يحكي الزميل سعيد الشنفري في مقطع فيديو له، أنه في عام 2002 تقريبًا، عندما كان مذيعًا في التلفزيون في مسقط، فكّر أن يفتح نشاطًا تجاريًّا في صلالة، عبارة عن محل لبيع الخضروات والفواكه، واستجلب لأجل ذلك عاملًا آسيويًّا اسمه محمود لإدارة المحل مقابل مائة ريال عماني. لاحظ سعيد طموح محمود الكبير، وأنّ المائة ريال عماني التي يتسلمها من المحل لا تفي طموحاته، وهو لم يغترب لمبلغ كهذا.
بطموحه ترجم محمود الأبيات المنسوبة للإمام الشافعي إلى واقع:
بقدرِ الكدِّ تكتسبُ المعالي
ومَن طلب العُلا سهر الليالي
ومَن رام العُلا من غير كد
أضاع العُمرَ في طلب المُحال
تروم العز ثم تنام ليلًا؟!
يغوص البحرَ من طلب اللآلي
في مقطع الفيديو القصير الذي لا يصل إلى ثلاث دقائق تناول عدة نقاط، وكلها مهمة أستطيع أن ألخّصها في الآتي:
من لا يحب صعود الجبال يعِش أبد الدهر بين الحُفر، كما قال أبو القاسم الشابي؛ ومن هنا فإنّ محمود ضرب مثلًا للجيل الجديد، الذي اكتفى فقط بانتظار الوظيفة في الحكومة، حتى وإن طالت عليه السنوات وهو نائم في سريره، بينما يزخر الوطن من شماله إلى جنوبه بخيرات وفيرة وكثيرة، لو استغلها أبناء الوطن لكانت كفيلة بأن تعيشهم في بحبوحة. وكما هو معلوم أنه لا توجد أيُّ حكومة في العالم تستطيع أن توظّف جميع أبنائها، لكن يتحتّم على الحكومة أن توجد الأعمال للشباب، بدلًا من تسليم «الجمل بما حمل» للوافدين، الذين قد يفوقون عدد المواطنين في غضون فترة قصيرة في معادلة لا تفسير لها، إذ كيف لا يجد الشباب أعمالًا ووظائف في ظلّ وجود هذا العدد الكبير من الوافدين؟! ولا أدري أين اختفت بعض المصطلحات التي كنَّا نردِّدها في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي مثل «الإحلال» و«التعمين»؟ وإذا كان الشباب لم يجدوا الوظائف في الحكومة ولا في الشركات التي يمثل الأجانب فيها 90%، فإنّ واجب الحكومة العمل على حلِّ هذه المشكلة التي أصبحت تؤرق الجميع، وصارت أزمة وطنية بامتياز، هذا عدا المصطلحات التي أصبحت سمة عُمانية مميزة مثل «التسريح» الذي يحتاج إلى وقفة شجاعة وإرادة حقيقية لإيجاد الحلول لها.
نحمد الله أنه حبانا في عُمان كلّ الخيرات، ولو أنها استغلت الاستغلال الأمثل لأصبحت تلك الخيرات بديلًا عن النفط والغاز، وإن توجهتَ إلى أيّ مجال من المجالات فهناك أبواب خير، سواء في السياحة أو الزراعة أو التجارة أو الثروة الحيوانية والسمكية وغيرها. وفي رحلتي إلى صلالة في شهر أكتوبر 2024، تذكرتُ ما قاله الإعلامي المصري الراحل صبري يس عندما زار الجبل الأخضر، وقال «إنّ هذا الجبل بترولٌ آخر، لو استُغل الاستغلال الصحيح»؛ فخيرات محافظة ظفار -على سبيل المثال- تكفي عُمان كلها من كلّ شيء، ولا يمكن لي أن أعدّدها كلها؛ ولكن ماذا لو استغلت الثروة الحيوانية ببيع لحومها وألبانها وكلّ مشتقاتها واستغلت جلود تلك الأنعام في الصناعات الجلدية والحقائب وغيرها؟ ماذا لو استثمرت شجرة واحدة فقط هي «النارجيل» في إنتاج الزيوت والعصائر والحلويات والألياف؟ ماذا لو جرت الاستفادة من تلك المساحات الكبيرة لمزيد من الإنتاج الزراعي وتطوير الزراعة وإضافة محاصيل جديدة؟ ماذا لو استغلت شجرة اللبان بالتصدير وبالصناعات العطرية والدوائية والمطهرات والصابون وغيرها؟! وماذا وماذا وماذا..؟!
