ليلى عماشا
تنهمك الضاحية في نفض غبار العدوان. منذ دخول وقف إطلاق النّار حيّز التنفيذ حتّى الساعة، تراها في ورشة عمل لا تهدأ. بين إزالة الركام وإجراء الإصلاحات الضرورية في شبكات الكهرباء والماء، وكذلك في البيوت والأبنية والمحال التجارية، تعود الضاحية إلى نمطها المعتاد الذي يضجّ بالحياة.
في صبيحة يوم العودة، كان اللقاء بين العائدين ممّن نزحوا ومشهد الدمار مشهدًا مؤثّرًا، يروي حكاية الصلة العميقة بين الناس وضاحيتهم.
الشوارع التي أغرقها العدوان بالعتمة استعادت إنارتها، والبيوت التي أُقفلت بالتهجير فُتحت أبوابها ونوافذها للضوء وللحياة. كلّ تفاصيل الأمكنة بدت كأنّها تتفتّح بعد إغماضة، لتبدو بعد أسبوع على وقف إطلاق النار أقرب إلى نمطها الطبيعيّ المعتاد قبل العدوان: شوارع مزدحمة، بيوت عامرة، أسواق مفتوحة، وصور الشهداء، زينتها وروحها.
إن تمرّ اليوم في الضاحية، في أيّ حيّ من أحيائها، سترى في معظم الأبنية مظاهر “التعزيل” وإصلاح الأضرار والاستعجال في ترميمها قبل دخول الشتاء. وسترى أيضًا انهماك العائلات في استعادة وتيرة حياتها الطبيعية، وإن غلبت الوجوه ملامح الحزن، ففي كلّ شارع، ثمّة بيت شهيد، وفي كلّ حيّ ثمّة عائلة فقدت عزيزًا أو أكثر. وبالمشهد العام، صارت الضاحية كلّها بيت واحد فقد أعزّ فرد فيه، لذا عند كلّ صورة رُفعت للسيّد حسن، تجد أثر دمعة ذرفتها سيّدة مرّت وألقت على صاحب الصورة السلام أو رجل نظر فيها وغلبه البكاء. وعند موقع استشهاده، ترى كلّ أهل الضاحية عائلة واحدة تتحلّق حول رائحة حبيبها، تخاطبه، تشتاقه، وتودّعه.
قبل العدوان، ومنذ زمن بعيد، كان زوّار الضاحية من كلّ لبنان يصفونها بالمكان الذي “يحمل روحًا”. دفءٌ غريب كان يسري في كلّ من يزورها ولو لمرّة، على الرغم من كونها تعرّضت للإهمال الرسميّ المتعمّد على مرّ الأعوام وعلى مختلف الصعد، وعلى الرغم من بساطة أحيائها البعيده كلّ البعد بمعظمها عن مظاهر الترف والفخامة، وكذلك على الرغم من حملات التهميش والتنميط والعزل. حافظت الضاحية على روحها تلك في مواجهة العدوان الهمجيّ الذي لم يستثنِ أيّ حيّ من أحيائها، من السانت تيريز وحي الأمركان والجاموس إلى الغبيري وحارة حريك، ومن الشياح والطيونة إلى الكفاءات والمريجة وبرج البراجنة. فخرائط الإنذارات طوال فترة الحرب غطّت معظم مساحة الضاحية، كما شملت دائرة الاستهداف -الأوسع بكثير من خرائط ونقاط الإنذارات الاستعراضية- حتى أضيق الأزقّة في الضاحية من بابها إلى محرابها.
“هنا الضاحية”.. تأخذ العبارة اليوم بُعدًا مختلفًا، فهنا، مدينة واجهت بحبّات عينيها مخرز العدوان ولم تنكسر. وهنا، بيت كبير ينفض عن زواياه آثار الحرب دون أن يرضى في لحظة بالانكسار أو بالاستسلام لهول الدمار. هنا، أسواق تستعيد عافيتها بسرعة قياسية ودورة حياة ومعيشة تتعافى وتلتئم بعد جرح بليغ. “هنا الضاحية” تعني اليوم أكثر من أيّ زمن مضى، أن هنا مدينة رفعت أجمل أقمارها قرابينَ على مذبح الحقّ، وتعالت فوق جراحها صبرًا كي لا تمنح عدوّها لحظة شماتة أو تشفٍّ.. هنا مدينة فقدت عزيزها الذي أعزّ الأمة كلّها بدمائه، وظلّت واقفة تواجه النّار والهمجية، فانتصرت.
المصدر: يمانيون
إقرأ أيضاً:
قصة سهيل حموي الذي قضى 32 عاما في السجون السوريّة... إليكم ما كشفه
"وجعٌ. مرضٌ. ظلمٌ. ألمٌ. حنيٌن، واشتياق". هكذا لخّص سهيل حموي، السجين اللبناني معاناة أكثر من ثلاثة عقود في زنزانات نظام بشار الأسد.
ويقول حموي: "كنت شابّا عندما اعتقلت، والآن عمري 61 سنة".
وتابع كاشفاً السرّ وراء صبره كل تلك السنين: "كنت إذا اشتقت لأحد، أغمضت عيناي لأراه، وإذا جعت أكذب على نفسي وأقول إنني أكلت، كل شيء كان له دواء إلا الحرية".
عندما اعتُقل قبل ثلاثة عقود، لم يكن يعرف حتى تهمته، بينما أمضى عدة أيام في ما أسماه بـ"الفرع"، حيث يتم استنطاق السجناء "تحت الأرض".
وبعد 20 عاما من الاعتقال، قال "اتُهِمتُ بالتعاون مع القوات اللبنانية".
وأمضى حموي 5 أعوام في "فرع فلسطين"، المعروف أيضا باسم "فرع 235"، وهو أحد السجون التي تديرها المخابرات السورية.
بعدها نقل إلى سجن تدمر، ثم إلى صيدنايا، حيث بقي نحو 14 سنة هناك، 1997-2011، ثم نُقل إلى سجن عدرا، ليمكث فيه بين عامي 2011-2015، قبل أن يُنقل إلى سجن اللاذقية حتى "تحريره".
ويقول واصفا تلك السنوات: "كان أكثر اشتياقي لأمي وإخوتي".
قبل أيامٍ من تحريره، كان حموي والسجناء قد سمعوا بتحرّك المعارضة التدريجي نحو كافة المحافظات السورية.
وفتح والسجناء معه أبواب السجن بأياديهم. اتخذوا هذا القرار بعد هروب موظفي السجن وحراسه.
ويقول: "في تلك اللحظة، لم أحسّ بأي شيء. كنت ضائعا. كنت في مكان لا أعرفه، ولا أعرف أحدا فيه".
بوعد تحرره، احتار في اختيار وجهته وقال: "لم أكن أعرف إن كان علي أن أذهب يمينا أو شمالا".
بعدها، رافق أحد السجناء السوريين إلى بيته، حيث أقام في انتظار عودته إلى لبنان.
وفي وصفه ليوم لقاء عائلته قال: "لم أعرفهم، لكنهم عرفوني. كنت أرى حلمي ينتظرني. كِدت أقفز فوق خندق حتى أصل إليهم، كانوا هناك. زوجتي وأصدقائي. كل أولئك الذين كنت أتحسس أرواحهم معي في الزنزانة". (الحرة)