نظرة فى ثيمة التردّد فى الأدب العربي
تاريخ النشر: 8th, December 2024 GMT
آه، كم من مرةٍ غيَّر أحد أصدقائنا رأيه فجأةً بشأن الانضمام إلينا فى نزهة أو لعشاءٍ فى مطعم. وعندما ينضم إلينا أخيرًا فى مناسبة عشاءٍ أخرى، نراه يتململ ويتردّد فى اختيار ما يطلبه من الطعام، متأخرًا عن دوره حتى يسمع طلباتنا، ثم يطلب الطبق الذى اختاره آخر شخص فى المجموعة، ثمّ يغير رأيه ويطلب طبقا من السلطة.
يعد التردّد حالة نفسية وعاطفية ليس فقط فى أفراد بأعينهم بل أيضا فى شخصيات روائية تكافح مع الشكّ، والتردّد، والخوف من اتخاذ القرارات الخاطئة. يستكشف الروائيون من خلال هذه الشخصيات المترددة تعقيدات النفس البشرية وعواقب عدم الحسم على الأفراد والمجتمعات.
فى الأدب العربي، يتداخل التردّد مع قضايا الهوية، والقيود الاجتماعية، والتحولات السياسية. أحد الأمثلة البارزة على التردّد فى الأدب العربى يظهر فى رواية نجيب محفوظ الثلاثية (1956-1957)، خاصة فى شخصية ياسين، الذى يعانى صراعا داخليا حول علاقته بوالده ومكانه فى المجتمع المصرى. طوال الثلاثية، يُظهر ياسين عدم قدرته على اتخاذ قرارات حاسمة فى حياته الشخصية، ودوره فى عائلته، واهتمامه بالشئون السياسية، ما يمثل حالة الضعف الأخلاقى والاجتماعى فى مصر فى بداية القرن العشرين. يعكس تردده الأزمة الاجتماعية الأكبر فى مصر، حيث تركت التغيرات السياسية والثقافية السريعة العديد من الأفراد فى حالة من عدم اليقين حول هويتهم ومسارهم.
وفى رواية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال (1966)، يواجه مصطفى سعيد، بطل الرواية، صراعًا داخليًا بين هويته العربية والمجتمعين الاستعماريين فى أفريقيا وأوروبا. إن تردده ينبع من تعارضه بين جذوره الثقافية وإغراءات الحضارة الغربية. رفض مصطفى الالتزام بهوية واحدة –عالقًا بين ثقافتين– يمثل الدوامة الوجودية التى يعيشها العديد من الأفراد فى المجتمعات ما بعد الاستعمارية. تردّد مصطفى يؤدى إلى نتائج مأساوية، ما يبرز عجزه الذى يدفع الرواية إلى استكشاف موضوعات العزلة والفقد.
كما يتناول غسان كنفاني، وهو من أبرز كتّاب الأدب الفلسطيني، التردد فى روايته رجال فى الشمس.(1962) تركز الرواية على ثلاثة لاجئين فلسطينيين يحاولون الهروب من ظروفهم القاسية، لكن عدم قدرتهم على اتخاذ قرار حاسم يرمز إلى عجز الشعب الفلسطينى تحت الاحتلال. إن تردّدهم فى اتخاذ أى خطوة حاسمة فى مواجهة التحديات يفضى إلى نتائج مأساوية.
إن التردّد، كما يتم تصويره فى الأدب العربي، يعكس التوترات النفسية والاجتماعية التى تؤثر فى سلوك البشر ويتداخل مع صراع الهوية والتحولات السياسية. من خلال استكشاف شخصيات ممزقة بين الرغبات المتضاربة، والقيم، والضغوط الخارجية، توفر هذه التمثيلات الأدبية رؤى غنية حول تعقيدات اتخاذ القرار وعواقبه العميقة. فى الأزمات الوجودية تعكس ثيمة التردّد صراعاتنا مع الخيارات وعواقب عدم حسم الامور.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الانضمام مطعم حالة نفسية فى الأدب الترد د
إقرأ أيضاً:
وقف النار المرتقب!
مع قرب تولى «الرئيس» ترامب مهام الحكم فى الولايات المتحدة تتسارع الجهود على جبهة الحرب فى غزة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين اسرائيل وحماس. ورغم أن هذه الجهود تواصلت على مدار اكثر من عام ونصف العام إثر عملية طوفان الأقصى، إلا أن نجاحها لم يكن أقرب مما هو قائم الآن.
