من خلال كتابة الرحلة التي يوثق فيها مشاهداته. زار بلدانا عديدة في القارات الأربع، كما زار مدن "طريق الحرير" ومنها سمرقند وبخارى.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"فكيف ليلُ فتى الفتيان في حلبِ؟".. مختارات القصيد من أشعار الشهباءlist 2 of 2"بقايا رغوة" لجهاد الرنتيسي.. رواية تجريبية تتأمل الهجرة والشتاتend of list

وتعد مدينة الحسكة (شمال شرق سورية) والتي تابع دراسته الثانوية في مدارسها، محطة الرحيل الأولى التي ساهمت في تكوينه الشخصي، كما في بنية الرواية لديه. ومن ثم كانت دمشق المدينة الأولى التي اكتشفها خليل النعيمي القادم من أطراف بادية الشام، حيث كونت شخصيته المعرفية، وعن ذلك يقول:

"من "الجزيرة السورية" وباديتها الأثيرة على القلب، إلى "دمشق" العريقة، هو السبب الأساسي الذي غير وعيي"

تعرف النعيمي عن قرب على الحياة السياسية في بلاده أثناء دراسته الجامعية في كليتي الطب، والفلسفة في جامعة دمشق. نشر في دمشق ديوانا شعريا يتيما بعنوان "صور من ردود الفعل لأحد أفراد العالم الثالث" الذي منع وصودر، وبالتالي كان سببا في تحوله إلى كتابة الرواية. يقول عن تلك الحادثة "منع الديوان كان محرضا أوليا لي على الاتجاه للرواية". ونتيجة مصادرة ديوانه، ومنع روايته الأولى "الرجل الذي يأكل نفسه" التي صدرت في بيروت، غادر دمشق إلى بيروت ومنها إلى فرنسا في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، تابع تخصصه في الفلسفة السياسية المعاصرة في جامعة السوربون، حيث أصبحت باريس وطنا آخر للنعيمي كاتبا وطبيبا.

النعيمي: علاقتي بالأمكنة ليست "إنشائية" لأصفها ببضع سطور وليست روحية ولا علاقة حنين ولا علاقة ذكريات إنها علاقة تكوينية (الجزيرة)

ورغم إقامته الطويلة في فرنسا، فإنه لا يكتب للجمهور الفرنسي. ويؤكد في حواره للجزيرة نت "علاقتي باللغة العربية علاقة وجودية. بمعنى أنني لن أكون "أنا" إذا كتبت بغيرها. وارتباطي بالعالم العربي ارتباط لغوي لا انفكاك منه. اللغة العربية هي "أنا"، هي تاريخي الشخصي، هي "أهلي" إذا أردنا الدقة".

إعلان

وعن حنين خليل النعيمي إلى بداوته الأولى، يقول:

"نحن لا نستبدل مكانا بمكان آخر، وإنما فكرا بفكر آخر، فالمكان كالكائن لا يمكن استبداله"

يعد النعيمي صاحب خطاب روائي مختلف، وهو مغرم بالمكان وسرد تفاصيله من خلال مجموعة من الأعمال السردية منها: رواية "الخلعاء" (1990)، و"القطيعة" (1992)، و"الرجل الذي يأكل نفسه" (1994)، و"الشيء" (1998)، و"دمشق 67″ (2003)، و"مديح الهرب" (2005)، و"تفريغ الكائن" (2009)، و"قصاص الأثر" (2014)، إلى روايته الجديدة "زهرة القطن" (2022).

