في هذه الزاوية الثقافية "نصوص في الذاكرة" تفتح الجزيرة نت مساحة لتذوق النصوص العربية والمترجمة، لتتحدث الكلمات بألسنتها بلا وسطاء، إيمانا منها بأولوية النص (الشفهي والكتابي) لبناء القيم والأفكار وتشكيل الوعي والوجدان والذوق والسلوك، حتى في عصر هيمنة الصورة.

تختار هذه النافذة مجموعة منتقاة من نصوص الأدب والفكر والتاريخ، التراثية والمعاصرة، في مجالات ثقافية متنوعة، وتكتفي بمقدمة قصيرة تفتح الباب بعدها للنصوص ذاتها لتشرق معانيها بلا حجاب، وقد أضاف المحرر إليها -أحيانا- هوامش شارحة موجزة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"بقايا رغوة" لجهاد الرنتيسي.. رواية تجريبية تتأمل الهجرة والشتاتlist 2 of 2الشاعر معز ماجد: اللغة منظومة تاريخية وجمالية تشكل نظرتنا للعالمend of list

هذه المجموعة -غير المرتبة زمنيا- تضم مختارات شعرية عن حلب في العصور المختلفة حتى القرن العشرين.

وحلب هي مدينة الشعر، وكأنها لفرط شاعريتها تنطق زائريها شعرا وان لم يكونوا شعراء، حتى لكأنها تسكب الشعر شرابا حلوا في أزقتها وأسواقها، وتغرس القوافي في حجارة قلعتها العتيقة، وكأن رياحها حُبلى ببذور النثر والقصيد؛ فتنبت من حواريها شعراء كالنجوم تنساب كلماتهم أبدية على إيقاع نبض تلك المدينة الساهرة.

احتضنت الشهباء وقلعتها العصماء فحول الشعر وأئمة البيان، ومنهم فارس السيف والقلم أبو فراس الحمداني، ونادرة زمانه مالئ الدنيا وشاغل الناس المتنبي الكوفي، ومن منبج شرقي حلب أطل البحتري على الدنيا وفيها توفي، وفي أسواقها العامرة نظم ابن الوردي حكمه الذائعة، فإلى مختارات من الشعر المكتوب عن حلب، سواء كتبه حلبيون أو كتبه شعراء مسّتهم نفحة من حب حلب، وقد اقتبست بعض تلك الأشعار من موسوعة "حلب الشهباء في عيون الشعراء" التي صدرت حديثا عن دار بريل الهولندية.

 

قال أبو السداد الجزري (في العصر الحمداني):

أيا حلبُ الغرّاء والمنزلُ الرَّحْبُ   ويا بلدًا قلبي بتَذكـاره صَبُّ

لئنْ بانَ جسمي عن معالمِ ربعِها   فما بان عن أطلال ساحتها القلْبُ

علامَ أسلّي النفس عنك وفيك لي   علائق منها هدَّ مهجتيَ الحُبُّ

هواؤكِ لولا صحةٌ في هُبوبـه   وماؤكِ لولا أنه باردٌ عذْبُ

وقال نور الدين الحسيني (في العصر العثماني):

إلى حلبَ الشهباءِ مني بشارةٌ    تُعطِّرها حتى تَفوحَ الجَوانِبُ

لقد حدَّثتْ عنها أولو العلم مثلما    جرى وانقضَتْ تلك السنونَ الجوادِبُ

لقد جادَها صوبُ الْحَيا بعد مَحْلِها   وشرَّفَها من أحْكَمَتْه التَّجَارِبُ

كريمٌ إذا ما أمِّل الغيثُ أمْطَرَتْ    أياديه جُودًا منه تصْفو المشارِبُ

بها الفضلُ منشور، بها الجود وافرٌ    بها فتحُ مَن سُدَّتْ عليه المذاهب

قال جرمانوس الشمالي (في العصر العثماني/القرن 19):

فإن تسأل: الشهباء معنى    يُراد؟ وما الرموز المعنوية؟

نجيب بنظم تاریخ كدُرٍّ:    هي الشهبا من الشهبِ المضيَّة

قال بطرس كرامة (في العصر العثماني/القرن 19):

