إيمان سمير تكتب: حكايات القوادم.. صهيل الماضى
تاريخ النشر: 8th, December 2024 GMT
تيار من الهواء البارد لا ينقطع... يتلاطم فى جميع أنحاء هذه الغرفة... يزعج أنفى ووجهى... هذه الغرفة التى أشاركها مع جدتى لأمى ومع أخى حين نأتى لزيارتها فى العطلات الرسمية البعيدة... ونضطر للبقاء يومين أو ثلاثة.
عندما يختفى الليل ولا يتبقَ منه سوى شعيرات من ظلام ذهبت لتفكك تداخلها مع نور الصباح الذى أعلن عن نفسه وعن الأمر ببدء الحركة للعمل الدءوب.
نستيقظ دائمًا على وقع أقدامها وهى ساقطة من أعلى الدرج الداخلى تنظر فى ذهابها وإيابها إلى كل ما يخص جدى.. صورته المعلقة على الحائط... عصاه التى كان يتكئ عليها... مسبحته الكهرمان المعلقة فى حديد سريره المرفوع كثيرًا فوق الأرض... تستشهد دومًا بكلماته، تتلو علينا حكاياته... فهو عندها المبتدأ وإليه منتهاها.
تنادى على أسمائنا جميعًا فى جملة واحدة.. أنا وأخى وأخوالى وزوجاتهم... ثم تجلس على هذه الأريكة وتتحسس بيديها ركبتيها فى وهن ثم تلعن هذا الألم لقدميها العجوزتين.
تبدأ فى فك أوصال شعرها الأبيض وتمشطه حتى تضمه فى ضفيرة متوسطة ثم تغطيه بهذا الغطاء الطويل الذى تطويه حول رأسها لمرات عدة.
تنظر إلىَّ حتى أذهب لأهندم ثيابى وشعرى... كانت نظرتها حادة وجادة دومًا...قد يظن الناظر إليها أنها بائسة أو فى نكبة كبيرة.. لا تلتمس السبيل للتعرف على أناس جدد،ولا يملك أحد الجرأة للتعرف عليها...لا أدعى عشقها كوالدة أبى... ولكنى كنت مولعة بتتبعها ويغمرنى الفضول لمعرفة كل ما تصنعه...متمنية أن يُقتل هامش الدهشة بداخلى... فهى لا تحكى لى الكثير عن قصص الصغار... لا تحكى عن العفاريت واللصوص وقطاع الطرق والإنس والجان.
كنت فى أمس الحاجة إلى جلاء وجهها المطموس خلف الأيام وتقلباتها خلف مجريات أحداث السنين وقسوة الوحدة... إلا أنها لا تحيا فى صمت... حواراتها دائمًا متصلة مع من يسكنون مملكتها الخاصة والتى كانت تصطحبنى معها إليها...
فسطوح البيت به أحياء يتناولون فطورهم قبلنا جميعًا...
تهتم لنقيق دجاجاتها أكثر منا... تبتهج نفسها بتجميع هذه الكتاكيت الصغيرة تحت أشعة الشمس الدافئة وهى تتدفق فى أسراب من خلف هذه الغرفة الخشبية.
كنا نسعد بهذه الصداقة كما نسعد بالغدر بها حين ذبحها...
أراها تزقق الحمام بعشق كأنها تُقَبله...
وهذه الأرانب الرقيقة السريعة التى كانت ترعبنى حين قذف الخضروات إليها...
كان هذا الجانب هو الأسعد لى فى رحلتى معها خصوصا لجمع هذا البيض فى حجر جلبابها ومن ثم فى صندوق كان فى السابق لنوع من الجبن المعتق.
ثم تفكر فى إطعام البشر داخل هذا البيت...
فتظهر زوجة خالى الكبير قادمة فى رداء زاهى الألوان... تحمل صينية عليها أكواب اللبن وبعض الكحكات تكفى لفطورنا جميعًا.
يحضر أخوالى واحدًا تلو الآخر... ثم تفتح الحوارات الشائكة والطلبات التى يلقيها الجميع عليها فى حياء وخوف شديدين.
فزوجة خالى الأوسط ترجو الرجوع لجامعتها وإكمال دراستها.
يطلب خالى طلبه ورأسه منكس للأسفل... فمن الممنوعات عندها الغرق فى بستان الحرية...
المرأة عندها للبيت فقط والخروج للعمل أو الجامعة هو خروج عن المألوف وظاهرة ترجو زوالها سريعًا... برغم عمل أمي!!
حتى الحب فى نظرها اتفاقات بين أهل الطرفين مثلما بين الأشجار والزهور والخمائل يتولد ذاتيًا.
