استراتيجيات الصمود الاقتصادي
تاريخ النشر: 8th, December 2024 GMT
مع اقتراب عام 2025، يتصاعد النقاش بين الخبراء وصناع السياسات حول استراتيجيات الصمود الاقتصادي في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه الاقتصاد العالمي. فمع نهاية عام 2024، تباطأ نمو الاقتصاد العالمي إلى حوالي 2.4%، وهي أدنى نسبة تُسجل منذ عقود، ويعكس الانكماش الملحوظ في الأنشطة الاقتصادية وزيادة في هشاشة الاقتصاديات الوطنية، خاصة في الدول النامية التي لم تحقق سوى نمو قدره 3.
وتشير التقارير إلى أن الدول ذات الدخل المنخفض كانت الأكثر تأثراً في عام 2024، إذ انخفضت معدلات نموها إلى 5.5%، مقابل توقعات أكثر إيجابية سابقة. ووفقًا للبنك الدولي، تسببت الأزمات المتلاحقة، بدءاً من الجائحة ووصولاً إلى الأزمات الاقتصادية والسياسية، في تدهور الظروف المعيشية لنحو 70 مليون شخص. هذه التحولات فاقمت من الفجوة والتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية والفقر والتهميش، ووضع مستقبل العديد من الدول على المحك.
وتواجه الدول النامية صعوبة بالغة في مواجهة الأزمات المالية والاجتماعية المتنامية، على الرغم من تبنيها لسياسات اقتصادية أكثر شموليةً وتوجيهاً نحو تطوير الموارد البشرية والبنية التحتية. ولكن الإشكالية تكمن في النسبة الضئيلة من المخصصات الحكومية لهذه الاستراتيجيات. التقارير الاقتصادية تنوه إلى أن زيادة الإنفاق على القطاعات الأساسية كالتعليم والصحة لا يجب أن يقل عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي لتحقيق انتعاش اقتصادي بإمكانه تحسين مستويات المعيشة وتدعيم قدرة الدول على مقاومة الصدمات الاقتصادية.
وما يزيد من تعقيد الأزمة الاقتصادية هي الاضطرابات الجيوسياسية، حيث لم تعد الصراعات تقتصر على تعطيل طرق التجارة فقط، بل غدت تمتد لزعزعة استقرار الأسواق ورفع أسعار السلع الأساسية مثل الطاقة والغذاء. ويُقدّر صندوق النقد الدولي أن التوترات الأخيرة تسببت في رفع أسعار السلع الأساسية بنسبة تتراوح بين 15% و25%، وشكل ذلك ضغطاً إضافياً على الدول الهشة اقتصادياً، مع تراجع القدرة الشرائية وتزايد تكاليف المعيشة في الدول النامية ومعاناة الأسر التي تكافح لتلبية احتياجاتها الأساسية.
تؤكد هذه المعطيات على ضرورة إيجاد أرضية جديدة للتعاون التجاري والتكامل الاقتصادي بين الدول لتجاوز الأزمات الاقتصادية العالمية. هذه الأرضية يجب أن توفر منحى جديد، كتخفيض الحواجز التجارية وتشجيع الشراكات الاقتصادية لتنفيذ مشاريع مُشتركة وتحقيق منافع متبادلة لتحقيق نمو اقتصادي مستدام. تُشير تقديرات التقارير العالمية إلى أن خفض الرسوم الجمركية بنسبة 10% يمكن أن يدعم نمو الناتج المحلي الإجمالي للدول النامية بنسبة تصل إلى 1.5%. هذا النوع من الاستراتيجيات قد يكون خطوة مُهمة نحو تدعيم القدرات الإنتاجية وخلق فرص عمل جديدة في الأسواق الوطنية. وفي ذات السياق، لا بد أن تعمل الدول على تأمين وحماية أسواقها المحلية بالتوازي مع تسهيل حركة السلع والخدمات عبر الحدود لتقليل تأثير التوترات العالمية على الاقتصاد المحلي.