كما اكتشف في ترحاله المستمر عبر مدن العالم الآخر في كتاباته: "مخيلة الأمكنة" (2003)، و"كتاب الهند"(2004)، و"الطريق إلى قونية" (2015)، و"الصقر على الصبار" (2019). حاز على جائزة أدب الرحلة المعاصرة عام 2007، وجائزة محمود درويش للحرية والإبداع عام 2018. نتعرف في هذا الحوار على مسيرته الإبداعية والحياتية في حديثه للجزيرة نت من باريس التي يقيم فيها منذ 4 عقود:

تقيم في باريس منذ عقود، وكانت نشأتكم في البادية السورية، وأنت البدوي الذي غادر ظعن القبيلة ذات يوم بعيد، هل ما زال خليل النعيمي يحن إلى بداوته الأولى؟

الحنين ليس معرفة، أقصد أنه شعور عابر وليس تجربة يومية للوجود. إنه صورة قديمة عما عرفناه، ذات يوم، ونتصور أننا لا نزال نعرف ما عرفناه، وهو وهم كاسح. الحنين عاطفة عميقة مرتبطة بمرحلة أولى، مرت، ولن تمر أبدا من بعد. وهو ما يجعله مثل الأسف: ممض للنفس، ولا سبيل إلى تفاديه. لكنه يعلمنا شيئا أساسيا: "ضرورة إبداع الحنين". وهذا هو معنى "الرحيل". نحن نحنّ إلى الماضي فقط، لأننا لا نعرف المستقبل، والحاضر نحن مستاؤون منه على الدوام. تلك هي صيرورة الحياة. ولأننا نتكلم عن الحنين، فقد وجب أن نوضح: إنه المكان المهجور، الذي سيغدو، فيما بعد الأرض الموعودة. ولكن لماذا يهجر الكائن مكانه إن لم يكن مدفوعا إليه بالقوة؟ ومن يملك القوة، في عالمنا اليوم، سوى السلطة؟ تلك هي المشكلة، وليس الشعور العابر الذي تعودنا على تسميته بالحنين. "نحن لا ننفر من الأمكنة، وإنما من الفكر الذي يتحكم فيها. نحن لا نستبدل مكانا بمكان آخر، وإنما فكرا بفكر آخر. فالمكان كالكائن لا يمكن استبداله". هذا هو معنى الحنين الحقيقي، بالنسبة لي.

النعيمي عن رواية "زهر القطن": إنها عمل مفتوح في نقد الذاكرة ورؤيتي الحالية لما عاشه الراوي قبل عشرات السنين (الجزيرة) أنت مغرم بالمكان وكل ما يمت له بصلة البشر والتراب والحيوانات والنهر ولغة المكان ولهجة أهله وسرد تفاصيله من خلال مجموعة من أعمالكم السردية، ماذا عن أهمية المكان في نصوصكم الروائية وعلاقتكم بالأمكنة والأرض الأولى؟ إعلان

"ماذا تصنع الطبيعة غير روح الكائن"؟ جملة أستلها من مقالي عن اليمن عندما زرته أول مرة، كجراح، وليس ككاتب. يومها، كتبت عنه: "10 أيام في اليمن هزت الروح". هذا لأؤكد لك أنك في سؤالك على صواب. وفي مرة أخرى في زيارة لتشيلي، في العاصمة سانتياغو، مع فريق من الجراحين، كنا نتهيأ للعودة، وتركتهم وذهبت إلى قصر "لا مونيدا" حيث قتل "سلفادور أليندي" (1908-1978) رئيس جمهورية تشيلي، وعندما عدت سألوني: أين كنت؟ فقرأت لهم المقطع الأخير مما كتبته: "عدت إلى لامونيدا لأودعه. أحب أن أودع الأمكنة، ولا أحب أن أودع الناس. أنا مكان".

الأمكنة هي التي تبدع بعضها بعضا. هي التي تفتح شهية الكائن للسفر والانتقال. من لا يسافر يصب بالعمى، كما أتصور. علاقتي بالأمكنة ليست "إنشائية" لأصفها لك ببضع سطور. ليست علاقة روحية، ولا علاقة حنين، ولا علاقة ذكريات، إنها علاقة تكوينية. الأمكنة، وعلى رأسها مكاني الأول، هي التي خلقتني، سوتني كما أنا الآن. "هندست" عقلي، ومشاعري، لا عاطفتي فقط. الأمكنة لا توصف، تعاش.

