سيناريو سقوط الطغاة يتكرر في سوريا
تاريخ النشر: 9th, December 2024 GMT
سقط نظام بشار الأسد، وتكرر معه نفس السيناريو الذي خضع له معظم المستبدين. تظاهر في البداية بأنه الأقوى والأشرس لبث الرعب في قلوب السكان، وكسر إرادة المعارضين، وعندما اشتد الضغط عليه بدأت قواته تتراجع إلى الخلف، وارتبكت صفوف أنصاره. في هذا المنعرج، وفي مراوغة منه، وجه رسائل سياسية لإشعار الجميع بكونه مستعد للتنازل عن بعض الأشياء مثل القبول بصياغة دستور جديد، أو فتح الإعلام الرسمي المحتكر من قبل النظام لبعض أصوات المعارضة.
طُويت صفحة الأسد وعائلته ونظامه بعد تمسكهم بالسلطة أكثر من نصف قرن. كانت الحصيلة ثقيلة على المستويين السياسي والاقتصادي والإنساني الذي يعتبر الأهم لقياس طبيعة العلاقة بين الحاكم وشعبه، وعندما دخلت كاميرا قناة الجزيرة أقبية سجن صيدنايا الشهير، ونقلت لجمهورها مشاهد من أوضاع السجينات، تذكرت ما ذكره المعارض السياسي ميشيل كيلو أثناء اعتقاله. طلب منه السجان أن يصطحبه إلى زنزانة لكي يحكي قصة لطفل معتقل مع أمه التي ولدته داخل المعتقل على إثر هروب زوجها الى الأردن بسبب انتمائه إلى جماعة "الإخوان المسلمين". عموم الشعب السوري، رغم كونه شعبا مسالما، قد اقتنع في النهاية بأن نظاما حديديا مثل نظام الأسد لا ينفع معه سوى القبضة الحديدية. فالفرح الذي عمّ سوريا والغضب الذي عبّر عنه الشارع دليل واضح على رفض الأغلبية للنظام ورموزه. لم يجد الأسد من يدافع عنه من السكان، حتى أنصاره اختفوا في اللحظات الحاسمةبدأ كيلو يحكي للطفل الذي لم يتجاوز سنه خمس سنوات قصة العصور والشجرة. فالتفت إليه باستغراب وقال "شو يعني عصفور؟". عندها قام الرجل وغادر الزنزانة مطرقا، وهو يردد "لا أعرف حكاية يمكن سردها لطفل لم ير وجه الشمس".
عندما ضاق السوريون من هذا الحالة المأساوية، أرادوا أن يُشعروا بشار بأن الوقت قد حان لتغيير السياسات والأولويات، وأن يرحل بهدوء. فعلوا ذلك في البداية بكل هدوء وعفوية، ورغم أنهم رفعوا شعار "سلمية سلمية" متأثرين بالثورة التونسية، غير أنهم ووجهوا بكل وحشية وشراسة. وهو ما فتح الباب أمام تسليح الثورة، وجعل الفصائل المسلحة والأكثر راديكالية تتصدر المشهد وتقود الصراع الدامي.
اللافت للنظر أن عموم الشعب السوري، رغم كونه شعبا مسالما، قد اقتنع في النهاية بأن نظاما حديديا مثل نظام الأسد لا ينفع معه سوى القبضة الحديدية. فالفرح الذي عمّ سوريا والغضب الذي عبّر عنه الشارع دليل واضح على رفض الأغلبية للنظام ورموزه. لم يجد الأسد من يدافع عنه من السكان، حتى أنصاره اختفوا في اللحظات الحاسمة، وهو ما أقنع بشار بعدم جدوى الاستمرار في معركة محكوم عليها بالهزيمة، فغادر البلاد موصيا أجهزته بالاستسلام والإسراع بنقل السلطة.
الآن وقد قُضي الأمر، وتغير المشهد العام جذريا، أصبح الواجب يقتضي التحرك وبسرعة. سوريا في أشد الحاجة إلى التعجيل بانتقال السلطة، لأن التردد والتلاعب بهذا الأمر من شأنه أن يفتح المجال للطامعين والغاضبين والمشككين. ويعتبر توجيه العناية نحو فض مشكلات الخدمات الأساسية نظرا لارتباطها بمعيشة المواطنين أمرا حيويا، ثم تعتبر صياغة دستور توافقي من أهم الأولويات المطروحة على القوى السياسية والاجتماعية والقانونية، باعتبار الدستور هو الوثيقة المرجعية التي ستحدد طبيعة المؤسسات ونمط الحكم وتضبط ملامح النمط المجتمعي الذي سيعيش في كنفه السوريون. وأخيرا تنظيم انتخابات شفافة وحرة ونزيهة من شأنها أن تفرز رئيسا يتمتع بالشرعية، وكذلك برلمانا حقيقيا ومسؤولا.
