لجريدة عمان:
2025-01-11@06:45:03 GMT

المسألة السكانية وغيرها .. بين منطقي الكم والكيف

تاريخ النشر: 8th, December 2024 GMT

يحتل مفهوم الـ«كم» في الثقافة الشعبية قدرا كبيرا من الاهتمام، ويظهر ذلك في كثير من الممارسات، على مستوى الفرد والمجموع، فالكم معناه الكثرة، والكثرة معناها القوة والغلبة، وحتى عهد قريب كان ينظر إلى من عنده أولاد كثيرون على أنه محظوظ، وذو منعة، وفي كل أحواله هو غني، ومن كثرت بناته كثر المنتسبون إليه من القبائل المختلفة، وبذلك أيضا يتعزز مقامه، وتكبر أهميته، ولذلك كان هناك من يسعى لأن يتزوج أكثر من امرأة - ليس لضرورة بيولوجية - إنما لتحقيق هذه الغاية، وهي إنجاب أكثر عدد من الأولاد والبنات، وقد قابلت شخصيا شخصا منذ سنوات، وقال مفتخرا إن عنده من الأولاد والبنات أكثر من عشرين فردا، جلهم خريجو الجامعات.

وتذهب الفكرة ذاتها عند آخرين إلى تحصيل الإكثار من الأموال سواء في شراء الأراضي الزراعية، أو السكنية، أو امتهان التجارة، وفي تقييم مثل هؤلاء أن المال الكثير يحقق الكثير، مفهوم الكم والكثرة لكل شيء، وإن استنفد الكثير من الجهد الذهني والمادي، وعند فئة ثالثة ترى أن التعرف على الناس، ومصادقتهم هو نوع من الفخر، وإن كلفه ذلك الكثير من مواقف العتب والرضا وبذل المال. فالمهم أن تتحقق الكثرة في جلب الأصدقاء، بمعنى آخر - ومن خلال هذه الأمثلة وغيرها - تحل الكثرة «الكم» كمشروع اجتماعي ينظر إليه بكثير من الاهتمام والأهمية بغض النظر عن الوسائل المستخدمة لجلب هذا الكم في كل معانيه ومناخاته حيث تدخل ثقافة المجتمع هنا بقوة في تأصيل هذه الرغبة الجامحة عند الأشخاص الساعين إلى تحقيق مفهوم الكم، وفي تقييم هؤلاء أن الكيف هو نوع من الترف غير المتوافق مع ثقافة المجتمع الذي يرى في الكم القوة، والنصرة، والتمكين، وبسط السيطرة، وقد نص القرآن الكريم عن موقف قوم النبي شعيب منه ومنعته من قومه في قول الله تعالى: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول، وإنا لنراك فينا ضعيفا، ولولا رهطك لرجمناك، وما أنت علينا بعزيز) - الآية (91) من سورة هود - حيث «هددوه بقولهم: (ولولا رهطك لرجمناك) أي ولولا هذا النفر القليل الذين هم عشيرتك لرجمناك لكنا نراعي جانبهم فيك، وفي تقليل العشيرة إيماء إلى أنهم لو أرادوا قتله يوما قتلوه من غير أن يبالوا بعشيرته، وإنما كفهم عن قتله نوع احترام وتكريم منهم لعشيرته» حسب ما جاء في تفسير الميزان للطباطبائي وفق المصدر. ولنا في قول الشاعر جمال التأثير: «أنعم برهط هم كالدر كوكبة منا يحق لهم فخر وإعجاب».