قبل تخرجك من جامعة دمشق نشرت ديوانا بعنوان: "صور من ردود الفعل لأحد أفراد العالم الثالث" أحدث ضجة محلية، ومنع وصودر، هل دفعتكم تلك الحادثة إلى الاتجاه لعالم الرواية الواسع؟

منع الديوان كان محرضا أوليا، إذا شئنا. لكن الانتقال من مكان إلى آخر، وفيما يتعلق بي، من "الجزيرة السورية" وباديتها الأثيرة على القلب، إلى "دمشق" العريقة، هو السبب الأساسي الذي غير وعيي. فالكتابة وعي، قبل أي شيء آخر. والوعي الجديد الذي اجتاحني يحتاج إلى أدوات جديدة للتعبير عنه. وسريعا، بعد قراءات أساسية في حياتي أثناء فترة الجامعة، وعلى رأسها رواية "الأخوة كارامازوف" لفيودور دوستويفسكي (1821-1881)، انتقلت من حال إلى حال. أصبح الشعر من الماضي، لأنه، كما بدا لي، آنذاك، مصنوع من "كتابة مشهدية"، تتوسل مقاربة الوجود بالكلمات، ومحركها العواطف الساذجة. وفي عنفوان الشباب يبدو كل شيء في متناول اليدين، بما في ذلك القفز من الشعر إلى الرواية. وهو ما كان.

إعلان تقولون: "إن اللغة هوية". فرغم إقامتكم الطويلة في فرنسا، فإنك لا تكتب للجمهور الفرنسي، على عكس بعض الشعراء والكتاب العرب المقيمين في الغرب، هل يندرج ذلك ضمن حرصكم على توطيد الصلة بالحقل الثقافي العربي؟ وهل استفاد النعيمي من الثقافة الفرنسية؟

علاقتي باللغة العربية علاقة وجودية. بمعنى أنني لن أكون "أنا" إذا كتبت بغيرها. وارتباطي بالعالم العربي ارتباط لغوي لا انفكاك منه. اللغة العربية هي "أنا"، هي تاريخي الشخصي، هي "أهلي" إذا أردنا الدقة. أنا أمارس الجراحة باللغة الفرنسية، وعملي اليومي منذ عقود يقوم على اللغة الفرنسية، أعيش في عمق المجتمع الفرنسي، وليست لدي أية ازدواجية معيارية.

أما الكتابة فهي كالرسم، ماهيتها تتجلى، أفضل ما يمكن، عندما نستخدم لإنجازها، أفضل ما لدينا من أدوات تعبيرية. وأنا أفضل أداة عندي هي العربية. بالطبع، عربيتي اغتنت بالثقافة الفرنسية. ومن مزايا هذا الثراء الحياتي أنني أستطيع أن أنقله إلى لغتي العربية. ولا تنس أن معظم المثقفين العرب الذين يعيشون هنا، يشتغلون في مؤسسات عربية في بلدانهم، أو في بلدان عربية أخرى. ويعيشون على هامش المجتمع الفرنسي، أيا كانت "لغتهم" التي يكتبون بها. الكاتب الحقيقي ليس تاجر كلمات، وإن كان هناك الكثير من هؤلاء بيننا. والقارئ واحد. القارئ الفرنسي ليس أفضل من القارئ العربي. والكتابة تبقى عالمية بأية لغة كتبت. أما الكتاب العرب الذين يحلمون، بتأثير الاستلاب الثقافي المجحف، بقارئ فرنسي لن يجدوه مهما تفننوا، فهذا شأنهم. أنا أحلم بقارئ عربي.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات اللغة العربیة ولا علاقة

إقرأ أيضاً:

هوية المكان العماني في رواية «زعفرانة» لهدى النعيمي .. التاريخ والسياسة والانتماء

تطوف رواية (زعفرانة) للكاتبة هدى النعيمي الصادرة عام 2024م بالقارئ فـي عوالم مكانية مختلفة مقدمة من خلال هذا الطواف قراءة فـي النفس الإنسانية ومستحضرة أوجاعها وآلامها ورحلة اغترابها الداخلي وصراعها مع الواقع.