روى لي الرحالة أحمد بن حارب المحروقي ذات مرة -وهو صاحب إبل- أنّ أمريكيًّا كان يشتري منه حليب النوق بكثرة، فسأله أحمد مرةً لماذا هذه الكمية الكبيرة وأنت هنا مع زوجتك فقط؟! فأجاب: «أنا أصنع من هذا الحليب صابونًا وأبعثه إلى أمريكا وله إقبال كبير»، وما لبث أن انتقل الرجل إلى صلالة ليعيش على حليب النوق الذي يأخذه من هناك مجانًا.
المؤسف أنّ كلّ تلك الخيرات الآن بيد الوافدين، لدرجة أن يصل الأمر بسوق العقار أن يكون هؤلاء الأجانب هم من يؤجرون ويحددون الأسعار، والمواطنون في سبات ويحلمون أحلامًا يظنون أنها سعيدة. وفي ذات الرحلة مع أصدقاء في سوق الخضار إذ الأيدي العاملة الآسيوية تنزل تلك الخيرات للمحلات التي يديرها الوافدون أيضًا ويستلمون المبلغ حالًا ونقدًا، فيأتي المواطنون وقد يكونون في الأصل هم أصحاب المزارع، فيشترون منهم حاجتهم اليومية وانتهى الأمر! وهل يُعقل أن تكون منطقة «النجد» الزراعية بيد الأيدي العاملة الوافدة؟
هناك من يعتقد -خطأ- أنّ جمال محافظة ظفار يكمن في خريفها فقط، وهذا ليس صحيحًا؛ فالمحافظة هي وجهة سياحية جميلة طوال السنة، بجمالها وجبالها وشواطئها وسهولها ومزارعها وهدوئها وطيبة أهلها، وهي بذلك ينطبق عليها كلام الإعلامي الراحل صبري يس بأنها تشكّل أيضًا دخلًا آخر يوازي دخل النفط، إذا أهلت التأهيل الصحيح بأن تكون وجهة سياحية حقيقية طوال العام.
وإذا ما تركنا ظفار وأينما توجهنا في القُطر العماني كله من مسندم إلى صلالة، فإنّ المشكلة هي نفسها؛ فثرواتنا السمكية بيد الأجانب، والجرافات تستنزف تلك الثروة ولا نعلم لحساب من؟ والزراعة بيد الأيدي العاملة الوافدة برضا المواطنين وصمت الجهات الرسمية؛ وحتى السياحة، رأينا في طيوي بولاية صور مرشدين سياحيين أجانب مع أفواج سياحية كبيرة.
وإذا كان للعملة وجهان، فلا بد لنا أن نرى الوجه الآخر؛ فولاية مثل نزوى، يُحسب لشبابها أنهم مبدعون في كلِّ الأعمال. صحيحٌ أنّ الأيدي العاملة الوافدة موجودة، لكن الشباب لم ينتظروا الوظائف الحكومية، فهُم المسيطرون على السوق، وهم من يبيعون ويقطعون الأسماك، وهم من طوّروا الحارات القديمة، مثل حارة العقر، فجعلوا منها وجهة سياحية تشرّفنا أمام الوفود السياحية، وتندهش من ذلك الجمال ومن تلك المقاهي والنُزل والتسهيلات السياحية في التنقل والمرشدين السياحيين؛ والسائحُ لنزوى يحس فعلًا أنه في سلطنة عُمان وليس في دولة شرق آسيوية، والسؤال: ماذا لو انتظر هؤلاء من وزارة السياحة أن ترمّم لهم الحارات القديمة، وتوفر لهم أسباب السياحة؟! ما فعله شباب نزوى أصبح قدوة؛ فهناك أكثر من ولاية الآن تنهج النهج نفسه، وهذا ما شاهدناه في إمطي في إزكي وفي بهلا والحمراء، والآن أدم على الطريق نفسه وإن كان على استحياء.
وإذن؛ فإنه إذا كان المطلوب من الشاب العماني أن يتجهوا إلى كلِّ الأعمال بدلًا من انتظار الوظيفة، فإنّ ذلك لن يتحقق إذا كانت هناك معوقات تعيقه، وإذا لم تتخذ الحكومة خطوات جادة وقوية لإتاحة الفرصة لهم بأن يحلوا محل الأيدي العاملة الوافدة، التي تشكّل الآن لوبيات ضد المواطنين. وما أقوله عن هذه اللوبيات ليس سرًا، فكلُّ مسؤول يعرفه ويعرفه كلّ المواطنين، وسيبقى السؤال الأبدي: ما هو الحل، وبيد من؟!
