الانهيار السريع للنظام السورى جاء نتيجة لتراجع دعم حلفائه الرئيسيين وانشغالهم بتحديات أخرى أكثر إلحاحا

تعانى سوريا منذ عام ٢٠١١ من أزمة حادة حولتها من دولة مستقرة نسبيا إلى ساحة حرب معقدة تدخلت فيها قوى إقليمية ودولية لتحقيق مصالحها. هذا الصراع الذى بدأ كانتفاضة شعبية سرعان ما تحول إلى مواجهة عسكرية بين المعارضة المسلحة ونظام الأسد، لتصبح سوريا مسرحا لصراعات جيوسياسية عميقة.

شهدت مدينة حلب واحدة من أكثر الفصول دموية فى الحرب الأهلية السورية، حين فرض النظام السورى حصارا قاسيا على أحيائها الشرقية بمساندة مكثفة من القوات الجوية الروسية. ذلك الحصار الذى انتهى بطرد فصائل المعارضة المسلحة، وشكل علامة فارقة فى مسار الصراع، إذ منح النظام السيطرة على واحدة من أهم المدن الاستراتيجية فى البلاد. ومع مرور الزمن، هدأت ضراوة المعارك فى معظم المناطق السورية، وانحسرت رقعة نفوذ المعارضة المسلحة لتقتصر على الشمال والشمال الغربى، خاصة بالقرب من الحدود التركية، حيث باتت تلك المناطق آخر معاقل المعارضة فى مواجهة نظام بسط سيطرته على معظم أراضى البلاد.

لكن مؤخرا شهد الصراع السورى، الذى تجاوز عقده الأول، تصعيدا جديدا، عندما شنت قوات المتمردين بقيادة هيئة تحرير الشام، التى تعد من أقوى الفصائل المسلحة فى شمال غرب سوريا، هجوما مفاجئا وموسعا أواخر الشهر الماضى، بالتنسيق مع فصائل المعارضة الأخرى المدعومة من تركيا، استطاعت معه اجتياح مدينة حلب وفرض سيطرتها عليها، فى خطوة هددت بقلب موازين القوة ووجهت ضربة قوية للنظام السوري. الهجوم، الذى يبدو أنه أعد له بعناية على مدى أشهر، من الهيئة المدرجة كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة، والتى تسعى منذ سنوات لتقديم نفسها كقوة إسلامية أكثر اعتدالا مقارنة بماضيها المرتبط بجبهة النصرة وتنظيم القاعدة، لم يتوقف عند حدود حلب، بل توسع مع تقدم الفصائل المتمردة نحو مدينة حماة، مما ينذر بمزيد من التصعيد فى الأيام القادمة.

الانهيار السريع للنظام السورى جاء نتيجة لتراجع دعم حلفائه الرئيسيين وانشغالهم بتحديات أخرى أكثر إلحاحا. فمنذ أن تدخلت موسكو عسكريا فى سوريا عام ٢٠١٥، أصبحت روسيا أحد اللاعبين الرئيسيين فى الصراع السوري. تمكنت من دعم نظام الرئيس بشار الأسد واستعادة السيطرة على مناطق استراتيجية مثل حلب، التى شهدت معارك طاحنة انتهت بطرد المعارضة المسلحة بدعم من القصف الروسى المستمر. لكن الحرب فى أوكرانيا ألقت بظلالها على القدرة الروسية على مواصلة دعمها المكثف للنظام السوري. تقارير إعلامية أشارت إلى تغيير فى قيادة القوات الروسية العاملة فى سوريا، مما يعكس تحولا فى الأولويات الروسية. ورغم إعلان المتحدث باسم الكرملين ديمترى بيسكوف استمرار دعم موسكو لدمشق، إلا أن حجم المشاركة العسكرية الروسية بات أقل مما كان عليه سابقا.

من جهة أخرى، ومع بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، سحب حزب الله معظم قواته إلى لبنان للتركيز على مواجهة إسرائيل، التى شنت لاحقا هجمات أودت بحياة عدد من قادته البارزين، مما أضعف دوره فى دعم النظام السوري.

وأما إيران، التى ما دام كانت حليفا استراتيجيا لنظام الأسد، فتعانى من ضغوط داخلية وخارجية حدت من مشاركتها الميدانية. فحرب الاستنزاف المستمرة مع إسرائيل أثرت سلبا على نفوذها فى سوريا، بعد تعرض قواعدها لهجمات متكررة، مما قلل من قدرتها على الانتشار العسكرى الفعال. وبرز هذا التراجع فى تغير رسائل الدعم من المسئولين الإيرانيين، والتى أصبحت أقل قوة مقارنة بحضور قاسم سليمانى فى السابق. ومع ذلك، ذكرت وكالة رويترز أن إيران أرسلت تعزيزات جديدة من مقاتلى الحشد الشعبى العراقى إلى سوريا لدعم الجيش السورى، كخطوة فى سعى طهران المستمر للحفاظ على نفوذها، وإن كان بشكل محدود ومغاير لما كان عليه فى سنوات الحرب السابقة.