إنها رواية إنسانية بتركيزها على دواخل النفس البشرية، وعلى الوجع والثورة والبحث عن حياة أفضل. وهي رواية واقعية الحدود بتركيزها على الأمكنة المختلفة المتشكلة فـي الذاكرة وفـي الواقع البشري. لقد قدّمت الأمكنة صورة عن تقاطعات الواقع والتاريخ والجغرافـيا، وربطت الأمكنة بالشخصيات فـي إطار تاريخي مستعاد.

تفتتح الرواية فصولها بالحديث عن الماضي فـي قرية (الذخيرة)، فتقدّم إحساسا للقارئ أن الأحداث فـي مجملها ستتشكّل أو ستدور فـي دولة قطر -على الأقل بصورة كبيرة منها- ولكن (الذخيرة) لم تكن إلا فـي مدخل للعبور إلى أمكنة مختلفة تتشكّل منها الأحداث؛ إذ نجد الأحداث توزّعت بين قطر وعمان ومصر وزنجبار والعراق والسويد.

تفتتح الرواية صفحاتها الأولى بالحديث عن المكان القطري المتمثل فـي قرية (الذخيرة) راسمة هُوية قروية للمكان بذاكرته المتعددة ممتزجا بالطفولة، لكن سرعان ما تنتقل الأحداث من (الذخيرة) إلى مواضع أخرى بانتقال شخصية (زعفرانة) الأولى منها إلى عُمان، وهنا تتحدّد هويات أخرى تضاف إلى المكان السابق وإلى الشخصيات التي ستظهر فـي العمل الروائي. ويمكن القول إنّ الهُوية جاءت دالّة على الإنسان فـي الأمكنة التي تنقّل فـيها؛ فقد نقلت لنا الرواية هُوية المكان فـي كل فصل بحسب وجود الشخصيات فـيه؛ فـيظهر لنا أثر المكان/ الجبل فـي عُمان فـي تكوين الأحداث وتشكّلها راسما ملامح الشخصية التي تعيش هناك.

لقد صنع الجبل مثلا صورة المواجهة فـي رأس المواطن ودفع به إلى الصراع رغم قلة إمكانياته. إنّ المكان الصلب المقطوع عن التواصل البشري دفع بالأحداث إلى الانتقال عبر أمكنة مختلفة وصناعة أحداث جديدة متشكّلة فـي أثر الأحداث السابقة. لقد أدّت (كمّة عبيد) مثلا إلى توزّع الأحداث بين قطر وعمان والعراق ومصر والسويد وزنجبار، فكان هذا التوسع سببا فـي فتح أمكنة بعيدة تتنقل بينها الشخصيات لكنها تعود مرة أخرى إلى الجبل.

إن للمكان دورا مهما فـي تحرك الشخصيات عبرها، وتوسع الحدث، واستعادة التاريخ عبر هوية متشكلة للمكان القطري مرة والعماني مرة أخرى والجبلي بصورة خاصة والإفريقي أيضا.

لقد تقاطعت صورة المكان فـي السرد مع الواقع، وفـي ذلك إشارة إلى تقاطعات واقعية مع الحوادث ومع الشخصيات فـي الحقيقة، وتحاول الرواية معها تأصيل هويات المكان من خلال إعادة الحوادث المكانية كحرب الجبل الأخضر، وسقوط الطائرة فـي الجبل، والثورة، ومشاركة المرأة فـي معارك جبال ظفار. كل ذلك شكّل نقطة التقاء ومرجعية استندت عليها الرواية بقراءتها فـي التاريخ السياسي للمنطقة، وتقاطع أحداثها وشخصياتها مع الواقع.