القضاء على نظام الأسد هدف مشروع للمعارضة، لكنه يبقى خطوة في مسار طويل ومتعرج. في المقابل هناك أطماع واسعة لدول لا تريد لسوريا أن تكون قوية وفاعلة، وستحرص هذه الدول على التدخل بأشكال متعددة في الشأن السوري من أجل تحقيق مصالحها
كما أن تنظيم الجيش والشرطة يعتبر من المسائل الحساسة والدقيقة، فالجيش السوري كانت تطغى عليه العوامل الطائفية في مجتمع متعدد الطوائف. وهو ما يفرض اعتماد أسلوب جديد في الانتداب والتعيينات.
كما أن السياسة الخارجية تعتبر من المسائل الحساسات التي تقتضي الابتعاد عن سياسة المحاور، والتمسك بالسيادة الوطنية. وفي هذا السياق ستكون القيادة السياسية الجديدة مطالبة بتحديد موقف واضح من دول الجوار، خاصة تجاه إسرائيل التي استغلت الأوضاع الجديدة لتقصف مائة موقع شديد الحساسية عسكريا وأمنيا يتعلق بالأمن القومي السوري، وذلك بحجة ضمان عدم الوصول إليها من قبل داعش. كما اقتنصت حكومة نتنياهو الفرصة لكي تقوم باحتلال الشريط العازل بين سوريا والجولان المحتل، والذي مساحته يقترب من مساحة غزة. والهدف من ذلك إضعاف البلد، وحرمان السلطة الجديدة من فرصة استثمار للذخيرة العسكرية والبنية التحتية التي أنجزها نظام الأسد.
إن الذين انتصروا عسكريا، يتحملون مسؤولية كبرى وهم يتهيئون لاستلام السلطة. القضاء على نظام الأسد هدف مشروع للمعارضة، لكنه يبقى خطوة في مسار طويل ومتعرج. في المقابل هناك أطماع واسعة لدول لا تريد لسوريا أن تكون قوية وفاعلة، وستحرص هذه الدول على التدخل بأشكال متعددة في الشأن السوري من أجل تحقيق مصالحها. خطاب القيادة الجديدة مطمئن إلى حد ما، لكن المخاطر كبيرة والأسئلة المفتوحة عديدة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الأسد الثورة سوريا سوريا الأسد الثورة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة نظام الأسد
إقرأ أيضاً:
سوريا والمشوار الطويل
ما حدث في سوريا خلال الأسابيع القليلة الماضية، وأسفر عن سقوط حكم آل الأسد، ولجوء الرئيس المزمن بشار إلى روسيا، كان نتاج ثورة، والحراك السلمي والمسلح الذي أرغم معمر القذافي على اللجوء إلى أنبوب للصرف الصحي، كان نتاج ثورة، بينما الحراك التونسي الذي أدى إلى هرب زوج ليلى الطرابلسي (زين العابدين بن علي)، كان انتفاضة شعبية، ألهمت شعوب المنطقة فاستيقظت من غفلتها، وخرجت تنشد إسقاط الأنظمة، وما قاد إلى سقوط حكومة زوج سوزان ثابت (حسني مبارك)، انتفاضة شعبية، وفي تشرين أول/ أكتوبر من عام 2019 انتفض شعب لبنان ضد نظام حكم فاسد ومعتل، ولكنه لم ينجح في إسقاطه، وانتفض الجزائريون ضد الحكم العسكري المتنكر في ثياب مدنية، في مطالع عام 2019، ولكنهم لم يحققوا الغاية المنشودة.
ما من ثورة تمشي في خط مستقيم، فمهما تمنى وجاهد من هم وقودها وقادتها، كي تبقى على المسار المنشود لتحقيق غاياتها، فإن للثورات ديناميتها الخاصة المتسمة بالفجائية، لأنها لا تتحرك إلى الأمام أو تتراجع فقط برغبات وجهود القوى الفاعلة فيها، والمحركة لها، بل أيضا تنحني، بل وتنتكس بسبب جهود قوى الثورة المضادةوبإجماع أهل الرأي السياسي في العالم، فإن ما أدى إلى سقوط النظام الملكي في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر كان ثورة، وما يعرف بالثورة البلشفية هي التي نتج عنها سقوط النظام القيصري في روسيا، والثورة العارمة الكاسحة هي التي قادت إلى سقوط حكم الشاه، وصعود الملالي إلى السلطة في إيران، فالثورة تنشد التغيير الحاسم والشامل لنظام الحكم، بالمظاهرات الحاشدة والإضرابات، ثم العنف. والثورة، وليس الانتفاضة الشعبية، هي التي تؤدي عند انتصارها إلى التغيير الكامل لجميع المؤسسات والسلطات الحكومية للنظام السابق، وإقامة نظام بديل.