ومن المهم أن نعي بأنه لا يمكن تحقيق نمو اقتصادي مستدام دون الاستثمار في الرقمنة وتطوير البنية التحتية التكنولوجية. التحول الرقمي هو ضرورة مُلحّة في مواجهة التغيرات الاقتصادية السريعة. تؤكد الدراسات على أن الدول التي تستثمر في الرقمنة يمكنها تحقيق معدلات نمو تصل إلى 2% أعلى من نظيراتها. هذا الاستثمار ينمي قدرة الاقتصادات الوطنية على الصمود أمام الصدمات ويمنحها ميزة تنافسية على الصعيد العالمي، ويتيح للأفراد والمؤسسات فرصاً جديدة للتكيف مع المتغيرات الاقتصادية.
في ختام هذا التحليل المُوجز، يتضح أن الاقتصاد العالمي سيستمر في مواجهة تحديات غير مسبوقة، وهو ما يتطلب من صناع القرار تبني استراتيجيات تجمع بين السياسات والتدابير الطارئة والرؤية الاستراتيجية للمبادرات الهيكلية طويلة الأمد. هذه الرؤية يجب أن ترتكز على تحقيق توازن دقيق بين السياسات القصيرة الأجل التي تهدف لتخفيف الأزمات الحالية، وبين المبادرات الهيكلية التي تسعى لتأسيس اقتصاد أكثر استدامة ومرونة. هذا التوازن سيكون حجر الزاوية لبناء مقومات الصمود الاقتصادي، وإرساء قواعد اقتصادية جديدة تعزز من قدرة الدول على مواجهة التحديات العالمية المتسارعة.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الدول على
إقرأ أيضاً:
مكتوم بن محمد: منتدى المالية العامة منصة استراتيجية لتعزيز التكامل الاقتصادي العربي
نائب حاكم دبي:
إرساء أنظمة مالية حديثة يتطلب نهجاً متكاملاً
تطوير استراتيجيات مالية مبتكرة قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية
4 جلسات حوارية تتناول قضايا حيوية عربياً وعالمياً
التركيز على تعزيز النمو وزيادة مرونة الاقتصادات
استعراض مبادئ للتعامل مع ضغوط الديون المتزايدة بفاعلية
تعزيز الإجراءات المالية لمواجهة تحديات تغير المناخ
مناقشة دور الذكاء الاصطناعي في دعم كفاءة الأنظمة الضريبية
دبي - «الخليج»
أكد سمو الشيخ مكتوم بن محمد بن راشد آل مكتوم، النائب الأول لحاكم دبي، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير المالية، أن الدورة التاسعة من منتدى المالية العامة للدول العربية تشكل منصة استراتيجية لتعزيز التكامل المالي والاقتصادي بين الدول العربية، مشدداً على أهمية تطوير سياسات مالية مرنة تستجيب للتحولات الاقتصادية العالمية وتدعم الاستقرار والنمو المستدام.
وأشار سموه إلى أن إرساء أنظمة مالية حديثة يتطلب نهجاً متكاملاً يشمل الارتقاء بكفاءة الإنفاق، وتنويع مصادر الإيرادات، والاستفادة من التقنيات المالية المتقدمة، بما في ذلك الرقمنة والذكاء الاصطناعي، لتعزيز الشفافية والاستدامة المالية، مؤكداً سموه أن التعاون الإقليمي يعد ركيزة أساسية لتطوير سياسات مالية مبتكرة قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية وتعزيز مرونة الاقتصادات العربية.
وأضاف سموه: «إن محاور المنتدى ومخرجاته تسهم في صياغة رؤى مالية مستقبلية تدعم استراتيجيات التنمية»، داعياً سموه إلى البناء على هذه الحوارات خلال القمة العالمية للحكومات 2025، التي توفر فرصة مهمة لمواصلة النقاش حول أحدث الاتجاهات المالية والاقتصادية العالمية، وتعزيز التعاون الدولي في تطوير أنظمة مالية أكثر استدامة ومرونة.