تصف «زعفرانة» الحياة فـي الجبل وتمرس الرجال فـي حركتهم ودور المرأة وتطبعها على العيش فـي هذا المكان، وهكذا شكّل الجبل صورة قوية وصلبة فـي صنع الإنسان. تروي «زعفرانة» الأولى هذه الصورة خاصة أيام الحرب والمرعى والأكل وحاجيات الناس، كما استفادت «زعفرانة» من أشكال الحياة فـي الجبل فـي صنع أدوية شعبية وعلاجات مختلفة للتداوي، وهكذا أصبح المكان ذا بُعدٍ تأثيري فـي حياة الإنسان العماني يتأثر به ويؤثر فـيه. تُعبّر «زعفرانة» عن هُويتها الجديدة فـي الجبل قائلة: «لم أكن أعرف سوى رائحة البحر عندما خرجت مع عبيد من الذخيرة، أعرف التراب الرطب البارد، والصخور الحادة على الساحل كما أعرف الحجية فاطمة، وكل ما علمتني إياه، لكني لم أكن أعرف الجبل، وقسوة الجبال الصخرية، لا أعرف فنون الرعي التي أتقنتها فـيما بعد، كنت غريبة لا أجيب أحدًا عن أصلي إلا بكلمة (الذخيرة) فتمط النساء شفاههن، ويتندرن على عبيد الذي ذهب بعيدا، وغاب كثيرا، ثم عاد بهذه الصامتة ذات العين اللامعة، لم أرفضهن، ولم أعبأ بالشفاه الممطوطة، ولا بحركات اليد، التي تعني اللامبالاة بوجودي، أحببت كل ما قدمه لي عبيد من لوازم الوجود هنا، حتى الحصيات التي أضربها ببعضها البعض لتشعل النار فـي الحشائش الجافة. فقط هي شامة، زوجة أحمد، أحد أقرباء عبيد من قريب أو بعيد، شامة قضت فـي صحبتي نهارًا كاملا حتى أتمكن من إشعال النار فـي الحشائش بضرب الحصى الخاصة تلك، بعضها ببعض». (ص:73)، لقد أصبح الجبل محور تحرك الأحداث، والنقطة التي ينطلق منها السرد بصورة رئيسة بعد الموضع الأول المتمثل فـي البحر/ الذخيرة التي تحركت منها الشخصيات تحركا أول إلى مواضع أخرى، حتى إذا ما وصل السرد إلى الجبل تحرك إلى اتجاهات مختلفة موسعا للأحداث فـي اتجاهات أبعد.

لقد عبّرت الهُوية المكانية عن الواقع الذي تعيش فـيه الشخصيات منطلقة من زمن إلى آخر، ومن حدثٍ جديد بُني على حدث سابق، لذا صار الجبل بؤرة الصراع، كما كان البحر بؤرة الذاكرة الطفولية، وصار الجبل صورةً للموت والنزاع السياسي، كما كان البحر صورةً للوداع وللفراق والذاكرة.

وتتلاقى الأحداث المتحركة فـي زنجبار، وهي هُوية مكانية ما زال العماني يستعيد ذكرى سقوطها التاريخي مُشبّها لها بسقوط الأندلس. إنّ ذاكرة العمانيين وتاريخهم الممتد كان يرى فـي زنجبار مكانا عمانيا آمنا، وملاذا من كل النزاعات والبؤس، فكان لا بد للسرد أن يمتدّ إلى زنجبار للعيش هناك كحال كثير من العمانيين الذين هربوا من عمان للعيش فـي الشرق مؤثرين ومتأثرين. فـي المقابل نجد القاهرة مكانا آخر عمل على تبنّي الجيل العماني الجديد بتعليمهم وحثهم على بناء المستقبل.

