صدى البلد:
2024-10-07@01:12:23 GMT

محمد علي يكتب: ميراث جدتي

تاريخ النشر: 17th, August 2023 GMT

• المشهد: داخلي.
• الزمان: يوم الاثنين، نهارا.
• المكان: غرفة الرعاية المركزة.
• الغرض: تسليك شريان رئيسي. 
سترا للعورة من الجهتين، يلبس المريض مريلتين بدلا من واحدة هنا. إحداهما أمامية كالمعتاد، والأخرى بالمقلوب. لا حاجة لخلع السروال الداخلي في هذه الجراحة، فلن يتعرض الفريق الطبي إلى منطقة الجذع مطلقا ما لم يضطروا إلى استخدام جهاز الصدمات عند الضرورة.

في المستشفيات الخاصة وردية الجدران، رمادية الأرضيات، يتعين أن يكون المريض عاريا كما ولدته أمه قبل الانتقال إلى غرفة الجراحة لأي غرض. في تلك الأماكن المكلفة، يكتفون بستر العورة من الأمام بمريلة لطيفة وخفيفة بالكاد تصل إلى الركبتين. مربعات صغيرة زاهية  الألوان غالبا. كاروه.   
أهلا بك في الرعاية المركزة بمستشفى المعلمين، أنظف من قصر العيني وأقل ضجيجا منه بكثير. قسم القسطرة هنا حقق سمعة طيبة بفضل فريق جراحي لا يظهر أفراده على الشاشات الفضائية بتاتا، يعاونهم فريق آخر شديد الديناميكية من أفراد التمريض الشبان. يبدأ العمل الإداري سريعا بتسجيل الاسم من واقع البطاقة الشخصية. لا أوراق للتوقيع في هذه المرحلة. تعهدات. وإذا كان المريض بمفرده كحالتي، يتعين الانتظار قليلا فقد يؤجل قرار الجراحة إلى وقت آخر. يأخذ الممرض عينة من الدم لتحليلها بعد تركيب الكانولا في الذراع الأيسر. يمنع الاقتراب والتصوير من الذراع الأيمن فهو جسر العبور، وأداة الوصول إلى الهدف المنشود. القلب. يجب التأكد من سلامة الرسغ وراحة اليد. الكف. نقطة الرباط. ثم يسجل الشاب الباسم قراءات الضغط، والسكر، ومستوى الأكسجين في الدم، ودرجة الحرارة. يصل زميله بجهاز رسم القلب وينتهي من مهمته بمهارة. لا قلق على الأرجح. اضطراب الرسم البياني مازال واضحا عند النقطة ذاتها. إنه التاجي مرة أخرى. عيب خلقي بالوراثة تسلمته من أبي، وعانت منه جدتي. وأخيرا، توصل الحالة بجهاز المونيتور بصفة مستمرة عن طريق مجسات على الصدر، والذراعين لرصد القراءات باستمرار والتحذير من أي اختلالات عارضة. يبقى المريض ساكنا ممددا إلى أن يصل الطبيب للاستفسار عن أسماء العقاقير التي تتناولها الحالة وطبيعة المشكلة. ويذهب. 
هدأ المكان، وقل قدوم الممرضين. الآن فرصتي، انظر من حولي جيدا، وانصت إلى الأصوات الصادرة عن المكان وتصل إلى أذني بيسر. هناك نافذة تدخل ضوء الشمس. روعة. وتوجد حالة أخرى في فراش مقابل وتنتظر دورها. خمسيني أقل سنا مني. رجل شديد الجدية، ويكتنفه القلق. يبدو أن وضعه الصحي معقد نوعا ما، وعليه أن ينتظر بعض الوقت. 
• دخلت الامتحان ؟.
• نعم. ونجحت. خمسين نجحوا من 1500 متقدم. 
• ايه الحكاية ؟.
• ثلاثة أعوام من الدراسة بتوسع في ألمانيا. وتحصل على شهادة تمريض دولية من هناك.
• واللغة ؟.
• ها تتعلمها هناك. سهلة.