وفى الأشهر الأخيرة، كثفت أنقرة جهودها للتوصل إلى تسوية سياسية مع النظام السورى بهدف إعادة اللاجئين تدريجيا إلى بلادهم. ورغم عدم تحقيق اختراق كبير حتى الآن، تبدو تركيا مستعدة للترحيب بأى تطورات ميدانية تصب فى مصلحتها. فأكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سورى تستضيفهم تركيا مما جعل الأزمة السورية تحديا داخليا كبيرا لأنقرة كلف الرئيس التركى وحزبه خسائر كبيرة فى قاعدتهم الشعبية، لذلك، تسعى أنقرة إلى التوصل إلى اتفاق يمكن عودة مليونى لاجئ تدريجيا لسوريا. وعلى الصعيد العسكرى، تدعم تركيا الفصائل المعارضة، وتسعى لتحقيق توازن بين تقليص النفوذ الكردى شمال سوريا ومواجهة الجماعات الإرهابية.

على جانب آخر تسعى الولايات المتحدة للحد من نفوذ إيران فى سوريا وتدعم قوات سوريا الديمقراطية فى المناطق الشمالية الشرقية، مما يعكس استراتيجية مزدوجة تجمع بين الضغط على النظام السورى والحفاظ على الاستقرار النسبى فى المناطق التى تخدم مصالحها. رغم تقليص التدخل الأمريكى المباشر فى سوريا، تواصل واشنطن مراقبة التطورات عن كثب. فبحسب بيان من المتحدث باسم مجلس الأمن القومى الأمريكى، نفت الولايات المتحدة أى علاقة لها بالتصعيد الأخير الذى تقوده هيئة تحرير الشام، لكنها أكدت أن الأزمة السورية هى نتيجة لسياسات نظام الأسد واعتماده على دعم روسيا وإيران. ورفضه الانخراط فى العملية السياسية المنصوص عليها فى القرار ٢٢٥٤ الصادر عن مجلس الأمن الدولى، والمتعلق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية للوضع فى سوريا.

هذا الانسحاب التدريجى للدعم الخارجى خلق فراغا استغلته المعارضة المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام، مكنها من تحقيق مكاسب ميدانية سريعة. وباتت المشاورات بين وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران وأمريكا تلعب دورا أساسيا فى تحديد مستقبل الوضع فى سوريا. فالجميع بات مقتنعا أن الحل لم يعد فى يد أى طرف بمفرده. فى ظل هذه التطورات، بات النظام السورى يواجه تحديات وجودية تهدد استقراره، مع مستقبل يبدو غامضا ومفتوحا على كل الاحتمالات فى انتظار ما ستسفر عنه الاتفاقات المرتقبة بين القوى الكبرى.

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: الازمة السورية الحرب في سوريا نظام الأسد المعارضة المسلحة هيئة تحرير الشام الصراع الجيوسياسي روسيا في سوريا إيران في سوريا حزب الله اللاجئون السوريون الصراع في حلب الحرب الاهلية السورية الحرب الإسرائيلية على غزة قوات سوريا الديمقراطية القرار ٢٢٥٤ الفصائل المسلحة الصراع الإقليمي الازمة الإنسانية التسوية السياسية الحشد الشعبي العراقي الدعم العسكري الوضع في شمال سوريا العلاقات الروسية التركية التطورات الميدانية المعارضة المسلحة فى سوریا

إقرأ أيضاً:

ما مستقبل القواعد الروسية في سوريا بعد انهيار نظام الأسد؟

سلط موقع "نيوز ري" وصحيفة "غازيتا" الروسية الضوء على تأثير انهيار نظام بشار الأسد على النفوذ العسكري الروسي في سوريا ومستقبل قواعدها في البلاد.

وقال موقع "نيوز ري" الروسي في التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن مستقبل القواعد العسكرية للقوات المسلحة الروسية في اللاذقية وطرطوس مجهول في ظل التطورات الأخيرة.

ونقل الموقع عن المدون العسكري أوليغ تساريف قوله "وردني من صديق لي أن طائرات الهليكوبتر نقلت جنودنا من المناطق النائية إلى حميميم وطرطوس أمس. كان عليهم ترك المعدات".

من جانبها ذكرت قناة "وارغونزو" على موقع تلغرام أن الوضع حول القواعد العسكرية الروسية في طرطوس واللاذقية لا يزال متوتراً، بينما أشارت قناة "ريبار" إلى أن مدينتي اللاذقية وطرطوس على الساحل السوري لم تتأثرا بالمعارك.



وحسب ريبار، فقد تم تفكيك المنشآت العسكرية الروسية في بقية أنحاء سوريا، وتم سحب الوحدات نحو حميميم.

