د. حامد بن عبدالله البلوشي **

shinas2020@yahoo.com

في السابع من ديسمبر من كل عام، تتزين الصفحات العربية باحتفال يفيض بالمشاعر النبيلة، وتضاء خلاله شموع المحبة والوفاء، احتفاءً بيوم الأسرة العربية. وهو يومٌ يعكس المعنى العميق للأسرة، باعتبارها الركيزة الأساسية التي تبنى عليها الأمم. ويستعيد فيه المجتمع قيمة الأسرة بوصفها حجر الأساس لبناء الإنسان، ومصدر قوته الأخلاقية والنفسية؛ فالأسرة هي الحضن الأول الذي يجد فيه الفرد الأمان والحب، وهي المؤسسة التي تنقل من خلالها القيم والتقاليد، وهي المنهل الأول للأخلاق التي تشكل هويتهم، وترشدهم في مواجهة تقلبات الحياة، لتصبح رابطًا متينًا بين الأجيال.

ومنذ نعومة أظفاره، يجد الإنسان في الأسرة دفء الحياة ومعناها. إنها المدرسة الأولى التي تعلمه دروس الحب والحنان، وتزرع فيه بذور المسؤولية والالتزام. الأسرة هي البيئة التي تتشكل فيها شخصية الفرد، وهي الداعم والمُعين الذي يقف معه في لحظات الضعف والتحدي. وقد أكدت الدراسات النفسية والاجتماعية أنَّ الفرد الذي ينشأ في أسرة مستقرة ومترابطة يحقق نجاحات أكبر في حياته، ويكون أكثر قدرةً على مواجهة صعوبات الحياة.

وقد جاء الإسلام ليعلم البشرية قيمة الأسرة ويرسخ مكانتها، فجعل صلة الرحم عبادةً عظيمةً يتقرب بها الإنسان المؤمن إلى الله عز وجل، ويثاب عليها الإنسان المسلم، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالإحسان إلى الأهل والقرابة، فقال جل وعلا: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ﴾ (النساء:1). كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه".

وفي حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- نجد أسمى النماذج في الاهتمام بالأسرة. فقد كان الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أبًا حنونًا، وزوجًا وفيًا، وجدا عطوفًا. كان يحرص على مشاركة أهل بيته تفاصيل الحياة اليومية، وكان يقول: "خيركم؛ خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".

وقد أولت الثقافة العُمانية الأسرة مكانةً عظيمةً؛ حيث تعتبر الروابط العائلية أساس تماسك المجتمع العُماني. يحرص العُمانيون على الحفاظ على صلة الرحم، وزيارة الأقارب، والالتفاف حول الأسرة في المناسبات السعيدة، والمواقف الصعبة على حد سواء. الأسرة العُمانية ليست مجرد إطار اجتماعي؛ بل هي القلب النابض للقيم والتقاليد التي تعكس الهوية العُمانية الأصيلة.

وتتمتع الأسرة بمكانة محورية في الثقافة العُمانية، حيث تعد الأساس الذي يقوم عليه نسيج المجتمع، ومصدر قوته واستقراره. في عُمان، لا تعتبر الأسرة مجرد رابطة اجتماعية تجمع الأفراد في إطار القرابة، بل هي ميدانٌ لصقل القيم والعادات، وتوارث الأخلاق والفضائل، فهي المهد الذي يغرس فيه حب الوطن، واحترام التقاليد، والالتزام بمبادئ الدين الإسلامي.

وهذا الاهتمام بالأسرة متأصلٌ في الثقافة العُمانية، وقد تعزز من خلال توجيهات القيادة الرشيدة التي تدعم الاستقرار الأسري، وتشجع على بناء أسر متماسكة وقوية، بما يضمن استمرارية القيم التي تميز المجتمع العُماني عن غيره.