وقد تصدر مفهوم الكم في الثقافة العربية، وعلى وجه الخصوص الاجتماعية في كثير من الأمثلة والحكم، ومنها: «الكثرة تغلب الشجاعة» و«الذئب بين كلبين ذليل» وهو ما يعزز من الأثر والقوة التي تنتج عنه أفعال وممارسات «الدهماء» على الرغم من القذف الذي تتلقاه الدهماء من ذات الثقافة الاجتماعية، وهي تقع في المعنى ذاته الذي يذهب إليه المصطلح الصحفي «عقلية القطيع» ويبدو أن مفهوم الكم في حالة الاسترخاء الفكري منتقد بقوة، وغير مرحب به كأسلوب لتسيير الكثير من فعاليات حياة الناس في المجتمع، ولكنه ضرورة ملحة في حالات العسرة، ولذلك نرى أهمية الكم في المظاهرات في مختلف عناوينها العريضة، وكيف أن هذا العدد الكبير من الناس يفرض أجندته على صاحب القرار، فيستجاب لمطالبه، «حقنا للدماء» إلا أنه ما يعاب على الكم العشوائية وعدم التنظيم، حتى على مستوى الفرد نفسه، الذي يرى - على سبيل المثال - أن كثرة الأولاد هو نوع من القوة، ففي تجارب المجتمع أن كثيرا ما تخرج هذه الأعداد عن سيطرة الأبوين، وتكون في أغلب الأحوال عبئا ليس ماديا فقط بل عبئا معنويا، فكثيرا ما تأخذ هذه الأعداد طرقا ملتوية عندما لا تستطيع الحاضنة الأسرية أن تسيطر على مختلف القوى الثائرة لدى هذه الأعداد، والمقصود بالقوة الثائرة هنا هي مجموعة الطموحات المستنفرة عند كل فرد من أفراد المجموعة، ومجموعة الآراء والمواقف، خاصة عندما يكون أحد طرفي الحاضنة (الأب/ الأم) على قدر بسيط من استيعاب تجربة الحياة، ومن هنا يأتي مبرر الطرف الثاني المنتصر للكيف، والذي يرى أن صناعة الذكاء لا يمكن أن يتحقق بوجود الكم، وهذا ما تذهب إليه بعض الأنظمة السياسية في الدول، وذلك من خلال تحجيم النسل، للفكرة الموجودة بأن ذلك يسهل في تنفيذ الكثير من السياسات التنظيمية الذاهبة إلى ترشيد الإنفاق فيما لا صالح فيه، والذهاب مباشرة إلى صناعة الندرة من الكفاءات على مستوى الدولة الواحدة، وأن العدد الكمي يخلق مشاكل كثيرة: اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، سياسية، مع أن هذا التوجه أثبت فشله في كثير من تجارب الدول التي أخذت بهذا الأسلوب في المعالجات الديموغرافية، وواجهت مشاكل اجتماعية لا أول لها ولا آخر، حيث حاولت سد النقص في القوى العاملة من خلال جلب قوى عاملة وافدة، فأثرت ليس فقط على الجوانب الاقتصادية للدولة المستضيفة، بل تعدى ذلك إلى مشاكل اجتماعية، سلوكية ولغوية وقيمية مختلفة، وأمنية، وفوق ذلك كله خطورة الانتماء الوطني الذي لا ترى فيه هذه قوى العاملة الوافدة أي مسوغ يمكن أن يجبرها على ذلك، فهي حاضرة لجمع مزيد من المال في فترة قياسية قصيرة بالوسائل المشروعة وغير المشروعة وإن طالت الإقامة، والعودة إلى بلدها الأم، وبالتالي فما الذي يعنيها في البلد المستضيف؟ يقينا لا شيء.

تقتضي الضرورة أن تكون الحسابات الكمية مسلمات معيارية، ولكن ليس بالضرورة أن تكون الحسابات النوعية «الكيفية» حسابات معيارية لخصوصيات تكويناتها وخصائصها، ماذا يعني هذا القول؟ يعني أن الحسابات الكمية قابلة للانشطار والمقارنة، وأثرها على واقع الحياة ملموس، ولننظر إلى بلد عدد سكانها بالمليونية، هذه يمكن قياسها بالأخرى التي عدد سكانها بضعة عشرات من الآلاف، سواء من ناحية القوة التشغيلية «القوى العاملة» أو من ناحية الرهط، وأهميته في تعظيم القوة العسكرية وهذا أمر مهم حتى في العصر الحديث المعتمد على الآلة العسكرية الإلكترونية كما نرى اليوم في الحرب المتوحشة على الفلسطينيين التي تقوم بها الصهيوأمريكية، أو من ناحية تعدد وتنوع الأعراق، والمهن، وحتى الديانات، ومختلف الثقافات، ولأن الهند هي الأقرب للمقارنة بالنسبة لدول الخليج، نرى أن القوى العاملة من هذا البلد، مكتسحة الدول الخليجية على وجه الخصوص بينما مجموع سكان الدول الخليجية ربما لا يصل عدد سكان مدينة واحدة من مدن هذه الدولة، هل هرمت هذه الدولة بهذا العدد الرهيب من السكان؟ إطلاقا لا تزال تدفع بهذا العدد الكبير جدا من السكان إلى مختلف دول العالم، واليوم أصبح لهم صوت في القرار السياسي في كثير من الدول، والأمثلة كثيرة، بينما المنتصرون للكيف في المسألة السكانية لا يزالون يراوحون عجزهم المهني، وضعف طاقاتهم الإنتاجية، وارتباك مواردهم، لأن القوى العاملة الوطنية غير قادرة على استيعاب متطلبات برامج التنمية في الدول التي كانت تروج للكيف أكثر من الكم، والذين يقلقهم الكم ربما يتخوفون من مسألة استفحال الرغبة والشراهة، وهذه من متطلبات الكم الرئيسية، ولذلك نرى أيضا في تجارب بعض الدول أنه -وانعكاسا لهذه الرغبة والشراهة من وجود هذا الكم من عدد السكان- أن النظام السياسي لا يستطيع أن يلبي الحاجيات الأساسية لهذا الكم، وهذه الصورة انعكست سلبا على قناعات بعض الأنظمة الأخرى، ورأت أنه كلما قل عدد السكان، وصلت متطلبات السكان إلى مستويات الاكتفاء، وقلة الحاجة، واستراح النظام من الضغط الاجتماعي للجم الأفواه الشرهة، وهذه قناعات غير صحية على الإطلاق، ولعل لنا أن نتخذ جمهورية الصين مثالا آخر للتقدم العلمي، وهي الدولة التي تتصدر دول العالم في عدد السكان، وهي الدولة المتميزة في صناعة الذكاء، بفضل تنميتها لأفراد مجتمعها، وهي اليوم بلا جدال تملك كل قراراتها السياسية، والاقتصادية، وفي كل مجالات حياتها الأخرى، لأنها لم تسع إلى صناعة الغباء من خلال تحييد المتميزين والأذكياء من أبنائها، مع كثرة هؤلاء الأبناء.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: القوى العاملة فی کثیر من الکثیر من الکم فی من خلال