دلالات تزايد الآمال بالتوصل إلى مثل هذا الاتفاق عديدة وربما يصعب حصرها فى مقال واحد أو سطور معدودة، حيث تتنوع لتشمل أبعاد الموقف الإسرائيلى والذى يصل لحد اعتباره من قبل البعض هناك وعلى رأسهم بن غفير نوعا من الاستسلام لحماس، وكذلك الأمر على صعيد الفلسطينيين حيث ربما يأتى بعد وصولهم إلى أقصى مراحل الإنهاك بفعل الحرب والتدمير والإبادة. لكن المهم فى النهاية أن الاتفاق أصبح قاب قوسين أو أدنى لحد اشارة مسئولين إلى أنه من غير المرجح أن تؤدى الخلافات بين حماس وإسرائيل إلى عرقلة الصفقة.
لو عدنا لتصريحات مثل هؤلاء المسئولين من كافة الأطراف أمريكية وإسرائيلية وفلسطينية بل وعربية لن نجد أكثر من الحديث عن وقف النار.. كان ذلك هو المصطلح الذى تلوكه الألسنة ليل نهار.. وكان ذلك هو الأمل أو السراب الذى تاقت اليه نفوس الكثيرين ممن شعروا أن الوضع فى غزة أصبح يفوق الاحتمال فى ظل الصمت الدولى على المجازر هناك.
الغريب أنه كم من مرة كان التصور أن الاتفاق أصبح فى اليد ليتم تلغيمه كما كان يتم الإعلان من قبل نتنياهو. بعد أن بلغت الأزمة ذروة من ذرواتها أعلنت ادارة بايدن اغسطس الماضى عن أن منتصف الشهر ربما يكون التاريخ النهائى لإبرام مثل هذا الاتفاق ومر أغسطس وسبتمبر واكتوبر.. إلخ.. دون أن تلوح فى الأفق بادرة وقف الحرب.
ما نود التأكيد عليه هنا زاوية مهمة تتعلق بما يمكن اعتباره بديهياً من بديهيات إدارة الأمور فى منطقتنا، الشرق الأوسط، وعلى صعيد الصراع مع إسرائيل بشكل خاص تؤكد صدق العبارة التى أشار اليها الرئيس الراحل أنور السادات فى تعاطيه مع تطورات حرب اكتوبر وهى أن 99 بالمئة من أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة. دلالة ذلك على صعيد الموضوع الذى نتناوله هنا أن واشنطن لم تكن من البداية راغبة فى وقف الحرب فى غزة رغم كل التمويهات ورغم كل التحركات و«الحركات» التى بدا أن بلينكن وزير الخارجية الأمريكى يقوم بها من أجل مثل هذا الأمر.
الآن، والآن فقط، وبعد قرب تولى، ولأمور تتعلق بترتيب أجندة ترامب لفترته الرئاسية الجديدة تسعى الإدارة الأمريكية لوقف حرب غزة وليتحول موقف نتنياهو، رمز الصقور فى اسرائيل، إلى إحدى الحمائم لحد اشارة وسائل اعلام اسرائيلية لتوبيخ مبعوث ترامب لرئيس الوزراء الإسرائيلى لقبول خطة وقف النار.
الاتفاق حتى الآن فى مرحلة المخاض، وقد يتم وقد لا يتم، وإن كان الأرجح أن يتم، لكن الأمر يكشف عدم صحة الدعاوى التى تشير إلى أن الأمر بيد إسرائيل كلية، فيما الحقيقة أنها ليست سوى أداة، صحيح أن لديها هامشاً، أو قدراً من حرية الحركة لكنه هامش محدود، ليس على مستوى القضية التى نشير اليها بشكل خاص وإنما فى المطلق، لحد يصح معه التشبيه الذى اشرنا اليه وذكره كثيرون من أنه يمكن اعتبار اسرائيل ولاية أمريكية ولكن عن بعد!
ورغم أن الإجابة على السؤال عما اذا كان ما تريده واشنطن قدراً لا يمكن الفكاك منه أم لا.. ربما تكون معروفة، إلا أن المشكلة تكمن فى نظرتنا نحن الذين نريد اعتباره كذلك! وذلك جانب آخر من الأزمة ليس هنا مجاله!
[email protected]