ومنذ انطلاق النهضة الحديثة في عُمان، كان للأسرة دورٌ محوري في رؤية القيادة الحكيمة. أدرك السلطان قابوس -طيب الله ثراه- أهمية الأسرة في بناء المجتمع، فوجه برامجه التنموية لدعم الأسرة وتعزيز استقرارها. واستمرت هذه الرؤية الحكيمة في عهد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- حيث أُطلقت مبادرات تستهدف تمكين الأسرة العُمانية، وضمان استدامة أدوارها الحيوية في بناء الإنسان.

وقد قال جلالة السلطان- أعزه الله- في خطابه السامي خلال افتتاح الدورة الثامنة من مجلس عُمان: "إننا إذ نرصد التحديات التي يتعرض لها المجتمع، ومدى تأثيراتها غير المقبولة في منظومته الأخلاقية والثقافية؛ لنؤكد على ضرورة التصدي لها، ودراستها ومتابعتها، لتعزيز قدرة المجتمع على مواجهتها وترسيخ الهوية الوطنية، والقيم والمبادئ الأصيلة، إلى جانب الاهتمام بالأسرة؛ لكونها الحصن الواقي لأبنائنا وبناتنا من الاتجاهات الفكرية السلبية، التي تخالف مبادئ ديننا الحنيف، وقيمنا الأصيلة، وتتعارض مع السمت العُماني الذي ينهل من تاريخنا وثقافتنا الوطنية".

ورغم أصالة الأسرة العُمانية، إلّا أنها تواجه تحديات عديدةً في العصر الحالي؛ فالتكنولوجيا الحديثة، وضغوط الحياة الاقتصادية، والعولمة والانفتاح الثقافي تعد من أبرز العوامل التي قد تهدد استقرار الأسرة. وهذه التحديات تستدعي وعيًا جماعيًا بأهمية الحفاظ على أسس الأسرة، وصيانة دورها المحوري.

إنَّ الحفاظ على الأسرة العُمانية يتطلب تضافر الجهود بين الأفراد، والمؤسسات الاجتماعية، والحكومة. يجب تعزيز الحوار الأسري، وتقديم برامج تربوية ترسخ القيم الأخلاقية، وتوجه الاستخدام الواعي للتكنولوجيا. كما إن المبادرات الوطنية التي تهتم بالأسرة تسهم في تقوية بنيان المجتمع العُماني.

وفي هذا اليوم، يجدد العُمانيون عهدهم مع قيمهم الأصيلة، ويؤكدون على أهمية الأسرة بوصفها اللبنة الأولى لبناء مستقبل واعد. الأسرة العُمانية كانت وستبقى منارةً تهتدي بها الأجيال القادمة في طريقها نحو الرخاء والاستقرار.

** مدير عام شبكة الباحثين العرب في مجال المسؤولية المجتمعية

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

“جوديت” و”ماريا ماغدالينا”.. كيف جسد فريدريش هيبل مأساة الإنسان؟

يصادف اليوم ذكرى ميلاد فريدريش هيبل وهو واحدًا من أبرز المسرحيين الألمان في القرن التاسع عشر، حيث استطاع من خلال أعماله تقديم رؤية فلسفية عميقة حول الإنسان وصراعاته الداخلية والاجتماعية.

 وتعد مسرحيتا “جوديت” (1840) و”ماريا ماغدالينا” (1844) من أهم أعماله، إذ جسّد فيهما مفهوم المأساة الإنسانية من خلال شخصياته النسائية القوية التي تعاني بين متطلبات المجتمع ورغباتها الشخصية.

“جوديت”: الصراع بين الإيمان والرغبة

استوحى هيبل مسرحيته “جوديت” من القصة التوراتية المعروفة عن جوديت، المرأة التي قتلت الجنرال الآشوري هولوفرنيس لإنقاذ شعبها.

إلا أن معالجة هيبل لهذه القصة لم تكن مجرد تمجيد للبطلة، بل قدمها بصورة أكثر إنسانية وتعقيدًا.

في هذه المسرحية، تظهر جوديت ممزقة بين إيمانها العميق وشعورها بالخطيئة والرغبة. 