إقرأ أيضاً:

بسبب نقص الرعاية الصحية.. عمدة إيطالي يحذر السكان: "لا تمرضوا"

في خطوة غير مألوفة، أصدر عمدة بلدة بيلكاسترو في جنوب إيطاليا، أنطونيو تورشيا، مرسومًا يدعو السكان إلى "تجنب الإصابة بأي مرض أو التعرض لأي حادث"، في محاولة ساخرة للفت الأنظار إلى أزمة الرعاية الصحية المتفاقمة التي تعاني منها المنطقة النائية.

اعلان

وطالب المرسوم السكان بالبقاء في منازلهم قدر الإمكان، والامتناع عن السفر أو ممارسة الأنشطة التي قد تعرض صحتهم للخطر. وأوضح تورشيا أن الهدف من هذا القرار ليس السخرية فقط، بل هو صرخة استغاثة لتسليط الضوء على افتقار البلدة إلى خدمات صحية كافية.

ففي بيلكاسترو، لا توجد خدمات طوارئ متاحة خلال الليل أو في أيام العطلات، فيما تبقى العيادة المحلية مغلقة معظم الأوقات. ويضطر السكان إلى السفر نحو 45 كيلومترًا للوصول إلى أقرب غرفة طوارئ في كاتانزارو، وهو تحدٍّ كبير خاصةً لنحو نصف سكان البلدة البالغ عددهم 1200 نسمة، الذين تتجاوز أعمارهم 65 عامًا.

القرى النائية في إيطاليا تفتقر للرعاية الصحيةGregorio Borgia/AP

وقال تورشيا في تصريحات للتلفزيون الإيطالي: "هذا ليس مجرد استفزاز. المرسوم هو دعوة للاستيقاظ من سبات تجاه وضع غير مقبول". وأضاف أن تجاهل هذه المشكلات قد يؤدي إلى أضرار طويلة المدى، ليس فقط في بيلكاسترو، بل في بلدات مشابهة أخرى.

وتعد بيلكاسترو، الواقعة في منطقة كالابريا جنوب إيطاليا، واحدة من أفقر المناطق في البلاد وتعاني من نقص حاد في الكوادر الطبية. تُظهر الإحصائيات أن هناك حوالي 1700 طبيب عام يخدمون سكان كالابريا البالغ عددهم مليوني نسمة، وهو رقم غير كافٍ لتلبية الاحتياجات الصحية.

نموذج عن القرى النائية في إيطالياAP Photo

وللتعامل مع هذا النقص، لجأت الحكومة منذ عام 2022 إلى توظيف مئات الأطباء الكوبيين لسد الفجوات. ومع ذلك، تشير التقديرات إلى أن المنطقة بحاجة إلى 2500 طبيب إضافي لضمان توفير خدمات طبية مقبولة.

وتتجاوز المشكلة كالابريا، حيث تشير البيانات إلى أن ما يقرب من 1000 طبيب يغادرون إيطاليا سنويًا للعمل في الخارج، مما يجعلها واحدة من الدول الأوروبية الأكثر تأثرًا بفقدان الكفاءات الطبية.

Relatedإيطاليا تعلن الحرب على السمنة.. 4.2 مليون يورو لتوفير العلاج الفوريرئيسة وزارء إيطاليا تفاجئ ترامب في منتجعه بفلوريدا والرئيس المنتخب يصفها بالمرأة المذهلةطهران تربط احتجاز عابديني بقضية الصحفية سالا وتحذر إيطاليا من تداعيات ذلك

كما حذّر تورشيا من أن نقص الخدمات الصحية الأساسية يهدد مستقبل البلدات الصغيرة مثل بيلكاسترو. وقال: "إذا استمرت الأمور على هذا المنوال، فإن هذه البلدات ستفقد سكانها خلال العقد المقبل".

