الإسلام السياسي كظاهرة سياسية واجتماعية يثير تساؤلات كبيرة حول دوره في العلاقات والتفاعلات الإقليمية والدولية. رغم ما يفترض أن تكون المرجعية الأيدولوجية واحدة لحركات الإسلام السياسي، إلا أن هذه الحركات تُظهر في الواقع تناقضات كبيرة حين تتداخل مع المصالح القومية للدول التي تحكمها هذه الحركات أو مصالح الدول الخارجية الداعمة لها.

المثال السوري والتركي والسوداني يقدم نموذجاً عملياً لهذا التناقض.

التناقض بين السردية والدعم الدولي

عندما دعمت تركيا، العضو في حلف الناتو، فصائل إسلامية في سوريا ضد نظام بشار الأسد وأسقطته، ظهر هنا تناقض جوهري. حيث أن تركيا ما كانت لتدعم الإسلاميين في سوريا لولا موافقة ضمنية أو "ضوء أخضر" من الولايات المتحدة، القوة الرئيسية في الناتو، وبالطبع تركيا عضو في الناتو. هذا الدعم يكشف عن تناقض في السردية الكلاسيكية للإسلام السياسي، التي تصور نفسها كحركة مناهضة للهيمنة الغربية، بينما تجد نفسها في بعض الحالات تعتمد على دعم هذه القوى لتحقيق أهدافها.

استغلال الإسلام السياسي بعضه بعضاً كأداة واستغلال القوى الإقليمية والدولية له

الحقيقة الأعمق هي أن الإسلام السياسي ليس وحدة متماسكة كما يظهر، بل منظومة متشعبة تستغلها القوى الإقليمية والدولية حسب مصالحها. تركيا، بقيادة حزب العدالة والتنمية الإسلامي، تستخدم الآن الإسلاميين السوريين كأداة لتحقيق أهدافها في المنطقة، من تعزيز نفوذها الجيوسياسي إلى مواجهة الأكراد داخل وخارج تركيا، فهي تراهم كتهديد أمني غالب الوقت مطالب بالحكم الذاتي أو استقلال كردي، وتتعاون مع الناتو لإضعاف الوجود الروسي والإيراني في سوريا.
في المقابل، نجد أن الإسلاميين السودانيين يمثلون حلقة ضعيفة في هذه المنظومة. فهم في أدنى السلسلة الغذائية للإسلام السياسي الإقليمي، حيث تُملي عليهم قرارات القوى الكبرى في هذا التيار، وتملى عليهم قرارات قوى إقليمية ودولية أخرى. فمثلاً عند أحداث الحادي عشر من سبتمر ٢٠٠١ وتهديد أمريكا للجميع سلم صلاح قوش جميع ملفات إسلاميي المنطقة للأمريكان دون أي مقابل لتورط نظامهم في أعمال إرهابية وخوفهم على سلطتهم من أمريكا المسعورة في ذلك الوقت، كذلك قاموا في منتصف التسعينات بتسليم ليبيا إسلاميين ليبيين معارضين للقذافي لتخفيف الضغط الإقليمي والدولي الذي وقع عليهم إثر محاولتهم المتهورة لإغتيال حسني مبارك في إثيوبيا، ثم كذلك سعوا لتسليم بن لادن لأمريكا عندما كان يقيم بالسودان إلا أنها رفضت في ذلك الوقت. كل هذه التنازلات تمت من أجل بقائهم في الحكم، والحقيقة هي أنهم تناقضوا مع الشعب السوداني داخلياً وقدموا تنازلات تحت الضغط للخارج، وعزلوا البلاد والشعب عن العالم مما أقعد بالبلاد وبالسودانيين إقتصادياً وأمنياً وتخلفت في جميع المجالات. رغم الممانعة التى يظهرونها في بعض الأحيان للضغوط الخارجية وينجحون فيها، إلا أنه في الغالب، لم تكن هذه الممانعة بسبب قدرتهم على المناورة السياسية وكروت اللعب التي يملكونها، بل بسبب الموقع الجيوسياسي الطرفي البعيد نسبياً للسودان عن الشرق الأوسط ومصالح القوى الإقليمية والدولية غير الاستراتيجية فيه إبان حكمهم. وللمفارقة هم من أدخلوا السودان في إشكالات لا داعي لها، بسبب تهورهم وسؤ تقديرهم، مع قوى إقليمية ودولية لا قبل لهم بها، كمشاركتهم في تفجير المدمرة الأمريكية كول في اليمن وتفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام، عوضاً عن أن يستفيدوا من موقع السودان ويبتعدوا عن الشعارات والمعاداة لدول ومنظومات دولية قوية، ويهتموا بمعالجة مشاكل السودان المتعددة، ويصنعوا شراكات ندية واستراتيجية لمصلحة الشعب السوداني. هذا التفاوت بين الإسلاميين في المنطقة يعكس ديناميات القوة والمنطلقات المختلفة داخل منظومة الإسلام السياسي الإقليمية نفسها.