المرح بحدود.. الوقفة... النظرة... الضحكة... حتى العثرة وقت السير، لها نطاق مرسوم ومحدود.
حتى كلامنا ولعبنا كصغار... لا مجال للأسئلة الكثيرة التى تنهمر اعتباطا... حتى القوارب الصغيرة التى تعوم فى الجداول وتذهب مع الرياح فى رحلة مجهولة تتلمس فى الظلماء سبيلًا.
ثم يبدأ خالى الأصغر فى تجديد طلب الزواج من خطيبته... فقد مر عامان على وفاة جدى.
تقف على غفلة فى غضب وتؤجل كل القرارات للمساء... فعلينا العديد من الأعمال أهم من مناقشة أى شيء فى الصباح.
تقترب من صورة جدى وتلامس زجاجها بأناملها لتنظف بعض ذرات التراب الذى ينساب ساقطا ثم تتمتم فى خفر لا يليق بغلظتها ( واحشنى يا ولد عمي) فصورته لها ملاذ وقت الضياع.
فمحاولات النسيان لها لا يرجى منها شفاء... فقد سمعتها مرارًا تقول إن النسيان خرافة كخرافات أقاصيص الصغار.
كنت أسأل نفسى دومًا.. هل هى ضحية الأيام أم هى المذنبة بأفكارها فى حق نفسها؟
ما حيلتها والحياة لا تتوارى عن وسيلة فى الدفاع عن معتقداتها... وليس عندها أقوى من التجارب كاشفًا عن مطاوى النفوس.
تحاول الانغماس فى عمل البيت كى تنسى مطالب أخوالى... ثم أرَ عينيها تغوض فى أقصى الماضى الذى يتبعها كالظل... لا تقوَ على الفرار منه... فلا مناص من مواجهته وجها لوجه... بعين قوية وقلب ثابت...
تأخذنى معها فأستشعر الأمان فى نفسها كمن ذاهب إلى أضرحة الأولياء لتهمس لهم بأعذب الأمنيات فى قلبها.
ندخل من هذا الحوش الكبير الذى فتحت أقفاله بمفتاح خاص... ثم تقوم برى الزروع الجافة حوله وتلقى القليل من الماء على هذه الرمال أمام قبر جدى...
نقف غارقتين فى صمت... ممل لى كطفلة لا تعى جلال الموقف... ولكن أدرك أن هنا يرقد العديد من البشر... جدود وأقارب لى لم ألتقهم أبدا.
أراها تخاطب مرقد جدى بكلمات كالتى تُلقى على الأحياء الذين يسمعون ويستجيبون.
تميل الشمس عن كبد السماء ولاحت خطوط المساء على قبة هذا البيت كأنها خارجة منه إلى السماء.... نعود معا كالعائدتين من طواف مرهق... يغمرنا دفء الأراضى المخضرة والطرق الممتدة.
نجتمع ليلًا تحت هذا القمر لاحتساء مشروبات دافئة تحت تكعيبة العنب وأمامنا خيوط اللبلاب... وعلى ضوء المصباح المشتعل قليلًا... توافق جدتى على كل طلبات أخوالى... مقتربة من خالى الأصغر تبارك زواجه فى محبة وقد طاب له ما سمع...
ثم تمسك بيد أخى وأنا أتسلل لأتلصص عليهم بفضول الأطفال... فأراها تحمل أخى طالبة منه جذب صورة جدى... ويفعل، تحتضنها ثم تدخل غرفتها التى نحتل جزءًا منها... تدق مسمارًا فى علو تستطيع الوصول إليه وتعلق صورة جدى...
تبتسم حين تسمع صهيل جواده المربوط فى الخارج... وتغمض عينيها لتنام كمن تنتظر عودته غدًا.... أو الذهاب إليه.
المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: ذكريات الطفولة صورة الجد الحنين إلى الماضي التراث العائلي العمل داخل المنزل التواصل بين الأجيال المرأة القوية حياة البساطة تربية الاطفال قيمة الأسرة القيم العائلية
إقرأ أيضاً:
دينا أبوالمجد تكتب: «البيطريين».. عام الإنجازات رغم التحديات
أستهل مقالي بتقديم أسمى آيات التهاني لحضراتكم بمناسبة قرب حلول شهر رمضان الكريم، راجية المولى عز وجل أن يجعل هذه الأيام المباركة أيام خير ورحمة، ويُمن وبركات علينا جميعاً وعلى بلدنا الحبيب الغالي وقيادتنا السياسية الوطنية الحكيمة، سائلين المولى عز وجل أن يعينه على تحمل الأمانة وأن يسدد خطاه لما فيه رفعة الوطن وأمنه وسلامة أراضيه.