وتعد أزمة الرعاية الصحية في بيلكاسترو نموذجًا لمشكلة أوسع نطاقًا في إيطاليا، حيث تحتاج المناطق النائية إلى استثمارات جادة لضمان بقاء سكانها وتمتعهم بالخدمات الأساسية حيث يدعو تورشيا إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لإنقاذ بلدته، مع التأكيد على أن الحلول المؤقتة ليست كافية لإحداث تغيير دائم.

Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية الالتهاب الرئوي: مرض شائع بأعراض مألوفة لكنه قد يكون مميتًا مصر تكشف عن أول حالة نادرة مصابة بمتلازمة فيكساس.. كل ما يجب أن تعرفه عن هذا المرض! إنجلترا: 3 من كل 5 مرضى بالسرطان يتم تشخيصهم مبكرًا مستشفياتقوة العملإيطاليارعاية صحيةمرضاعلاناخترنا لك يعرض الآن Next مباشر. الحرب في يومها الـ460: قتلى وجرحى في غزة ونتنياهو يطالب بنهج هجومي بالضفة وغارات عنيفة على اليمن يعرض الآن Next تحذيرات صارمة من فريق ترامب لموظفي البنتاغون.. إثبات الولاء شرط للبقاء يعرض الآن Next الفراغ الرئاسي في لبنان يقترب من نهايته.. فهل يكون قائد الجيش جوزيف عون الأوفر حظا؟ يعرض الآن Next للتشجيع على فصل النفايات والترويج لإعادة التدوير.. بيزييه الفرنسية تستخدم صور بوتين وخامنئي وكيم يعرض الآن Next هجوم لاس فيغاس: الجندي الذي فجر شاحنة تسلا أمام فندق ترامب استخدم "تشات جي بي تي'" اعلانالاكثر قراءة واشنطن تتهم موسكو باللعب على الحبلين في حرب السودان لاستثماراتها في تجارة الذهب ترامب يتوعد بجحيم في الشرق الأوسط ويعلن عن خطط لضم غرينلاند وتغيير اسم خليج المكسيك لـ "خليج أمريكا" سمكة بـ 1.25 مليون يورو: مزاد تاريخي في سوق طوكيو للأسماك الصين: مئات القتلى والجرحى إثر زلزال مدمر في التبت معلومة "ذهبية" وصلت من أحد المقربين.. تفاصيل جديدة عن عملية اغتيال ند إسرائيل الأول حسن نصر الله اعلان

LoaderSearchابحث مفاتيح اليومضحاياسورياعيد الميلاددونالد ترامبالحرب في أوكرانيا طوارئقطرفرنساأمازون (شركة)أبو محمد الجولاني جندي- جنودعقوباتالموضوعاتأوروباالعالمالأعمالGreenNextالصحةالسفرالثقافةفيديوبرامجخدماتمباشرنشرة الأخبارالطقسآخر الأخبارتابعوناتطبيقاتتطبيقات التواصلWidgets & ServicesJob offers from AmplyAfricanewsعرض المزيدAbout EuronewsCommercial ServicesTerms and ConditionsCookie Policyسياسة الخصوصيةContactPress officeWork at Euronewsتعديل خيارات ملفات الارتباطتابعوناالنشرة الإخباريةCopyright © euronews 2025

مقالات مشابهة

  • الرئيس السيسي: الزيادة السكانية أثرت بشكل كبير على الدولة
  • مصر تستضيف ورشة عمل حول تكنولوجيا الكم
  • السنوار الذي أسقط الأسد.. عن الجانب الصحيح من التاريخ
  • حريقان في لوس أنجلوس يدمران 10,000 منشأة وسط تحذيرات جديدة لإجلاء السكان
  • حرائق لوس أنجلوس تُجبر السكان على ترك سياراتهم والسلطات تتدخل .. فيديو
  • حكم النمص ونتف شعر الحاجب للمتزوجة وغيرها
  • بسبب نقص الرعاية الصحية.. عمدة إيطالي يحذر السكان: "لا تمرضوا"
  • محافظ بني سويف ونائب وزير الصحة يناقشان خطة تحسين الخصائص السكانية
  • الأوضاع في كاليفورنيا.. حرائق بوربانك تلتهم المنازل وتجبر السكان على الفرار
  • محافظ بني سويف ونائب وزير الصحة يناقشان آليات تحسين الخصائص السكانية