واختتمت وزارة المالية، أمس، أعمال الدورة التاسعة من منتدى المالية العامة للدول العربية، الذي نظمته بالتعاون مع صندوق النقد العربي وصندوق النقد الدولي، في اليوم التمهيدي للقمة العالمية للحكومات 2025، وذلك بحضور محمد بن هادي الحسيني، وزير دولة للشؤون المالية، وكريستالينا جورجيفا المدير العام لصندوق النقد الدولي، والدكتور فهد بن محمد التركي، المدير العام ورئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي، وبمشاركة وزراء المالية ومحافظي المصارف المركزية في الدول العربية، إلى جانب نخبة من الخبراء وكبار المسؤولين والمختصين من المؤسسات المالية الإقليمية والدولية.
مرونة المالية العامة
وانعقد المنتدى تحت عنوان «مرونة المالية العامة في عالم يكتنفه عدم اليقين: تحقيق التوازن بين متطلبات التنمية والعمل المناخي واستدامة الديون»، حيث شهد مناقشات موسعة حول قضايا اقتصادية حيوية تهم الاقتصادات العربية والعالمية من بينها تطورات الاقتصاد الكلي، وسياسات المالية العامة لمواجهة ضغوط الديون، وتعزيز القدرة على التكيف مع تغير المناخ، بالإضافة إلى إعادة تصميم النظم الضريبية لمواكبة التحولات الاقتصادية الكبرى.
بيئة محفزة
وفي كلمته الافتتاحية لأعمال المنتدى، أكد محمد بن هادي الحسيني، أهمية تبني استراتيجيات مالية تعزز النمو المستدام وتدعم التنمية الاقتصادية في الدول العربية.
وأشار إلى أن المرحلة الحالية تتطلب تكثيف الجهود لمواكبة التحولات الاقتصادية العالمية، من خلال تعزيز كفاءة الإنفاق، وتسخير التقنيات الحديثة لتطوير الأنظمة والسياسات المالية والضريبية.
وأوضح أن دولة الإمارات اعتمدت نهجاً متكاملاً لتعزيز الاستدامة المالية، من خلال تطوير التشريعات المالية، وإطلاق برامج سندات وصكوك الخزينة، وتوسيع قاعدة الاستثمار، بما يسهم في تحقيق توازن اقتصادي يدعم تطلعات التنمية المستقبلية، كما شدد على أهمية دور القطاع الخاص في دفع عجلة النمو الاقتصادي، مؤكداً ضرورة توفير بيئة استثمارية محفزة، تعزز الابتكار وتفتح آفاقاً جديدة أمام رواد الأعمال والشركات الوطنية.
تبادل الخبرات
وأكد الحسيني أن تطوير النظم المالية في الدول العربية يجب أن يكون جزءاً من رؤية أوسع ترتكز على الاستفادة من التحولات الرقمية والذكاء الاصطناعي لتعزيز الكفاءة والشفافية، مشيراً إلى أهمية التعاون الإقليمي والدولي في تصميم السياسات المالية، بما يسهم في تحقيق استقرار اقتصادي مستدام، يعزز من قدرة الدول على مواكبة التغيرات الاقتصادية العالمية.
وفي ختام كلمته، دعا الحسيني المشاركين إلى الاستفادة من النقاشات والحوارات التي يوفرها المنتدى، مؤكداً أن تبادل الخبرات والرؤى يسهم في تطوير سياسات مالية أكثر تكاملاً ومرونة. كما دعا الوفود المشاركة لحضور القمة العالمية للحكومات 2025، التي توفر منصة استراتيجية لاستشراف مستقبل العمل الحكومي وتعزيز التعاون بين مختلف القطاعات لتحقيق التنمية المستدامة.
شراكة مثمرة
بدورها، قالت كريستالينا جورجييفا: «أرسى صندوق النقد الدولي شراكة متينة ومثمرة مع دول العالم العربي»، مؤكدة أن هذه الشراكة أصبحت اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى، في ظل التحولات العميقة التي يشهدها العالم على الصعيدين الدولي والإقليمي، وأمام دول العالم العربي فرصة ثمينة لاستثمار السياسات المالية بفعالية لدعم التحول الاقتصادي، وتحفيز النمو، وتحسين مستوى المعيشة لمواطنيها.