إعادة تدوير الإسلام السياسي

الأمر لا يقف عند استغلال بعض الإسلاميين من قبل قوى إسلامية أخرى مثل تركيا، بل يتجاوز ذلك إلى تلاعب القوى الكبرى بالإسلام السياسي ككل. الولايات المتحدة وإسرائيل، على سبيل المثال، يمكن أن تستخدم هذه الحركات المنتصرة حالياً في سوريا والمدعومة من تركيا، كذريعة للتدخل لاحقاً بحجة محاربة الإرهاب أو مواجهة التطرف. الإسلام السياسي، الذي قد يُستغل كأداة ناعمة في لحظة ما، يمكن أن يتحول لاحقاً إلى هدف مباشر لضمان هيمنة القوى الإقليمية والدولية العظمى.

ضيق الأفق وقصور الرؤية

أحد أبرز الإشكالات هو ضيق أفق الإسلاميين في بعض الدول. ففي حين أن دولاً مثل تركيا تسعى لتوسيع نظرتها للعالم بما يتماشى مع مصالحها، نجد الإسلاميين في السودان يتسمون بالإنغلاق والتوهم وبضيق الأفق وسطحية التحليل. هذا الفارق يعكس مدى التفاوت في نضج التجربة السياسية بين مختلف الأطراف داخل التيار الإسلامي. في حين أن تركيا استطاعت استخدام الإسلام السياسي لتحقيق مصالحها الوطنية وتوسيع نفوذها الإقليمي، فإن الإسلاميين في السودان أثبتوا قصوراً كبيراً في الرؤية. ضيق الأفق الذي يعاني منه الإسلاميون السودانيون ظهر في انغلاقهم على أنفسهم، وفشلهم في فهم تعقيدات السودان كدولة متعددة الثقافات والإثنيات. هذا الفشل انعكس في سياساتهم التي أدت إلى تدهور الاقتصاد والأمن، وافتقارهم لرؤية واضحة لبناء وطن يستوعب الجميع. في المقابل، الإسلاميون في تركيا، مستفيدين من تاريخ بلادهم وموقعها الجغرافي، تبنوا سياسات أكثر براغماتية وانفتاحاً.

في الختام، الإسلام السياسي ليس ظاهرة متجانسة، بل شبكة معقدة من المصالح المتناقضة التي تستغلها الدول وفقاً لاحتياجاتها. في الوقت الذي يتطور فيه الدور الإقليمي لدول مثل تركيا ، يبقى الإسلاميون في دول مثل السودان عالقين في مرحلة التخبط وضيق الأفق. هذه الديناميات تُظهر أن العالم أوسع وأعقد بكثير من السرديات البسيطة التي تتبناها الحركات الإسلامية.