ما استدعى الفذلكة أعلاه، هو ما سبق أن أشرت إليه هنا بأن هناك من يحاول تبخيس الانتصار الذي حققته الثورة السورية، والقول بأن كل ما حدث في سوريا هو أن جماعة مسلحة من أنصار "داعش" والقاعدة، وصلوا إلى السلطة، وأنهم سيشكلون حكومة طالبانية الهوية والأهداف، أي أن سوريا ستنتقل من ديكتاتورية علمانية إلى ديكتاتورية تتوشح بالإسلام، مسلحة بشعارات "رومانسية" من جنس "الإسلام هو الحل" و"الحاكمية لله". بينما ما حدث فعلا في سوريا هو أن الملايين أبناء وبنات الشعب السوري ظلوا في حال نضال واستبسال على مدى 13 سنة، وكان شرف حسم المعركة من نصيب هيئة تحرير الشام "الإسلامية"، ومن ثم صار تشكيل الحكومة الانتقالية من أوجب واجباتها.
ولكن الانتصار الذي حققته الثورة السورية جزئي، فقد رحل بشار الأسد ولكن الدولة العميقة التي أسسها ووالده حافظ، ما زالت قائمة، ولكن يبدو أن الحكومة الجديدة، لا تعتزم تكرار الخطأ الذي حدث في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، حينما قرر المندوب السامي الأمريكي، بول بريمر، الذي صار الحاكم الفعلي للعراق في عام 2003، حل جميع المؤسسات العسكرية والأمنية، وزج بالبلاد في فوضى أنهكتها، ولكن شواهد التاريخ تقول إن سوريا ستشهد فترة شديدة التعقيد في مقبل الأيام، لأن الفيروس الذي غرسه بشار وأبوه، فتك بمؤسسات الدولة، وسيظل نشطا لحين من الدهر، وفوق هذا كله فقد دك بشار البيوت والمرافق العامة والخاصة، مما سيجعل ملايين العائدين من الشتات السوري، لاجئين داخل وطنهم.
وشواهد التاريخ تقول إنه ما من ثورة تمشي في خط مستقيم، فمهما تمنى وجاهد من هم وقودها وقادتها، كي تبقى على المسار المنشود لتحقيق غاياتها، فإن للثورات ديناميتها الخاصة المتسمة بالفجائية، لأنها لا تتحرك إلى الأمام أو تتراجع فقط برغبات وجهود القوى الفاعلة فيها، والمحركة لها، بل أيضا تنحني، بل وتنتكس بسبب جهود قوى الثورة المضادة، وجسم الدولة المعلول في سوريا يغري فلول النظام المباد، وبعض الطامحين في السلطة بزعزعة الاستقرار المنشود.
جسم الدولة المعلول في سوريا يغري فلول النظام المباد، وبعض الطامحين في السلطة بزعزعة الاستقرار المنشود.عندما يرحل الديكتاتوريون يتركون وراءهم أوطانا معتلة ومختلة، لأن أسلوبهم في الحكم يقوم على المزاج الفردي، وليس على المؤسسية، وانظر حال الصومال الذي أسقط شعبه نظام سياد بري في عام 1992، ولم تسكت البنادق فيه منذ يومها، ثم انظر حال ليبيا التي خاض شعبها غمار ثورة أذهلت العالم، وأسقطت ديكتاتورية القذافي التي دامت 42 سنة، وها هي اليوم خاضعة لحكومتين، وانتفاضة تونس الملهِمة في 2011، تعرضت للسرقة لغير صالح من كانوا وقودها، وانتفاضة مصر التي تلتها أطاحت برأس النظام، ثم أُجهضت بانقلاب عسكري، وفي السودان سقط في عام 2019 رأس نظام (عمر البشير) حكم البلاد ثلاثين سنة، وجاءت حكومة كوكتيل عسكري ـ مدني، ثم انفرد العسكر بالحكم، وها هو السودان في حال صوملة كاملة اليوم.
وقطعا فإن سوريا ليست ليبيا أو السودان أو الصومال، لأن "مجتمعها متمدين" بدرجة طيبة، وليس فيها قبلية تنذر بفتنة، ورئيسها المؤقت أحمد الشرع يقول كلاما ينم عن إدراكه لأهمية احترام التنوع العرقي المتمثل في الأكراد، والتنوع المذهبي الذي يتمثل في الطائفة العلوية، ولكن الصعود من الهاوية التي أسقط فيها بشار وأبوه البلاد، سيحتاج إلى الكثير من الدأب والجلد والحكمة، أخذا في الاعتبار أن جميع بلدان "الربيع العربي"، لم تكن تواجه عدوا خارجيا شرسا، كما هو الحال مع سوريا، التي تسعى إسرائيل إلى تقطيع أوصالها.
يرحل الطواغيت عن كراسي الحكم قسرا أو بأمر ملك الموت، ولكن الفيروسات التي يغرسونها خلال سنوات حكمهم في أجسام بلدانهم، تظل سارية المفعول لآماد طويلة، ولكن على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وبوحدة الصف الوطني وحده، ستنجح سوريا في التعافي، والعافية درجات: خطوة، خطوة.