يتابع أهالي قطاع غزة الساحلي، وجلهم نازحون عن بيوتهم أو ما تبقى منها، أخبار التهدئة المملة، ولسان حالهم "بركن تزبط هالمرة"، رغم أنها تكاد تتكرر بذات الصيغ والجمل والعبارات والمصادر والوسائل منذ شهور عديدة، حيث تمنحهم أخبار المفاوضات جرعة كبيرة من الأمل والترقب في بدايتها، ويرهقهم تتابعها ومتابعتها، ثم يحبطهم خبوّها وتراجعها، ذلك أن التهدئة تعني عودة رغيف خبزهم المفقود، وأمنهم المنشود، واستئناف ولو لفترة مؤقتة لحياتهم المعطلة منذ بداية العدوان قبل أكثر من عام، كما أنها فرصة لالتقاط الأنفاس بعدما طالت الحرب وتوسعت وشابها تعقيدات حسابات السياسة المرهقة!
ويتعلق أكثر من مليوني غزي بـ"قشة" أخبار التهدئة المتتابعة رغم إدراكهم للمراوغة الإسرائيلية المعتادة، وخيبة أملهم المتكررة على مدار شهور طويلة من المفاوضات الرامية لوضع حد لعدوان وحشي طال مختلف جوانب حياتهم، إذ لا سبيل أمامهم سوى ذلك، لا سيما أن التهدئة تعني لهم الكثير الكثير، فهي أكثر من مجرد استراحة من موت يطاردهم منذ عام ويزيد، سواء عبر الإصابة المباشرة بصواريخ وقذائف ورصاص جيش الاحتلال، أو كنتيجة متحصلة لآثاره المحيطة بهم، لا سيما جراء المجاعة المتفشية نتيجة نقص وشح الخضروات والمساعدات، ونتيجة الأمراض وضعف الرعاية الطبية جراء إنهاك الطواقم الطبية والاستهداف المتواصل للمرافق الصحية.
وعلى وقع تتابع أخبار مفاوضات التهدئة يتضاعف الأمل بنجاحها وبلوغها محطة الاتفاق ومباشرة التنفيذ، لا سيما بعدما بلغت "البطون" الحناجر جراء افتقاد "رغيف الخبز" نتيجة شح "الطحين" وارتفاع أسعار المتاح منه، حيث يجد غالبية الغزيين أنفسهم وجها لوجه مع شبح الجوع الذي يفتك بهم، ولا حاجة للإشارة إلى اللحوم بأصنافها والفواكه بأنواعها كونها أصبحت خارج قائمة متطلبات أهالي غزة، ليس زهدا فيها، أو اتباعا لنظام غذائي صحي أو ما يعرف بالريجيم، بل قهرا وقسرا لطول فترة حرمانهم منها، وليأسهم من إمكانية التحصل عليها إجمالا، فهي وإن توفر شيء منها، فتكلفتها باهظة جدا لدرجة يعجز معظمهم عن شرائها، وحتى لو امتلاك بعضهم القدرة على شرائها، فالقرار غالبا الامتناع عن ذلك، وتفضيل تأمين "رغيف الخبز" الذي بات عزيزا ومكلفا أيضا، وله الأولوية الأولى عما سواه، فهو سلاحهم لسد الرمق ووأد الجوع.
ودون أدنى مبالغة، فالتهدئة باتت أكثر من مجرد مطلب وحلم لأكثر من مليوني غزي يكابدون ظروفا معيشية تزيدهم وهْنا على وهن، حتى أن مجرد وجود حراك سياسي بشأنها يخفف عنهم شيئا من مكابدة العدوان رغم أن جولات المفاوضات تشهد مجازر دموية وتكثيف لضغوط الاحتلال بصور مختلفة، لا سيما عبر مطالبة الغزيين بإخلاء مناطق جديدة في سياق سعيه لابتزاز المواقف وانتزاع المكاسب من المفاوض الفلسطيني الذي يكرس جهده لوقف العدوان بشكل كامل، فالإخلاء وما أدراك ما الإخلاء؟! عذاب لا يوصف، وجرعة ألم مُرة، وتكرار لمأساة النزوح من جديد، فلا استقرار ولا أمان، بل خوف وقلق وجوع وألم! فمتى ترسو سفينة التهدئة على شاطئ الأمان؟! ومتى يتخلّى المجتمع الدولي عن ازدواجية معاييره؟! ومتى تُشف جراح أهالي غزة ويتم منحهم فرصة لالتقاط الأنفاس وذرف الدموع والحزن على من فقدوا من أحبة؟! ومتى يكف العالم عن صم أذنيه عن أوجاعهم ويلتفت لحقهم بالحياة؟!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة التهدئة الاحتلال الجوع احتلال غزة جوع تهدئة معيشة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة لا سیما أکثر من
إقرأ أيضاً:
قيادات تعصف بلا مطر
د. سعيد الدرمكي
القيادة الحقيقية لا تُقاس بالمناصب أو الألقاب؛ بل تتجلى في القدرة على إلهام الآخرين، وترجمة الرؤية إلى واقع ملموس، وخلق تأثير مستدام. في عالم الأعمال، هناك قادة أحدثوا تحولات جذرية، فعززوا الأداء، ونقلوا شركاتهم من "جيد إلى عظيم".
من بين هؤلاء ستيف جوبز في شركة أبل الأمريكية، وجاك ويلش في جنرال إلكتريك الأمريكية أيضًا، اللذان لم يكتفيا بإدارة مؤسساتهما؛ بل أصبحا جزءًا من هويتها، مدفوعين برؤية بلا حدود وإنجازات ذات قيمة حقيقية. وفي المقابل، هناك من يتوهمون النجاح، لكن أثرهم ليس سوى ضجيج عابر سرعان ما يتلاشى. تبقى شركاتهم عالقة في المتوسط أو تتراجع، تمامًا كعاصفة تهدر دون أن تمطر، أو كما قال الأديب الإنجليزي ويليام شكسبير: "جعجعة بلا طحين".
