"مستحيل يا رجل نحن في منام".. بهذه الكلمات ردّ رجلٌ سوريٌّ سَبْعينيّ على إنبائي له بسقوط النظام السوري رسميا وذهابه إلى غيرِ رجعة، وبدموعه التي غلبت على صوته أثناء اتصالي به فجرا من غير ميعاد بات يُشكّك بالخبر، ويقول إن النظام عائدٌ غدا، فهذا النظام لا يزول يا أخي ولا أصدّق، ويستحيل أن تشرق علينا الشمس دونه.
يا للهول!! ما الذي يدفع بهذا الرجل السبعيني إلى إنكار سقوط النظام إلى هذا الحد؟ وما الذي يوصله إلى هذا النوع من عدم القدرة على الإفلات؟ وكأن قيود الكون كلها تتزنر حول عنقه؟.. بالتأكيد أن السبب ليس القمع الذي عاينه أو الديكتاتورية.. أبدا.. فإني أكاد أجزم بأنّ كل الأنظمة في العالم تتمتع بعقلية استبدادية مماثلة لعقيلة النظام، ولكنْ كُلٌّ على هواه وطريقته الخاصة، وبالتالي يمكن القول إن قمع النظام السوري ليس بالأمر الجديد على الإطلاق، ولا أستبعد في هذا السياق أن يمارس الحُكّام الجدد لسورية قمعا من نوع آخر بعد أنْ يُمكّن لهم الحكم، لكنّ السبب الحقيقي لفرحة ذلك العجوز السوري يعود إلى أمرين اثنين: الأول منهما هو تجذّر النظام السوري وامتداده العميق في حياة الناس وبيوتهم وتفاصيلهم اليومية وتفكيرهم وجوارحهم الخمسة، وهذا ما ليس متوفرا في أنظمة القمع الأخرى.
وإنني لا أبالغ لو قلت إنّ الواحد منا لو عاد على سبيل المثال، إلى شريط الفيديو الخاص بزفافه قبل سنوات أو ربما قبل عقود من الزمن، فسوف يجد صورة الأسدين في حفل زفافه دون أدنى شك، وسوف يسمع مطرب السمر وهو يغني بملء صوته: "بالروح بالدم نفديك يا بشاااار.. بالعز بالمجد رح ترجعي يا دااار"، وسوف يجد أيضا عناصر الأمن العسكري يدبكون أو يجلسون على الكراسي. أمّا لو عاد إلى شريط ذكريات الدراسة مثلا، فسوف يجد كذلك تماثيل النظام ترافقه ذهابا وإيابا.. يدخل على نشيد "أبو حااافيظ قائدنا، يابو الجبين العالي، تسلم وتصون بلدنا، من غدرة الليالي"، ويغادر على أنغام: "للبعث يا طلائع.. للنصر يا طلائع"، وإذا ما أهداه شاعرٌ ديوانا خاصا فيجد البيت الشعري الأول:
زَيّنْتُ باسْمِكَ بحرَ الشعرِ والكُتُبا
يا حافظَ الشامِ يا جَدّا لنا وأبا
هذا التجذر في حياة المواطن هو الذي زرع في نفس ذلك العجوز ثقافة الفوبيا، لدرجة أنه لم يعد يصدق برحيل الأسد، لأن الأسد ونظامه كانا ملاصقين له في كل تفاصيل الحياة، وبالتالي فإن العيش من دونهما بالنسبة للعجوز يحتاج إلى اعتياد تدريجي، تماما كمن يريد أن يُقلع عن المخدرات، فإن أنجع علاج ينقذه هو الإقلاع التدريجي، إذ لا ينصح الأطباء بالإقلاع دفعة واحدة خوفا على حياة المدمن، وهذا ما أحاط بذلك الرجل الذي لم يصدق حتى الآن أن الأسد قد رحل.
أما النقطة الثانية فهي أن هذا العجوز، بعكسنا جميعا أو بعكس أغلبنا لو أردنا الإنصاف، لأنه عايشَ عهد الأسَدين وليس أسدا واحدا، ومن عايشَ عصر الأب سوف يترحم على عصر الابن، فوالدي رحمه الله كان يمشي في الشارع عام 2000 مع أحد أصدقائه، فباغتّهُ أنا بنبأ من العيار الثقيل، وكنت آنذاك في الصف العاشر، وقلت له: "يابا يابا.. حافظ الأسد مات"، فهرع والدي ورفيقه إلى منزلنا فورا وأغلقا الباب على العائلة وأصدرا أمرا بمنع الخروج، لدرجة أنني ظننت أن حافظ الأسد قُبض في منزلنا، أو نحن متورطون في مصرعه، وذلك حينما اصفرّت واحمرّت وجنتا والدي ورفيقه وأهل البيت، ثم علا صوت تلاوة القرآن من المسجد، ليهرع الناس إلى الطرقات يستطلعون النبأ العظيم وهو وفاة حافظ الأسد.
إنّ هاتين الخُصلتين هما من تُميّزان قمع النظام السوري عن قمع بقية الأنظمة، ولعل كل واحدٍ منا له قصةٌ أو اثنتان أو ثلاث، ولهذا تجد السوريين اليوم يقيمون الأفراح والليالي الملاح بسبب خلاصهم من هذا الكابوس، غير آبهين بمخاطر المرحلة المقبلة وتَبعاتها.