لابد أن قرار الجراحة قد اتخذ بالنسبة لي بعد الاطلاع على المستندات الطبية الواردة أولا بأول من العناية إلى غرفة الأطباء الخارجية. منعزلة. الآن تصل الأوراق بيد الشاب الوسيم نوار. وقعت كثيرا منها بنفسي وسلمتها إليه. ماذا عن ملابسي ولا مؤاخذة ؟. كل متعلقاتك في الكومود بجانب الفراش. لا تقلق. والآن إلى الشندوشتات ... !.
• ممكن ازور الحمام ؟.
• طبعا. قلقان يا والدي ؟.
• بتاتا يا بني... دي حباية الضغط. وانت سيد العارفين.
• اسمي عمرو. احضر لك شبشبا يا والدي. ألا تريد الكرسي المتحرك ؟. 
• على أيه. هيا بنا. 
دخلت إلى غرفة الجراحة ماشيا، اشبك ذراعي الأيمن في ذراع عمرو الأيسر. أخذني إلى الجانب الأيسر من تروللي الجراحة حيث يقبع سلم من ثلاث درجات. 
"اصعد يا عم محمد وتمدد. لا تحتل المكان بكامله. تحرك يسارا. كمان. توقف. تمام كده". لم استوعب السبب. ذراعي الأيسر أصبح حرا في الهواء. امسكت بيدي طرف التروللي. أمان. طفل مذعور فحسب.  
وصلت جراحة شابة جميلة الملامح، وألقت السلام على شخصي المتواضع لتبدأ في العمل مباشرة. لا وقت للتعارف والمجاملات. "انت قلقان ؟". "أبدا". امسكت بيدي اليمني ووضعت كفي في قفاز مطاطي سميك، وشلحته إلى مستوى الأصابع. ثم وضعت الكف بإحكام في مكان ما على الجانب الأيمن من التروللي. فراغ منخفض نوعا ما. ثم ألقت كثيرا من المرايل خضراء اللون فوقي. ثلاثة، أربعة... ربما. يجب ألا اطلع على ما سيحدث بعد دقائق لتحاشي القلق، والخوف. والذعر أحيانا. مشهد الدم مفزع، ولا جراحة من دون خروج بعض منه. الغطاء السميك يحجب الرؤية. سلمت أمري إلى الحي القيوم، وعملت بنصيحة الممرض عمرو قبل دقائق: "اقرأ الصمدية وأنت ممد". فعلت. وأضفت من عندي دعاء طلب النجاة من رب العالمين في أحلك الأوقات: "لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين". صدق الله العظيم. 
وصل الجراح الكبير، الدكتور عبد العزيز. أعرفه. التقيت به قبل ساعة ونصف الساعة بالتقريب. ضخم الجسم، جهوري الصوت، فضي الشعر. باسم. حياني بأدب جم، ودخل في الموضوع مباشرة. أمسك بالكف المقيدة، ونبهني إلى قرب إحساسي بشكة إبرة. الغرض: ضخ قليل من المخدر للاحتيال على الشريان. ثبت شيئا ما عند اتصال الرسغ بالكف. شعرت بتدفق الدم إلى الخارج، وتجاهلت الأمر. ولكنني رفصت بقدمي رغما عني. فعل منعكس. قال محذرا بصوت حازم: "يا افندم ثبت رجلك. ضم القدمين". حاضر. أصابع ذراعي اليسرى مازالت تمسك بطرف التروللي كالأطفال، والكانولا مثبتة في منتصف الذراع. ما الفائدة منها يا ترى ؟. تنبه أحد الممرضين وفرد ذراعا خشبية حتى أريح ذراعي فوقها. لا بأس.
لم يبدأ العرض بعد. سنتأخر بعض الوقت. شاشة المونيتور الداخلي الرئيسية تهتز. هل هي معطلة ؟. محال. لقد شرع الفريق في العمل ويتعذر الرجوع الآن. هنا يعلو صوت كبير الجراحين حتى يصل إلى الفني في داخل غرفة زجاجية تشرف على مسرح الجراحة. "اتصلحت امبارح وكان لازم يكون في حد منهم موجود". اقفل وشغل مرة أخرى. وتمضي دقائق. بطيئة. 