تناول سعيد الشنفري «محموده»، ولكن في عُمان أكثر من محمود، وسيزيد عددهم، إذا لم يكن الشباب العمانيون طموحين طموح محمود، وإذا لم تكن هناك إرادة حقيقية لإيجاد الحلول. وفي اعتقادي أنّ الحلول سهلة وهي في متناول الأيدي، ولكن التأخير في إيجادها سيُفاقم المشكلة، ويكفي ارتفاع عدد الوافدين، مع ارتفاع الباحثين عن العمل والمسرحين.
زاهر المحروقي كاتب عُماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ریال عمانی ماذا لو إذا کان
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ان التوكل على الله يلزم منك الثقة بالله؛ ثق في الله أكثر مما تثق بما في يدك. والثقة بالله والتوكل عليه يقتضيان التسليم لأمره، أي الرضا بفعل الله. وهذا الرضا يجعلك هادئ النفس، ويجعلك تواجه الناس بقلبٍ مفتوح، وبصدرٍ رحب، وبابتسامة لا تغادر وجهك أبدًا.
واضاف جمعة، في منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ان مشايخنا -رضي الله تعالى عنهم- ممن منَّ الله علينا بإدراكهم، علمونا أنهم كانوا في حالة رضا وتسليم وتوكل على الله. فكان يأتي أحدهم ليشكو له ظلمه للناس ومعصيته، فلا يعنفه، بل يرشده ماذا يفعل من غير محاسبة، ويقوم من عنده وقد هدأت نفسه، وفُتحت له أبواب الرحمة. وقد يمنُّ الله سبحانه وتعالى عليه بالخير والهداية. وكان الشيخ يحفظ سره فلا يفضحه، وإذا ذُكر عنده بسوء لا يخوض فيه، لأنه من الممكن أن يكون الله قد هداه، فتتحول إلى غيبة ونميمة.
لذلك، كان أحدهم -من المشايخ- يرى نفسه أسوأ الناس، ويقول: "أنا أسوأ الناس". وعندما يقال له: والذي كان عندك الآن، الذي لم يترك معصية إلا ارتكبها؟ يقول: "يمكن عند ربنا من كبار الأولياء. أنا لا أعرف! هل أنا الذي خلقته؟ أنا لا أعرف ما الذي حدث له.
أنا لا أعرف ماذا عمل الآن بعد ما خرج من عندي. أنا لا أعرف مكانته عند الله. يا ابني، هو أنا ربنا لكي أعرف الحكاية كلها؟".
فقيل له: أليس من واجبك أن تُنكر المعصية؟ فقال: "يا ابني، أنا أُنكر المعصية ليل نهار، ولكن أنا لا أحكم على أحد. فإذا قلت لي سمعت، تكون "كذابًا". وإذا قلت رأيت، تكون "فاجرًا"، لأنك لم تستر على أخيك. وإذا شاركته، فأنت وهو سيان. فلماذا أتيت لكي تذكره بسوء؟".
فكان مشايخنا -رضي الله تعالى عنهم- يعلموننا بسلوكهم أن "دع الخلق للخالق". ثانيًا: توكل على الله فتُسلِّم وتثق وترضى، فتهدأ نفسك؛ فتُعامل الخلق بمعاملة هي أقرب ما تكون إلى باب الهداية.
رأينا في زماننا أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يريد أحدهم أن يدخل بينك وبين جلدك، وينظر إليك بتكبر وتعالٍ لأنه يرى نفسه أفضل منك. فمن وجهة نظره -القاصرة- أنه طائع وأنت عاصٍ. وهذا هو الكبر. وما دام الكبر قد دخل قلبه، فقد فسد. وإذا فسد القلب، فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال سيد الخلق ﷺ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
إذًا، ربنا رب القلوب، فلماذا التدخل في خلق الله؟ «طوبَى لمن شغلَهُ عيبُهُ عن عيوبِ النَّاسِ». انعكست الأحوال، وإذ بهؤلاء يشغلهم، والعياذ بالله، عيوب الناس عن عيوب أنفسهم.