في مثل هذه الأيام من العام الماضي شهدنا جميعاً انتخابات البيطريين لإعادة ترتيب البيت العريق من الداخل، نقابة البيطريين المصرية، وقد وصفتها آنذاك بانتخابات الفرصة الأخيرة وناشدت البيطريين ألا يضيعوها من بين أيديهم لأنها لم ولن تتكرر.
نعم كنت أعني تماماً ما أقول، فعندما قرر رائد الطب البيطري في مصر وأحد أهم خبراء ورموز الصناعة في الوطن العربي، ويُعد من أبرز وأنجح رجال الأعمال الوطنيين في هذه الصناعة الدكتور مجدى حسن أن يتقدم المشهد متطوعاً ويترشح نقيباً للبيطريين خادما لأبنائه وتلاميذه ومهنته التي يعتز بها ودوماً يفتخر أنّه تربّى وترعرع بين مزارعها ومعاملها البحثية مُعلّما ومربيا لأجيال وأجيال من خيرة البيطريين.
ومنهم من أسند له الفضل في تأسيس وقيام صناعة الإنتاج الحيواني بقطاعاتها المختلفة في بعض بلداننا العربية وليس مصر فحسب، كان صدى الخبر على أهل الصناعة من مربين واستشاريين وأكاديميين وحتى دارسين وخريجين أن استبشروا خيراً لحاضرهم ومستقبلهم، بينما أنا ذهبت بتفاؤلي لأبعد من ذلك وقد رأيت في ترشحه عطية من القدر للبيطريين.
واليوم وقد شارف سيادته على إتمام عامه الأول نقيباً للبيطريين أستطيع أن أقول لكم بملء الفم ما أراه بأم العين وما يدور بخلد البعض منا وما يُقال بين المطلعين على أداء عمل النقيب عن قرب وحتى ما يدور من نجوى بين البعض، إن هذا الرجل ظل على مدار عام يقاتل من أجل الطبيب البيطري مستنزفاً الكثير من صحته ووقته من أجل تحسين وضع أبنائه ومهنته، ويكافح لاسترداد حقوق البيطريين في مناخ عمل مليء بالشائعات التي تطال منه يومياً وضغائن وأحقاد تسفه وتشكك في كل ما يقدمه على المستوى المهني وحتى الإنساني لأبناء نقابته.
هذا من ناحية، ومن أخرى يواجه إرث عقود من تراكم المشكلات المتعلقة بحقوق البيطريين المهدرة وعدم معاملتهم أسوة بأعضاء النقابات الأخرى، مثل حقهم في التعيين بالمؤسسات ذات الصلة بعملهم، وأيضاً الدفاع عن حقوق النقابة المسطو عليها من جهات أخرى وتحتاج لاستردادها إرادة وقرار دولة للتغلب على كثير من العقبات البيروقراطية وقيود القوانين.
ولم يُثنهِ كل هذا أو يقلل من شغفه وحماسه في العمل لصالح نقابته، بل قدَّم في عامه الأول الكثير من الإنجازات، وبالرغم من أهميتها إلا أنها لا تمثل سوى غيث من فيض أحلامه التي يسعى إليها وينوي تحقيقها، فبدأ خطوات طموحة ومهمة للغاية في إعادة هيكلة عمل النقابة لتتفق مع متطلبات توجه الدولة نحو رقمنة الأعمال الإدارية في كل قطاعاتها.
وربطها رقميا بالنقابات الفرعية الأخرى لتحقيق أكبر قدر من الكفاءة في تقديم الخدمة، وتعاقد مع أكبر مكاتب التدقيق المحاسبي والمراجعة المالية لتحقيق الشفافية المحاسبية والحفاظ على المال العام من الإهدار، بالإضافة لتعاقده مع شركات خبرة لتفعيل الحوكمة الإدارية وتدريب الموظفين ورفع كفاءتهم وزيادة حوافزهم.
وفي ضوء الخدمات المقدمة لأعضاء النقابة تم التعاقد مع شركة متخصصة لتقديم مشروع علاج وخدمات طبية متميزة للأعضاء، وتم التعاقد مع شركة تأمين كبرى لعمل نظام تأميني متكامل لتقديم معاش آخر للطبيب البيطري يُصرف له عند بلوغه سن المعاش وعند الوفاة والعجز الكلي بمبلغ مليون و300 ألف جنيه.