يقتلني الفضول: متى أرى علة قلبي يا سادة، ميراث أبي وجدتي أم كمال. صمدت به صابرا حتى التاسعة والخمسين ولم أعد احتمل. أزمة عصفور الفجر تتكرر، ويطول زمنها ومستوى الألم. والخوف يتملك أم العيال أكثر وأكثر في كل مرة. هل تتصل بأهلها لإحضار الكفن وفريق الغسل المحترم، أم عليها أن تنتظر مرور ساعة بعد الوفاة كما علمتها ؟. أفيق من الأزمة وأتناول قهوتي وأمضي إلى حال سبيلي ككل مرة. آخرها كانت شبه قاتلة، سبقها سقوط وإغماء في الحمام لمدة 50 دقيقة. هل هي جلطة ؟. لا. مطلقا. ضيق في الشريان لدواع غير معلومة. 
وأخيرا، عاد المونيتور إلى العمل. الآن، أشعر بشيء يمر داخلي. أنبوب فائق الدقة في مقدمته كاميرا. بالتدريج، وصل إلى القلب ولم يجد شيئا. براءة ؟. 
• هيا دي. أهيه. ناولني بالون 16. 
• حالا. (اسمع صوت مطاط يتمدد كأنه نفخ في بالون هوائي)
• في واحدة كمان. (تدور كاميرا الأشعة وتكاد أن تصطدم برأسي) 
• ناولني دعامتين تيدا (تودا ربما). 
• حالا.
ويبدأ الزج بكل دعامة تباعا عبر أنبوب دقيق آخر. وأنا اتابع جانبا من اللقطة على المونيتور بصعوبة، فقد نزعوا نظارتي قبل الجراحة. أرى ما يشبه الشعرة المائلة. هل هذا مصدر الاختناق ؟. شعرة. ميراث جدتي وأبي. وهل هذا الشريان التاجي بنفسه !. 
• آه.. آه. (أخيرا أتألم بشكل تحت السيطرة منعا للفضائح).
• هل هذا ما تشعر به وقت الأزمة.
• بالضبط. 
• نعالجها الآن. سيعقب تركيب الدعامة حرقان. لا تحرك قدمك يا افندم من فضلك. 
• حاضر. 
بينما يركب الجراح الدعامتين، إذا بالممرض الوسيم نوار يفتح فمي عنوة ويضع عددا كبيرا من الحبوب فيه (بلافيكس، بافيكس لا اتذكر بالضبط)، ويمنحني زجاجة مياه للبلع. يتوقف للحظات، ويكرر الأمر بعدد أكبر من الحبوب مع قدر جديد من الماء. عاد الألم، وكادت عيني تدمع هذه المرة. ألم يعقبه حرقان. هنا يسرع جراح معاون إلى يسار تروللي الجراحة ويستخدم الكانولا لأول مرة. يحقن قدرا بسيطا للغاية من المخدر على الأرجح لضمان الهدوء، فقد صمدت صابرا لأطول مما ينبغي. جلد. وفي كل مرة يزرع الجراح دعامة يطلب مني أن أكح بقوة. أفعل على الفور. لابد أنه يتأكد من ثبات الدعامة في مكانها. ربما. 
هناك ملاحظة حيرتني: تروللي الجراحة يتحرك في أثناء إجراء الجراحة لوقوف ممرض في الأمام وآخر في الخلف خصيصا لهذا الغرض. لابد أن تلف كاميرا الأشعة العلوية المربعة باستمرار على محيط صدر المريض لتحقيق أفضل زوايا لرؤية غرف القلب مع ضرورة تحاشي اصطدام رأس المريض بها. أمور فنية دقيقة.
• كده تمام. مبروك.
• شكرا يا دكتور. بارك الله فيكم. 
• خذ نفس طويل.
• حالا. بتضحك علي يا دكتور. انت بتسحبي الواير. صح ؟. 
• بالضبط.
• نفس كمان لو سمحت. 
• عيني.
• شفت. خلصت...
تحرر كفي الأيمن أخيرا، وتأكدت الجراحة الشابة من توقف الدم الصادر عن الشريان، ووضعت ضمادة في مكان الجرح. ثم رفعوا عن جسمي كل المرايل الخضراء الثقيلة، ورأيت آثار دمائي الغالية على إحداها. لكل بدن زكاته. ونجوت مرة أخرى. كنت بمفردي واستمتعت بالتجربة. الآن يمكنني أن اكتب بكل حرية عن ميراث جدتي وأبي رحمهما الله. شعرة، عزيزة على القلب بحق.  
                         