 

mkaawadalla@yahoo.com

محمد خالد  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: القوى الإقلیمیة والدولیة الإسلام السیاسی الإسلامیین فی فی سوریا

إقرأ أيضاً:

أين تلتقي تركيا وسوريا الجديدة وأين تختلفان

حملت زيارة الرئيس السوري في الفترة الانتقالية الحالية أحمد الشرع لتركيا دلالات مهمة، فكانت تركيا ثاني دولة يزورها بعد السعودية وبعد استقبال أول زعيم لدولة وهو أمير قطر في دمشق، في رمزية واضحة على الحرص على علاقات متميزة مع الدول الثلاث لاعتبارات مفهومة.

كما شكلت الزيارة فرصة لتثبيت المواقف ووضع الأرضية للمسار المستقبلي للعلاقات بين البلدين، ولذلك فقد أورد كل من الشرع وأردوغان في المؤتمر الصحافي المشترك لهما إشارات مهمة على هذا الصعيد؛ بالتأكيد على وحدة الأراضي السورية، ومكافحة المنظمات الإرهابية، وأولوية إعادة الإعمار، وضرورة عودة اللاجئين لسوريا، فضلا عن التأكيد على الرؤى المشتركة وأهمية العمل وفق خطة استراتيجية مشتركة بين البلدين.

كما قدمت الزيارة قرائن على مدى عمق العلاقات بين الدولتين الجارتين في المرحلة المقبلة ومستواها المتوقع، من خلال الاحتفاء الكبير بالشرع الذي سمّي رسميا "الرئيس السوري" بتجنب صيغة "الفترة الانتقالية"، ولكن أيضا دون تفاهمات أو اتفاقات معلنة من الزيارة الأولى كما كانت بعض التكهنات تشير.

يتلاقى الجانبان على مصالح جوهرية عديدة في مقدمتها وحدة الأراضي السورية ورفض مشاريع التقسيم والفدرلة وتعدد المؤسسات، وعلى أهمية الاستقرار وفرض الأمن في سوريا، وعودة اللاجئين، فضلا التقارب في السياسة الخارجية إلى حد كبير وبما يشمل "التهديدات الأمنية الإقليمية" حسب تعبير الشرع في أنقرة
بات من البديهي والمكرر أن تركيا في مقدمة الأطراف الخارجية الكاسبة من تغير النظام السوري، وأن القيادة السورية الجديدة حريصة على علاقات متميزة معها، حيث تشمل مكاسب تركيا المجالات الاقتصادية والتجارية من عودة العلاقات مع دمشق وكذلك كبوابة للتجارة مع العالم العربي، والجيوسياسية بما يتعلق بالتنافس مع القوى الإقليمية، والأمن القومي بما يتعلق بمكافحة الامتدادات السورية للعمال الكردستاني وإمكانية إقامة قواعد عسكرية تركية على الأراضي السورية، وربما ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، فضلا عن عودة اللاجئين وأمور أخرى عديدة.

كما أن دمشق تدرك أهمية أنقرة في دعمها على الساحة الدولية ضمن مساعي رفع العقوبات، واقتصاديا وتجاريا، وكذلك على الصعيدين العسكري والأمني في مجالات التعاون والتدريب والتسليح ونقل الخبرات، إضافة لعملية إعادة الإعمار وعودة السوريين المقيمين في تركيا.

وهكذا يتلاقى الجانبان على مصالح جوهرية عديدة في مقدمتها وحدة الأراضي السورية ورفض مشاريع التقسيم والفدرلة وتعدد المؤسسات، وعلى أهمية الاستقرار وفرض الأمن في سوريا، وعودة اللاجئين، فضلا التقارب في السياسة الخارجية إلى حد كبير وبما يشمل "التهديدات الأمنية الإقليمية" حسب تعبير الشرع في أنقرة.

بيد أن ذلك لا يعني التماهي تماما بين الجانبين رغم كل هذه المصالح المشتركة. فالشرع، الجولاني سابقا، لم يكن محسوبا على تركيا أو يدور في فلكها خلال سنوات إدارته لإدلب على غرار فصائل أخرى، وهو اليوم لا يحصر علاقات بلاده معها وإن كان حريصا عليها.