وأضافت: "اتخذ قرار العودة إلى روسيا بالنسبة لبعض الوحدات. في سياق الوضع المتغير، من الطبيعي أن تخضع وحدات الجيش الروسي لتغييرات. مازالت بعض الوحدات المكلفة بالحراسة والدعم في المواقع الاستراتيجية في وسط سوريا موجودة".

وأوردت "ريبار" أن قوات هيئة تحرير الشام أعلنت أنها تعارض وجود قواعد عسكرية أجنبية على الأراضي السورية. 

وأشارت القناة إلى أنه رغم تخفيض القوات العسكرية الروسية وجودها في وسط البلاد، إلا أنها لا تزال تحتفظ بوجودها في المناطق الكردية ومنطقة شرق الفرات، وقد انتقلت وحدات العمليات الموجودة في كويرس ودير الزور إلى هناك. أما في منطقة تدمر التي تحيط بها حقول النفط، وتمركزت فيها مجموعة فاغنر سابقا، فإن وضع القوات الروسية هناك يبدو غامضا وفق تعبير قناة "ريبار".

وكتبت قناة "المراقب العسكري" على تليغرام أن السكان المحليين في اللاذقية وطرطوس، حيث تقع القواعد العسكرية الروسية، بدؤوا بإزالة تماثيل حافظ الأسد، والد بشار الأسد الذي فرّ من البلاد، وهو ما يثير التساؤلات حول استمرار الوجود العسكري الروسي على الساحل السوري. 

من جانبه يرى المراسل العسكري ألكسندر سلادكوف أنه يمكن الحفاظ على القواعد في حميميم وطرطوس، لكن ذلك يتطلب دفع تكلفة باهظة.

هل تصمد القواعد الروسية؟
من جانبها، اعتبرت صحيفة "غازيتا" أن الادعاءات السابقة بأن موسكو حققت انتصارًا كبيرًا على المستوى الجيوسياسي في سوريا واختبرت كفاءة قواتها وأنشأت منصة لتوسيع نفوذها إلى دول القارة الإفريقية، تبيّن أنها لا تمت للواقع بأي صلة.

وقالت الصحيفة إن هناك عوامل عدة قد تفسر انهيار نظام الأسد، ومن أبرزها تقليص القدرات القتالية للقوات الجوية الروسية في قاعدة حميميم.



وأضافت أن الوضع القائم حاليا يثير تساؤلات بشأن كيفية سحب الخبراء العسكريين الروس من سوريا، وتحديدًا من طرطوس و حميميم، دون خسائر. ولمّحت إلى أن روسيا قد تضطر إلى التخلي عن القاعدتين في ظل استحالة إمكانية تمديد الاتفاقيات السابقة مع القيادة الجديدة لسوريا بشأن استمرار وجود القواعد العسكرية الروسية على أراضيها.

الجدير بالذكر أن روسيا استثمرت منذ 2015 مبالغ ضخمة لبناء وتجهيز هذه المنشآت العسكرية، حيث تم بناء قاعدة طرطوس البحرية من الصفر تقريبًا بأعلى المواصفات، كما تم تحويل حميميم إلى قاعدة جوية متطورة، والآن قد تضطر -وفقا للصحيفة- إلى ترك هذه المنشآت وتذهب جهودها سدى.

وفي الختام، قالت الصحيفة بأن الوقت لا يزال مبكرا للتنبؤ بالعواقب الجيوسياسية لانهيار نظام بشار الأسد، لا سيما في ظل تطور الوضع في سوريا بشكل سريع، مشيرة إلى أن الشرق الأوسط يقف على عتبة تحوّلات مفصلية.

مقالات مشابهة

  • روسيا ترفض تسليم «الأسد» وتتمسك بقواعدها في سوريا
  • الجولانى.. وسيناريوهات مستقبل سوريا
  • الخارجية الروسية: نحافظ على الاتصال بجميع القوى السياسية الموجودة حاليا في سوريا
  • الخارجية الروسية تؤكد استمرار اتصالاتها مع القوى السياسية في سوريا ومتابعة أمن منشآتها
  • الخارجية الروسية: موسكو تحافظ على اتصالاتها مع جميع القوى السياسية في سوريا
  • الخارجية الروسية تعلن الحفاظ على اتصالاتها مع جميع القوى السياسية بـ سوريا
  • ما مستقبل القواعد الروسية في سوريا بعد انهيار نظام الأسد؟
  • مدير الاستخبارات الخارجية الروسية : مصير الشعب السوري يعتمد على اتفاق قوى المعارضة داخليا
  • صراع «الأسد» والفصائل المسلحة.. 13 عاما من الدمار والخراب تنتهي بالرحيل
  • تاس: المعارضة تسيطر على طرطوس واللاذقية ولا تعتزم اقتحام القواعد الروسية