 

المصدر: صدى البلد

إقرأ أيضاً:

رئيس جامعة المنوفية يرأس لجنة مناقشة دكتوراة بكلية الطب بعنوان "جدوى العلاج الكيماوي"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

ترأس الدكتور أحمـد فـرج القاصـد رئيس جامعة المنوفية وأستاذ جراحة الأورام  لجنة مناقشة رسالة  دكتوراة بكلية الطب  والمقدمة من الطبيب جلال محمد عبد القوي تحت عنوان ء" تقييم جدوى العلاج الكيماوى قبل الجراحة في حالات أورام  المستقيم"

وأوضح الدكتور أحمد القاصد أن سرطان القولون والمستقيم هو من بين الأسباب الرئيسية للوفيات  في جميع أنحاء العالم، و يمثل مشكلة رئيسية في مجال الصحة العامة، وهو ثالث أكثر أنواع السرطان انتشارا في العالم بعد أورام الرئة والثدي والسبب الرابع الأكثر شيوعا لحالات الوفاة بالأورام. 
وأشار إلي أن العلاج الكيماوى أو الاشعاعي قبل أو بعد التدخل الجراحي يؤدي إلى تحسن نتائج المرضى الذين يعانون من سرطان المستقيم المتقدمة موضعيا لافتا إلى أن العلاج ما قبل التدخل الجراحي  يفضل عن التدخل بعده لعدد من الأسباب منها  تيسير الاستئصال بسبب انكماش الورم، والحد من خطر سمية الأمعاء الدقيقة وتحسين  النتائج الوظيفية للمستقيم غير المشع، والزيادات في تحمل المريض. وتعزيز الاستجابة البيولوجية للعلاج .

وضمت لجنة الإشراف  والمناقشة الدكتور أحمد فرح القاصد استاذ الجراحة العامة وجراحة الأورام ورئيس جامعة و الدكتور  ناصر محمد عبد الباري استاذ الأورام والطب النووى نائب رئيس الجامعة لشئون التعليم والطلاب والدكتور  محمد صبرى عمار أستاذ الجراحة العامة وجراحة الأورام ،والدكتور شريف يوسف حسن استشاري الجراحة العامة بالأكاديمية الطبية العسكرية ،والدكتور  محمد حامد عبد الستار أستاذ مساعد الجراحة العامة وجراحة الأورام كلية الطب  جامعة المنوفية والدكتور  محمد البسيوني استاذ الجراحة العامة  بجامعة عين شمس.

مقالات مشابهة

  • خطأ شائع قبل النوم يؤدي إلى الوفاة.. توقف عنه فورا
  • دراسة: انخفاض ضغط الدم الشديد خطير مثل علوه
  • رئيس جامعة المنوفية يرأس لجنة مناقشة دكتوراة بكلية الطب بعنوان "جدوى العلاج الكيماوي"
  • الكشف عن مشروب سحري ينظم نسبة السكر في الدم ويدعم صحة القلب والعظام
  • ما هو قصور الشريان التاجي؟.. تعرف على الأعراض والعلاجات الفعالة
  • الأعراض الأولى لتجلط الدم
  • ماذا يمكن أن يحدث للجسم عندما تكون التمارين الرياضية شديدة للغاية؟
  • طبيبة تكشف الأعراض الأولى لتجلط الدم
  • كل ما تريد معرفته عن انخفاض ضغط الدم.. أعراض وعلاج وطرق وقاية
  • العادات الغذائية والصحة القلبية| تأثيرها وسبل الحفاظ على قلب صحي