القائد الذي يفتقر إلى رؤية استراتيجية واضحة، ويتجنب اتخاذ القرارات الحاسمة، ويفشل في التواصل الفاعل أو بناء بيئة عمل إيجابية، كمن يسير بلا بوصلة. هؤلاء القادة ينشغلون بالمظاهر والسلطة على حساب بناء الثقة وتعزيز العلاقات مع فرق العمل. يجيد بعض القادة فن الخطابة وصياغة الشعارات الرنانة حول التغيير، لكن غياب التنفيذ يكشف ضعف قراراتهم، التي تفتقر إلى استراتيجيات محكمة وخطوات عملية ملموسة. وهنا يظهر الفرق جليا بين القائد القادر على التحفيز وتحقيق الأهداف، وبين من يكتفي بالوعود دون إنجاز ملموس.
تُعد الترقية السريعة دون تأهيل كافٍ من أبرز أسباب الفشل القيادي. وفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة "جالوب" البحثية، فإن 82% من قرارات تعيين المديرين لا تستند إلى معايير الكفاءة الحقيقية؛ مما يؤدي إلى شغل مناصب قيادية بأشخاص غير مؤهلين، وهو ما ينعكس سلبًا على الأداء المؤسسي. ومن بين العوامل الأخرى المؤدية إلى الفشل: مقاومة التغيير، وضعف القدرة على مواكبة التطورات، وغياب المهارات القيادية والإدارية. علاوة على ذلك، فإن انشغال القادة بالتفاصيل الصغيرة دون تفويض الصلاحيات يحدّ من الابتكار، ويؤثر على كفاءة المؤسسة بأكملها.
القيادة غير الفاعلة تترك بصمة سلبية على المؤسسات؛ حيث يؤدي ضعف القائد أو تسلطه إلى تآكل الحافز وانخفاض الإنتاجية؛ مما يزيد معدلات دوران الموظفين. في بيئة كهذه، يسود التوتر وتختفي روح التعاون، ما يخنق الابتكار ويعرقل النمو. ووفقًا لدراسة نشرتها مجلة "هارفارد بزنيس ريفيو" المرموقة، أفاد 50% من الموظفين بأنهم استقالوا بسبب سوء الإدارة، مما يؤكد أن القيادة الفاعلة ليست مجرد ميزة، بل ركيزة أساسية لاستدامة النجاح المؤسسي.
ويكمُن الفارق الجوهري بين القائد الناجح والقائد غير الفاعل في الرؤية والنهج. فالقائد الناجح يمتلك رؤية واضحة تشكل بوصلة توجيهه، وتلهم فريقه نحو الإنجاز، بينما يتكئ القائد غير الفاعل على سلطته فقط دون إلهام حقيقي. الأول يفتح أبواب الحوار، يستمع بوعي إلى التغذية الراجعة، ويتخذ قرارات قائمة على التفكير الاستراتيجي، في حين أن الآخر يغلق دائرة التواصل ويكتفي بفرض الأوامر. وعند مواجهة الأزمات، يظهر التباين بوضوح؛ فالقائد غير الناجح يتردد أو يندفع نحو قرارات متسرعة، بينما يتعامل القائد الناجح بمرونة وذكاء، محولًا التحديات إلى فرص، مما يعزز استدامة النجاح المؤسسي.
التحول من قائد غير ناجح إلى قائد فاعل ليس مجرد خطوات معدودة؛ بل رحلة مستمرة تتطلب وعيًا ذاتيًا والتزامًا حقيقيًا بالتطور؛ فالقائد الحقيقي لا يُولَد قائدًا؛ بل يصقل مهاراته عبر التعلُّم المُستمر، والاستماع الفاعل، وبناء بيئة قائمة على الشفافية والثقة. وإتقان فن التحفيز، وتقدير الجهود، والاستثمار في تطوير الفريق ليس ترفًا، إنما هو جوهر القيادة الفاعلة. الفرق بين القائد الملهم والقائد المتسلط يكمن في نهجه؛ الأول يمكّن فريقه، فيوقظ فيهم روح الإبداع والالتزام، بينما الآخر يفرض سلطته، فيقتل الدافعية ويحدّ من الإنجاز. القيادة ليست مجرد إدارة مهام، بل هي فن بناء العقول، وإطلاق الطاقات، وصناعة مستقبل مستدام يزدهر فيه الجميع.
وفي نهاية المطاف، القيادة ليست مجرد ألقاب براقة أو خطابات تحفيزية عابرة؛ بل هي الأثر العميق الذي يتركه القائد في مؤسسته وعلى من حوله. والقائد الناجح يشبه المطر الذي يغذي الأرض، فينعش العقول، ويزرع الإلهام، ويخلق بيئة تنبض بالحياة والابتكار. أما أولئك الذين لا يتركون سوى العواصف الجافة، فقد يُحدثون ضجيجًا مؤقتًا، لكن أثرهم يتلاشى سريعًا دون أن يتركوا إرثًا مستدامًا. والمؤسسات العظيمة لا تُبنى بالكلمات وحدها؛ بل تحتاج إلى قادة يجمعون بين الرؤية الواضحة والتنفيذ المحكم، لضمان نجاح لا يقتصر على الحاضر؛ بل يمتد ليشكل مستقبلًا أكثر إشراقًا واستدامة.