من جهته، قال الدكتور فهد بن محمد التركي: «يمثل منتدى المالية العامة منصة محورية لتعزيز مرونة السياسات المالية في الدول العربية، وفي إطار استراتيجية صندوق النقد العربي الجديدة نتطلع أن نكون شريكاً فكرياً يقدم الدعم والمشورة اللازمة لدعم جهود الجهات الاقتصادية والمالية المختصة في الدول العربية بهدف تبني السياسات التي تعزز الاستقرار وفرص النمو الشامل والمستدام».
4 جلسات حوارية
وخلال أربع جلسات حوارية شهد المنتدى مشاركة واسعة من الخبراء والمختصين، حيث ترأس الجلسة الأولى الدكتور محمد سليمان الجاسر، رئيس مجموعة البنك الإسلامي للتنمية، وتحدث فيها الدكتور جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، لدى صندوق النقد الدولي، وتناولت الجلسة التي حملت عنوان «تطورات الاقتصاد الكلي وانعكاساتها على المالية العامة»، لمحة عن تطورات الاقتصاد الكلي الراهنة على المستويين الإقليمي والدولي، وجرى استعراض ما تعانيه العديد من اقتصادات المنطقة من صدمات تشمل النزاعات والكوارث المناخية، مما يترك أثراً واضحاً على ضعف آفاق النمو الاقتصادي، كما سلطت الضوء على أهمية تركيز صناع السياسات على تعزيز النمو الاقتصادي وزيادة مرونة الاقتصادات، مع ضمان استدامة المالية العامة والحفاظ على معدلات تضخم منخفضة.
تصميم المالية العامة
وجاءت الجلسة الثانية بعنوان «خيارات تصميم سياسات المالية العامة لمواجهة ضغوط الديون المتزايدة»، حيث ترأسها الشيخ سلمان بن خليفة آل خليفة، وزير المالية والاقتصاد الوطني في مملكة البحرين، وتحدث فيها كل من فيتور غاسبار، مدير إدارة الشؤون المالية العامة لدى صندوق النقد الدولي، وجيرومين زيتلماير، مدير مركز برويغل (مركز أبحاث أوروبي متخصص في العلوم الاقتصادية)، وركزت الجلسة على التحديات التي تفرضها الديون المرتفعة والعجز الكبير في الموازنات وارتفاع مدفوعات الفوائد، واستعرضت استراتيجيات للتعامل مع هذه الضغوط بفعالية.
تغير المناخ
أما الجلسة الثالثة، فكانت بعنوان «تعزيز السياسات المالية لدعم القدرة على التكيف مع تغير المناخ»، حيث ترأسها محمد عبد الله الجدعان، وزير المالية في المملكة العربية السعودية، وتحدث فيها كل من عمار بهاتاشاريا، من مركز التنمية المستدامة، معهد بروكينغز، وجريس فو، وزيرة الاستدامة والبيئة في سنغافورة، وناقشت الجلسة التكلفة الاقتصادية الكبيرة التي يفرضها تغير المناخ على المنطقة، وأهمية تعزيز السياسات المالية لمواجهة هذه التحديات بما يضمن التكيف الاقتصادي.
كفاءة النظم الضريبية
في حين كانت الجلسة الرابعة بعنوان «التحولات التكتونية: إعادة تصميم النظم الضريبية لمواكبة التحولات الاقتصادية الهيكلية الكبرى»، وتحدث فيها كل من كاثرين باير، نائب مدير إدارة الشؤون المالية لدى صندوق النقد الدولي، وأجاي سيث، أمين الشؤون الاقتصادية في وزارة المالية بالهند، واستعرضت هذه الجلسة الحاجة إلى تجديد وتطوير الأنظمة الضريبية في المنطقة العربية، بما يتماشى مع التحولات الهيكلية الكبرى ويضمن مرونة النظم الضريبية لتلبية الاحتياجات المستقبلية، إلى جانب مناقشة الدور المحوري للذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة الأنظمة الضريبية، وفعاليتها.
واختتم المنتدى أعماله باجتماع الطاولة المستديرة الوزاري، والذي ضم وزراء المالية في الدول العربية، حيث جرى التأكيد على أهمية تعزيز التعاون بين الدول العربية لمواجهة التحديات المشتركة، والعمل على تطوير سياسات مالية مستدامة ومرنة قادرة على تعزيز الاستقرار الاقتصادي في المنطقة.