هذا واستكمالاً لمجهود النقابات السابقة فقد تم الحصول على 10 آلاف وظيفة داخل هيئة الخدمات البيطرية وفي انتظار وزارة المالية لتوفير الدرجات المالية، وفي ضوء رؤيته لتوفير موارد مالية للنقابة جارٍ العمل على استخراج تصاريح والحصول على موافقات من الجهات المختصة لإنشاء شركات في مجال إنتاج الألبان والأدوية، وجارٍ الاتفاق مع بعض الدول الإفريقية للاستعانة بالبيطريين المصريين نظراً للنقص الحاد في هذا التخصص لديهم، وكذا تم فتح خط تمويل لمشروعات الإنتاج الحيواني للبيطريين.
كما أطلقت النقابة إنشاء صندوقين لدعم مرضى السرطان من الأعضاء وآخر لرعاية الايتام، كما أطلقت مبادرة «انطلق بمشروعك» لتعزيز ريادة الأعمال في مجال الطب البيطري بالتعاون مع جهاز تنمية المشروعات لتعزيز روح الابتكار لدى البيطريين، بالإضافة للعديد من الأنشطة والمؤتمرات التي تقوم بتنظيمها النقابة.
كل هذه الإنجازات التي تم تحقيقها على أرض الواقع فعلياً، ومنها ما هو جارٍ الإعداد له لتنفيذه ولم يمر سوى عام من عمر مجلس النقابة.
وأتفق تماماً مع تصور شيوخ المهنة وخبرائها أنه عند اكتمال رؤيته لهيكلة وتطوير أداء النقابة وبلوغ المشاريع الجاري تنفيذها لزيادة مدخلات النقابة مراحل متقدمة ودخول بروتوكولات التعاون التي وقعها مع جهات داخلية وخارجية حيز التنفيذ سيصبح عصر تولى الدكتور مجدى حسن رئاسة نقابة البيطريين عن حق هو العصر الذهبي للبيطريين.
وهذا لا يمنع من وجود بعض التحديات التي ما زالت يستعصى حل جذري لها كأم المشاكل وهى التعيينات للبيطريين والخريجين، وإذا أخذنا في الاعتبار أن كليات الطب البيطري تخرج سنوياً لسوق العمل 5600 طبيب بخلاف خريجي الكليات المصرية الأخرى، لكن الجميع يعلم أن خطة الدولة المعلنة وتوجهها هو تقليل عدد الموظفين وإيقاف التعيينات نهائياً، ومن ثم بدأت النقابة في إيجاد بدائل أخرى في القطاع الخاص وفي بعض الدول الأفريقية بعد إتمام برامج التدريب المعدة لتأهيل الخريج لسوق العمل.
وأعلم جيداً أن حزب المصالح الذى تضرر كثيراً من وصوله لهذا المنصب وكارهي النجاح وأحبذ أن أطلق عليهم كارهي الخير ما زال وسيظل يهاجم ويشكك في كل ما يتم، وأيضاً سيضعون عراقيل ويصطنعون معارك ومشاكل وهمية ويكيلون من ادعاءاتهم وسبابهم لإقناع السيل الجارف والسواد الأعظم من البيطريين الذين وضعوا كامل ثقتهم ومصيرهم ومستقبل مهنتهم أمانة في عنق هذا الرجل أنهم أخطأوا الاختيار.
فكما سبق ووصفت ترشح الدكتور مجدى حسن بعطية القدر للبيطريين، ومن منطلق ما تم تنفيذه في عام وهو ما لم يكن ليحدث في سنوات، وما أطلع عليه لتنفيذه في المستقبل القريب وجارٍ إعداد خططه ومشاريعه والانتهاء من إجراءاته.
وما سيتخذ من قرارات كلها تصب في صالح الطبيب البيطري وفي خدمة المهنة، فإني سأذهب لأبعد من وصفي له بهدية القدر لأقول لكم والأيام هي خير شاهد ودليل إن هذا الرجل جاء ومعه مصباح علاء الدين ليحقق ما لم يكن يتحقق مع غيره وليصنع تاريخ النقابة الحديث ويسطر بأحرف من نور قصة مهنة عظيمة كيف بدأت بأهداف نبيلة وهى خدمة الإنسانية وبمرور الزمن تهمشت وتداعت وعانى أبناؤها، واليوم نشهد جميعاً ملحمة إعادتها لسابق عهدها شامخة بأيدي المخلصين من أبنائها.
أطلقت النقابة إنشاء صندوقين لدعم مرضى السرطان من الأعضاء وآخر لرعاية الايتام، كما أطلقت مبادرة «انطلق بمشروعك» لتعزيز ريادة الأعمال في مجال الطب البيطري بالتعاون مع جهاز تنمية المشروعات لتعزيز روح الابتكار لدى البيطريين.