تحاول دلال مثلا التأصيل للهُوية العمانية من خلال زرعها فـي نفوس الطلبة فـي زنجبار وذلك بالحنين إلى المكان الذي تركته خلفها، يقول الراوي على لسان صالح بن عبيد عن دلال: «...تعلمهم دلال، أنّ هناك بلدا اسمه عُمان، ستعود له يوما بعد أن تعلّم كل أطفال زنجبار اللغة العربية والقرآن الكريم، تشير لهم نحو البحر، تقول لهم: إنها من هناك، من وراء البحر، من الجبل الذي لا يظهر، وإنهم أيضا ينتمون إلى هناك، يعوج الأطفال طاقياتهم، ثم يتسابقون من يصل إلى عمان أولا». (ص265)

إذن فالمكان الذي تجسده الرواية كان مكانا متنوع الهُويات، كل مكان له استقلاليته فـي بناء هوياته المتشكّلة باستعادة الماضي وإعادة تشكيله أو الحنين إلى ذاكرته الماضية، أو بمحاولة صنع مستقبل جديد يوازي الحياة الكريمة التي كان يعيشها الإنسان، هنا يظهر المكان متماسكا ومعبّرا بصدق عن هوياته ومشاركا فـي صنع الأحداث، وقائما على نقل صورة وجدانية وعاطفـية للمكان نفسه، كما إن تداخل الأمكنة وتعدّدها وتعدّد شخصياتها كل بطبيعته أدّى إلى تشكّل هويات مختلفة فـي النص السردي؛ إذ تتعدّد هوية الشخصيات بتعدد الأمكنة التي تقطنها، وتتبدّل مصائرها بتبدل المكان؛ فزعفرانة فـي الذخيرة كانت ابنة رجل ثري من أهل البحر، وبعد وفاته ظلّت فـي رعاية عمها فالح، كانت تتمتع بالمكانة والوجاهة، وقد سُمح لها بالتعلم «الحجية فاطمة» أكثر من بنات عمها، لكن هذه الهُوية المتعلقة بالبحر والقرية سرعان ما تبدّلت بتبدّل المكان؛ فأصبحت زعفرانة ابنة الجبل التي يأتي إليها الناس آخذين بركتها وعلاجاتها، وبذلك فهناك تقاطع كبير بين الشخصية والمكان فـي الاقتران بالهُوية.

إذن تتبدل حال الشخصية بتبدل المكان واقترانه بالهُوية، فنجد أنّ شهلا ويعرب وذيب عاشوا حياة جديدة فـي القاهرة غير حياة الجبل وأجبرت كل شخصية على التغيير فـي طريقة التفكير، حتى أن يعرب أحبَّ هناك وقرّر عدم العودة إلى بلده، فـي حين أن ذيب وشهلا عادا من أجل مواصلة النضال فـي جبال ظفار.

ويمكن أن نقرأ صناعة الهُوية فـي الشخصيات بتأثير الحياة السياسية فـي عُمان لا سيما فـي فترات مختلفة من الصراع السياسي الملتبس الدائر فـي جبال ظفار قبل النهضة العمانية، فقد اكتسبت شخصيات عمانية ملامح الثورة، وهنا نجد أثر الرواية كونها استعادت الأحداث السياسية بناء على مرجعية تاريخية مهمة وقفت عليها وأعادت تشكيلها مرة أخرى فـي السرد.