في العموم لا يتشاركان كل الأولويات، إن كان على صعيد الملفات أو العلاقات الخارجية، وهو مما يفسر الحرص السوري على الانفتاح على مختلف الأطراف الخارجية والحفاظ على شيء من التوازن بينها. وهو أمر وللمفارقة لا يزعج أنقرة كثيرا من حيث المبدأ، إذ كانت هي كذلك حريصة على تقديم رسائل طمأنة بعدم الاستئثار بالملف السوري بعد سقوط نظام الأسد
يختلف الجانبان كما أي بلدين جارين في بعض الملفات الاقتصادية، ومثال ذلك قرار توحيد التعرفة الجمركية في كافة الأراضي السورية ومن كافة المعابر، والذي كان فيما يبدو حاجة داخلية سورية بينما أضر بالمصدرين الأتراك.

كما أن الجانبين وإن اتفقا على وحدة سوريا جغرافيا ومؤسسات، ومن ضمن ذلك رفض مشروع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) العابر للحدود، إلا أن القيادة السورية الجديدة تبدو أكثر تريثا مما أمِلت أنقرة بما يتعلق بملف قسد، حيث استمرت المفاوضات بين الجانبين دون نتائج ملموسة من جهة ودون تحرك ميداني تجاه مناطق سيطرة الأخيرة من جهة أخرى، وهو ما يبقي خيار العملية العسكرية التركية ضد قسد قائما على ما تشير التصريحات الرسمية الصادرة من أنقرة.

كما أن البلدين في العموم لا يتشاركان كل الأولويات، إن كان على صعيد الملفات أو العلاقات الخارجية، وهو مما يفسر الحرص السوري على الانفتاح على مختلف الأطراف الخارجية والحفاظ على شيء من التوازن بينها. وهو أمر وللمفارقة لا يزعج أنقرة كثيرا من حيث المبدأ، إذ كانت هي كذلك حريصة على تقديم رسائل طمأنة بعدم الاستئثار بالملف السوري بعد سقوط نظام الأسد، ويمكن القول إنها كانت ممن نصح الشرع بعلاقات أكثر من جيدة مع الدول العربية الفاعلة وفي مقدمتها السعودية.

في الخلاصة، ثمة مصالح مشتركة عميقة وجوهرية بين أنقرة ودمشق، ما سيفضي إلى تفاهمات واتفاقات عديدة في مختلف المجالات، ما يمنح تركيا وضعا خاصا وعلاقات متميزة مع القيادة الجديدة، لكن دون التماهي ومنطق التبعية، إذ تبقى هناك مساحات من الاختلاف في الأولويات أو النظر للملفات كما بين أي دولتين أخريين، والتي يمكن حلها بالتواصل والحوار المباشرين.

x.com/saidelhaj

مقالات مشابهة

  • جلسات لمجلس الأمن هذا الأسبوع تناقش الوضع في اليمن وسوريا والسودان
  • الفاو: مصر والعراق وسوريا والسودان تمتلك إمكانيات كبيرة لدعم الأمن الغذائي بالعالم العربي
  • السيسي ورئيسة وزراء الدنمارك يؤكدان ضرورة تسوية أزمات لبنان وسوريا والسودان بوسائل سلمية
  • نقاش موسع بين وزير الخارجية ونظيره الأمريكي بشأن غزة وسوريا وليبيا والسودان والقرن الافريقى والبحر الأحمر
  • الطور الأخير لنضح الإسلاميين السياسي
  • السودان: أحد قادة كتائب الإسلاميين يكشف عن صدور مذكرة توقيف بحقه لانتقاده «البرهان»
  • الانقسام السياسي يهدد خارطة الطريق في السودان
  • فجر السعيد تعتذر لـ العراق والسودان وتعتزل العمل السياسي
  • أين تلتقي تركيا وسوريا الجديدة وأين تختلفان
  • الكشف عن أبرز البنود التي تحوي المشروع الوطني الذي قدمته القوى السياسية