ذات صفاء الوان تنبض وحركات تروي
تاريخ النشر: 9th, December 2024 GMT
إبراهيم برسي
18/11/24
: مدخل نقدي للنص القصصي القصير
( ذات صفاء ذات نهار سادس اخضر )
للقاص و المفكر عادل القصاص.
و الذي في رائي يتجاوز كونه سردًا لنص قصصي قصير ليغدو مرآةً عميقة تتداخل فيها الذات والآخر في مشهدية مليئة بالإيحاءات.
عادل القصاص، في هذا العمل، يكشف عن براعة نادرة في تحويل تفاصيل يومية عادية إلى حقل دلالي عميق ينضح بالحنين، الشغف، والحسرة.
النص يعبر عن أفق أدبي يتلاقى فيه علم نفس الأفراد والمجتمعات مع أنماط الكتابة السودانية التي تعكس خصوصية المكان والزمان.
اذ يحفر الكاتب في أعماق النفس البشرية عبر شخصية الراوي الذي يغرق في تفاصيل دقيقة أثناء عملية طلاء الجدران. لكنه، في العمق، يطلينا نحن أيضًا بتجربة شعورية مركّبة؛ حيث يتحول العمل اليدوي، بكل ما فيه من روتين وبطء، إلى فعل تأملي تتسرب من خلاله انفعالات الراوي تجاه صفاء .
عملية الطلاء هنا ليست مجرد استعارة فنية، بل هي رمز لمشهدية نفسية تعبر عن محاولة الراوي إعادة بناء داخله المحطم؛ الطلاء كفعل تغطية وإعادة صياغة هو، في ذات الوقت، فعل مقاومة لحقيقة الفقد القادمة. لكن، وكما يشير النص، الطلاء لا يخلو من التناقض: الرغوة التي تنبت عند خلط الماء بالطلاء تمثل خفة اللحظات العابرة التي لا تدوم، والزيت الذي يذوب هو استعارة للشوق الآخذ في الانحسار مع انقضاء الزمن.
صفاء: الرمز والمرآة الشخصية
صفاء ليست مجرد شخصية في النص، بل هي صورة متعددة الأبعاد: هي الحبيبة، الرغبة، والفقد. تجسيدها جاء بدقة فنية عالية، حيث يختار الكاتب لغة وصفية تنقل حضورها الجسدي المثير دون أن تنزلق إلى الابتذال.
حركاتها البسيطة—كالجلوس على البنبر ، غسيل الملابس، وتحريك الطشت—تحمل عبء رمزية مثقلة: فهي ليست مجرد أفعال عادية، بل إشارات إلى الحياة اليومية التي يصعب على الراوي استعادتها بعد رحيلها. صفاء هي الحاضر الذي يغيب، هي الألفة التي تتحول إلى ذكرى، وهي النبض الحي الذي يُطفأ ببطء.
و من خلال علم النفس الفردي، يمكن قراءة النص كرحلة داخل وعي الراوي المنقسم بين الرغبة والوعي بالفقد. البطء المكابر الذي يصر عليه الراوي أثناء الطلاء يعكس مقاومة داخلية للاعتراف بالحقيقة: أن هذا اليوم هو اليوم الأخير في البيت، بيت صفاء. النص يُظهر كيف يمكن للأعمال اليدوية اليومية أن تصبح مسرحًا للانفعالات المكبوتة، بل وكيف يمكن للبطء أن يتحول إلى محاولة يائسة لإطالة زمن الحضور.
أما من منظور علم النفس الاجتماعي، فإن النص يبرز تمثيلات خفية للتوتر بين الفرد والمجتمع. صفاء هي انعكاس للصورة المثالية التي يتوق إليها الراوي؛ لكنها، أيضًا، تمثل الآخر الذي لا يمكن السيطرة عليه أو امتلاكه. إن عدم قيام صفاء بسحب الفستان “كي تلطخه بعُرى فخذيها او تلطخ به عُري فخظيها يشي بلحظة مقاومة صغيرة، لكنها تعيد التأكيد على استقلاليتها، وعلى أن العلاقة بين الذات والآخر تحمل دائمًا عنصر الغموض والتوتر.
النص مكتوب بلغة سودانية متدفقة، لكنها مشبعة بطبقات من المعاني. اختيار المفردات اليومية، مثل ( البنبر و الطشت )، يضفي واقعية محلية تجعل القارئ يتماهى مع النص؛ في الوقت نفسه، تتداخل هذه الواقعية مع صور شعرية مكثفة، كما في وصف ( النهد النرجسي الصلف ) الذي يخلق جسرًا بين الجسد والمعنى.