إنّ صناعة الهُوية فـي رواية «زعفرانة» لها أبعاد مختلفة على تكوين الشخصية؛ إذ تستمد كل شخصية هُويتها من خلفـيتها الثقافـية، ومن مضامين تفكيرها وهذا ما جعل «زعفرانة الحفـيدة» تعود مرة أخرى إلى كشف هويات مكانية وشخصيات غارقة فـي انتماءات الذات وتفاصيل الواقع. نجد «زعفرانة» تخاطب خالها ناصر قائلة: «مشروع التخرج يا خالي، متعلق بظفار والتاريخ العماني، لذا وجدت شيئا من الثقافة العمانية فـي طاقية جدتي، طاقيتك أنت يا خالي لمدة دقائق فقط!». ص97 ، فـيرد عليها قائلا: «اسمعي، لماذا لا تزوريني أنت ووالدتك فـي نهاية هذا الأسبوع؟ ثلاثة أيام حتى لا يتأثر جدولك الدراسي، سوف أذهب بك إلى زنجبار، ستعرفـين هنا أي أثر تركته الثقافة العمانية على المناطق الساحلية الشرقية لإفريقيا». (ص 98) هكذا يتشكّل الانتماء والوعي بالهُوية من خلال رسم صورة تاريخية وجذور مندسة فـي عمق التاريخ، ومعها تتشكل الشخصية المنتمية إلى التاريخ التي تقدّم أدوارها فـي الأحداث.

وإذا كانت كاتبة الرواية مهتمة بتتبع أحداث الثورة فـي ظفار ورصدها فـي سياق أدبي سردي، فلنا أن نسأل لمَ انطلقت الرواية من قطر ثم عادت إليها فـي فصول السرد؟ ولمَ كانت (زعفرانة) الأولى شخصية قادمة من البيئة القطرية وليس العمانية؟ إذ من الممكن أن تنطلق الأحداث من رؤية المكان العماني وصولا إلى نهايته وأن تكون «زعفرانة» شخصية ذات هُوية عمانية خالصة، فلم كان التداخل بين مكانين مختلفـين فـي بناء الأحداث؟

كان لا بد للكاتبة أن تُسلم السرد إلى مَن يقوده إلى الكشف عن الماضي المستعاد، وإبراز قيم الهُوية المكانية وهذا لا يكون إلا لراوٍ يجهل التاريخ العماني وأحداث المنطقة، فـيحاول البحث عن الأحداث الماضية والكشف عن شخصياتها وتقديمها إلى القارئ، وهنا كانت شخصية (زعفرانة الثانية)/ أحد الرواة التي تعود زمنيا للكشف عن المكان والشخصيات متنقلة بين أمكنة مختلفة لتقديم الحدث المتشكل مع السرد، فكان من الضروري أن تقوم الراوية بتقديم الشخصيات وكشف الأحداث كونها باحثة عن حقيقة الماضي بأحداثه وأمكنته. كما أنّ ذلك يُحيلنا على وجود تطابق بين الكاتبة و«زعفرانة» الثانية فـي اهتمام كليهما بالبحث عن تاريخ المكان العماني وأحداثه، فكان اقتران صورة الشخصيتين واضحا فـي عملية البحث والتناول، ومعها آثرت الكاتبة أن تقدّم معلوماتها فـي سياق سردي.

مقالات مشابهة

  • الرئيس الشرع: سوريا الجديدة ستلعب دوراً رئيسياً في استقرار المنطقة
  • عرض فيلم "غياب" نتاج ورشة صناعة الفيلم الروائي القصير بمهرجان الإسماعيلية
  • عمرو سعد يثير الجدل بسبب كواليس سيد الناس.. وما علاقة محمد رمضان؟
  • الروائي سلمان رشدي يدلي بشهادته في قضية المتهم بمحاولة اغتياله
  • السفير خليل الذوادي: خطط حوكمة عربية متكاملة لمواجهة الأخطار التي تهدد المنطقة
  • الشرع: آلاف المتطوعين ينضمون إلى الجيش السوري الجديد بعد الإطاحة بـ"نظام الأسد"
  • هوية المكان العماني في رواية «زعفرانة» لهدى النعيمي .. التاريخ والسياسة والانتماء
  • هكذا سخّر نظام الأسد الحواجز الأمنية لإرهاب السوريين وابتزازهم
  • الروائي غيث حمور يوقع 6 كتب “كانت ممنوعة” في زمن النظام البائد
  • الكشف عن أبرز البنود التي تحوي المشروع الوطني الذي قدمته القوى السياسية