ورغم أن تساؤلات عديدة لم تجد إجابة مقنعة حتى اليوم بشأن انهيار الجيش بشكل سريع ومفاجئ، وسلسلة العمليات والاقتحامات السريعة للمعارضة السورية، تلك الفصائل التي عادت من جديد بصورة أخرى مختلفة شكلا ومضمونا عن الصورة المعهودة.. عادت بأفكار جديدة وعقلية واسعة غير ضيقة.. عادت بعد أن نسيها العالم وبعد أن تفككت وأصبحت تعمل تحت عدة رايات، ما أدى إلى انعدام ثقة الناس بها، وعدم التعويل عليها، وشطبها من دائرة الحسابات، إلّا أنها فاجأت نفسها قبل أي شيء آخر بهذا التقدم السريع وسرعة السيطرة على مناطق ومدن مهمة في البلاد، الأمر الذي طرح عدة تساؤلات، كما أن دخول الاحتلال الإسرائيلي على الخط عقّد المشهد أيضا وذلك من خلال تقدمه في القنيطرة لبضعة كيلومترات وعزمه الاستيلاء على جبل الشيخ، والمنطقة العازلة والتراجع عن اتفاق فصل القوات الموقع بينه وبين دمشق في أيار/ مايو 1974 والذي أنهى حرب تشرين.
مخاطر عديدة تحدق بالمشهد السوري، لكنّ أصحاب القضية لا يملكون الوقت الكافي للتحليل، أو ربما لم تسعفهم نشوة الانتصار في الالتفات إلى مثل هذه المحاذير في بلدٍ يقع ضمن منطقة مليئة بالتناقضات الإقليمية وتحالفات المصالح.
لا يمكن إنكار أخطاء المعارضة، وتحالفاتها السابقة، وتشرذمها إلى مجموعات متناحرة، ومراهنتها على الآخرين، وقتالها خارج الجغرافية السورية، إذ لم يبقَ لها مؤمن واحد، وبات مسؤولوها يُطردون عن الطرقات إذا ما تواجدوا بين تجمّعٍ مدنيّ للسوريين، لكنّ حجم الإنجاز ربما غفر لها ما قد سلف.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سقوط الأسدين سوريا الأسد سقوط الثورة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة النظام السوری
إقرأ أيضاً:
لافروف: أحداث الساحل السوري غير مقبولة ومثيرة للقلق
وصف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اليوم الثلاثاء الأحداث الأمنية الذي شهدتها منطقة الساحل السوري بأنها "غير مقبولة"، مطالبا السلطات السورية بضمان مشاركة كافة مكونات المجتمع في العملية السياسية.
وقال لافروف -خلال مؤتمر صحفي- إن "اندلاع العنف غير مقبول أبدا وقلقون من تطور الأحداث الأخيرة في سوريا".
وأكد أنه "لا بد من ضمان مشاركة المجموعات كافة في العملية السياسية في سوريا والسلطات الجديدة تدرك ضرورة ذلك".
يُشار إلى أنه بعد إسقاط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، أطلقت السلطات السورية الجديدة مبادرة لتسوية أوضاع عناصر النظام السابق من الجيش والأجهزة الأمنية، شريطة تسليم أسلحتهم وعدم تلطخ أيديهم بالدم.
واستجاب عشرات الآلاف لهذه المبادرة، بينما رفضتها بعض المجموعات المسلحة من فلول النظام، لا سيما في الساحل السوري، حيث كان يتمركز كبار ضباط نظام الأسد.
ومع مرور الوقت، اختارت هذه المجموعات الفرار إلى المناطق الجبلية، وبدأت بإثارة التوتر، وزعزعة الاستقرار، وشن هجمات متفرقة ضد القوات الحكومية خلال الأسابيع الماضية خلّفت عشرات القتلى من الطرفين.
كما قالت وزارة الدفاع السورية إن قواتها أعادت السيطرة على مناطق بالساحل شهدت "اعتداءات غادرة" على الأمن العام، ونفذت عمليات تطويق محكمة ضيقت فيها الخناق على ما تبقى من عناصر فلول النظام المخلوع.
إعلان سوريا "صديقة"من ناحية الأخرى، قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف إن روسيا ترغب برؤية سوريا دولة موحدة ومزدهرة ومتطورة وصديقة.
جاء ذلك في تصريحات للصحفيين اليوم بالعاصمة موسكو؛ حيث أكد بيسكوف على دعم موسكو لسلامة الأراضي السورية.
وأضاف أن بلاده "تسعى من أجل استقرار سوريا والمنطقة بأسرها"، محذرا من أن "زعزعة استقرار أو تفكك أحد دولها قد يؤدي إلى نتائج سلبية على المنطقة بأكملها".
وتابع: "نريد أن نرى سوريا دولة موحدة ومزدهرة ومتطورة وصديقة. نحن على اتصال مع دول أخرى بشأن سوريا ومستعدون لمواصلة هذا التعاون".
يشار إلى أن فصائل المعارضة السورية المسلحة بسطت في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 سيطرتها على البلاد، منهية 61 عاما من نظام حزب البعث، و53 سنة من حكم عائلة الأسد.
وفي 29 يناير/كانون الثاني الماضي أعلنت الإدارة الجديدة تعيين أحمد الشرع رئيسا لسوريا بالمرحلة الانتقالية، بجانب قرارات أخرى منها حل الفصائل المسلحة والأجهزة الأمنية، ومجلس الشعب وحزب البعث، وإلغاء العمل بالدستور.