لكن الكاتب لا يكتفي بذلك؛ بل يضيف بُعدًا صوتيًا للنص عبر الأصوات المسموعة: (لهاث الملابس)، (طرقعة الطشت )، و (هسيس الرغوة).
هذا البُعد يجعل النص أشبه بمقطوعة موسيقية تُعزف على وقع التفاصيل اليومية.
و ايضاً يمكن قراءة النص كمرآة لواقع اجتماعي سوداني أوسع، حيث تتداخل حياة الأفراد مع قسوة الفقد وحتمية الرحيل. فصفاء ليست فقط الحبيبة، بل يمكن أن تكون رمزًا للوطن، للمكان الذي نحاول التشبث به رغم يقيننا بأننا سنفقده. هنا يظهر بُعد سياسي خفي، لكنه عميق: النص يعبر عن ألم الهجرة، سواء أكانت هجرة حبيبة، أم هجرة وطن.
( ذات صفاء ذات نهار سادس أخضر ) عمل أدبي مدهش بجماله وعمقه. إنه نص يتنقل بمهارة بين التجربة الشخصية والرمزية العامة، بين الحميمي والاجتماعي، وبين الواقعي والخيالي.
عادل القصاص ينجح في خلق نص يتحدث إلى القارئ بلغة مركّبة ومليئة بالحنين والشفافية، نص يجمع بين الدقة الفنية والحمولة الشعورية، ليتركنا نعود إليه مرارًا بحثًا عن المزيد من أسراره.
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
بيان مشترك بشأن إحياء الذكرى السنوية العشرين لاتفاقية السلام الشامل في جنوب السودان
لقد صادف التاسع من كانون الثاني/يناير الذكرى السنوية العشرين لاتفاقية السلام الشامل. وقد رحبت حكوماتنا بهذا الاتفاق التاريخي، بما في ذلك النص المتعلق بوجوب إجراء استفتاء يحدد فيه شعب ما يُعرف اليوم بجنوب السودان مستقبله. وقد تم توقيع اتفاقية السلام الشامل وسط أمل كبير في أن يتمكن
مذكرة إعلامية
مكتب المتحدث الرسمي
10 كانون الثاني/يناير 2025
فيما يلي نص البيان المشترك الصادر عن حكومات النرويج والمملكة المتحدة وألمانيا وكندا وهولندا والولايات المتحدة.
بداية النص:
لقد صادف التاسع من كانون الثاني/يناير الذكرى السنوية العشرين لاتفاقية السلام الشامل. وقد رحبت حكوماتنا بهذا الاتفاق التاريخي، بما في ذلك النص المتعلق بوجوب إجراء استفتاء يحدد فيه شعب ما يُعرف اليوم بجنوب السودان مستقبله. وقد تم توقيع اتفاقية السلام الشامل وسط أمل كبير في أن يتمكن شعب جنوب السودان من التمتع بالسلام وحقوق الإنسان وحكومة تلبي احتياجاته.
لكن من المؤسف أن هذا الأمل لم يتحقق. فعلى الرغم من الموارد الطبيعية الهائلة التي يتمتع بها جنوب السودان، فإن ثروة البلاد ما زالت لا تفيد سوى نخبة صغيرة. وعلى مدى سنوات، فشلت الحكومة الانتقالية في استخدام الإيرادات العامة بشفافية لدفع رواتب موظفي القطاع العام، أو ضمان الوصول إلى الخدمات الصحية والتعليمية الأساسية، أو خلق بيئة مواتية للتنمية المستدامة. إن الفساد وسوء إدارة الموارد الطبيعية متفشيان على نطاق واسع.
ولم تتخذ الحكومة الانتقالية الخطوات اللازمة لتهيئة الظروف لإجراء انتخابات سلمية وموثوقة، بما في ذلك تعزيز المساحة المدنية والسياسية اللازمة لإعطاء شعب جنوب السودان صوتًا في مستقبل بلدهم. نحن نجدد دعوتنا للحكومة الانتقالية للتحرك على وجه السرعة للوفاء بالتزاماتها التي طال انتظارها حتى يتمكن جنوب السودان أخيرًا من تحقيق الوعد الذي بشر به اتفاق السلام الشامل بتحقيق السلام والازدهار لجميع مواطنيه.