فرغم أن قتلها لهولوفرنيس يعتبر عملًا بطوليًا، إلا أنها تدرك أنها تأثرت بجاذبيته كرجل، مما يثير في داخلها صراعًا نفسيًا مريرًا،  من خلال هذه الشخصية، يعكس هيبل فكرة أن أفعال الإنسان ليست دائمًا مدفوعة بالقيم الأخلاقية المطلقة، بل تتداخل معها دوافع نفسية خفية تجعلنا نعيد النظر في مفاهيم الخير والشر.

“ماريا ماغدالينا”: مأساة المجتمع والمرأة

على عكس “جوديت”، التي تنتمي إلى أجواء دينية وتاريخية، تأتي مسرحية “ماريا ماغدالينا” في سياق اجتماعي أكثر واقعية، حيث تتناول الضغوط الاجتماعية المفروضة على النساء في المجتمع البرجوازي. 

تدور القصة حول كلارا، الفتاة التي تعيش في مجتمع متحفظ يقيد المرأة بمعايير صارمة من الفضيلة والشرف.

 وعندما تقع في فضيحة بسبب علاقة عاطفية، تجد نفسها عالقة بين خيانة ثقة والدها والمجتمع القاسي الذي لا يرحم الأخطاء.

يبرز هيبل من خلال هذه المسرحية كيف أن المجتمع قد يحكم على المرأة بقسوة تفوق أي خطأ قد ترتكبه، ويجعل منها ضحية حتى لو لم تكن مذنبة تمامًا. 

كما أن النهاية المأساوية لهذه القصة تعكس رؤيته القاتمة حول دور القدر والقيود الاجتماعية في تشكيل مصير الإنسان.

هيبل والدراما الواقعية

تتميز أعمال هيبل بأسلوب درامي واقعي، حيث يبتعد عن البطل المثالي الذي كان سائدًا في المسرح الكلاسيكي، ليقدم شخصيات تحمل تناقضات إنسانية حقيقية. 

ففي “جوديت” و”ماريا ماغدالينا”، لا نجد أبطالًا خارقين، بل نساءً يعشن صراعات داخلية ومجتمعية تجعل منهن رموزًا للمأساة الإنسانية.

رغم مرور أكثر من قرن ونصف على تأليفهما، لا تزال مسرحيتا “جوديت” و”ماريا ماغدالينا” تحظيان بالاهتمام، حيث ينظر إليهما على أنهما من أوائل الأعمال التي سلطت الضوء على الصراع النفسي والضغوط الاجتماعية، مما جعلهما أساسًا لنشوء الدراما الحديثة التي تتناول الأزمات الإنسانية بواقعية أكثر عمقًا.

مقالات مشابهة

  • جامعة قناة السويس تناقش مخاطر الإدمان والتدخين وتأثيرهما النفسي على الطلاب
  • عمر العلماء: الأعمال الإنسانية أسمى صور الحضارة
  • «الشارقة للصحافة» يناقش دور القيم في بناء المجتمعات
  • ذياب بن محمد بن زايد: «يوم زايد للعمل الإنساني» مناسبة نستلهم منها القيم الإنسانية التي أسست لاستدامة العطاء الإماراتي
  • ذياب بن محمد بن زايد: نستلهم من "يوم زايد للعمل الإنساني" القيم الإنسانية التي أسست لاستدامة العطاء الإماراتي
  • “جوديت” و”ماريا ماغدالينا”.. كيف جسد فريدريش هيبل مأساة الإنسان؟
  • حسام موافي: الرحمة من أعظم القيم الإنسانية وغيابها يؤدي لتفكك المجتمع
  • الانحرافات الفكرية لدى الجماعات المتطرفة وسبل علاجها في ندوة بجامعة كفر الشيخ
  • تقديرًا لدوره في نشر القيم المجتمعية.. وزير الأوقاف يكرم الفنان القدير سامح حسين
  • «الأوقاف» تكرم الفنان سامح حسين تقديرا لدوره في نشر القيم المجتمعية