شهباءُ وافَتْ من الشهباء تَرتَع في  بُرْد الجَمال فكان القلـب مرعاهـا

سُقيتِ يا حلبُ الشهباءَ غيثَ نَدًى    وجاد ربعَكِ مِ الأنوار أنداهـا

جليلةُ القدر ذاتُ الفخر مُعجِبَةٌ    جَلا العيونَ من الأقذاء مَرآها

يا سعدَ مَن نظرت ْعيناه روضتَها   ونزَّهَ الطـَّرفَ فـي فَيَّـاحِ مَعناها

بانَتْ مآثرُها اللاتي سَمَتْ وبَدَت    فكلُّنا قاصـرٌ عـن نَـيــل عَلياهـا

فاقَتْ على العُرْب لما أعْرَبتْ ورَوَوْا   عنها البلاغات لما استنطقوا فاهـا

تفاخر البارعون الناظمون بها   والكل يَعجِز عن إدراك معناها

قال أبو الهدى الصيادي (مطلع القرن 20):

رعى الله أطلالًا بشهبائنا الغرَّا   وحَيَّـا ديارا دون أنوارها الزَّهرا

ويا حبذا الأرجاء من حلبٍ ويا   سقـى اللـه ذيَّـاك الحمى النَّهلَةَ الـوَفرْا

دیارٌ بها سُكّان قلبي ومهجتي    وأرجاءُ قـوم ذكرهم في الجَـوى سَرَّا

بلادٌ حَماها الله من عين حاسد   وأمطرَها من غَيم إحْسانه بِرَّا

بلاد بها التقوى بها العلم والتقى   بها الفضل والإحسان والمشرَب الأَمْرا

بلادٌ هي الدنيا، ولا بِدعَ إن تكنْ    وكمْ من لبيبٍ حولَها حوَّل الفِكرا

بلاد بها طيب المعاش لساكن   وطيب الهوى والماءِ والعيشة السَّرَّا

بلاد بها اللذَّاتُ في الدين والرِّضا   بكل يسير والرضا يصحب الشكرا

قال أبو الهدى الصيادي (مطلع القرن 20):

علِّل القلب بذكر العرب   وقضاياهم بصحْرا حلبِ

عَمدُ المجد الطوالُ الْقُبب   ربطتْ للفخر أقوى الطُّنُب

يتجَلّى في سماء الحسب   حاملا للعز درع السبب

وتردَّوا بثياب الأدب   فأُعِزّوا بحصول الأرب

قال البحتري (في العصر العباسي الأول):

عَصبيَّتي للشام تُضرم لوعتي   وتزيد في كَلفي وفي أشجاني

إن تكتئبْ حلبٌ فقد غلبت على   حلب الغمام وصوبه التهتــانِ

غيث تحمّل عنهم متوجها    من غربِهم لمشارق البلدان

قال ابن النحاس الحلبي (في العصر المملوكي):

بلاد بها قضّيتُ لهوي وصبوتي   وصاحبتُ فيها العيش جذلان ناعما

وأول أرض مس جلدي ترابها    ونحّـى بهـا عنـي الشباب تمائما

قال علي الدباغ الميقاتي (في العصر العثماني):

حلب الشَّهبا وهادُ النَّظَر   ومهادٌ قد تعالَتْ عن نظيرْ

ليس مَن بالمال أو بالعلم دانْ    كالذي ضم إلى دنياه دينْ

ورقى من ذروة الفخر مكانْ   هو والفضل بـه خـيــر مكين

ذاك عبد الله معمور الجنان   وغُذِي بالمجد مذْ كان جَنينْ

قال رزق الله حسون (في العصر العثماني/ القرن 19):

لا خاملًا لا دنيا منشئي حلب     فسل وهاك بفضلي يشهد القلم

قال البحتري (في العصر العباسي الأول):

أيامُ لهوي في جانبَي حلب    لم يبق منها إلا تذكُّرُها

كم ليلةٍ فيك بت أسهَرها   ولوعةٍ في هواك أُضمِرها

قال أبو العباس الصفري (في العصر الحمداني):

مَن مبلغٌ حلبَ السلامَ مُضاعفًا    من مُغرَمٍ في ذاك أعظمُ حاجِهِ

أضحى مقيمًا في دمشقَ يرى بها   عذبَ الشراب من الأسى كأُجاجِه

قال المتنبي (في العصر الحمداني):

 

لا أقَمنَا على مكان وإِن طابَ   ولا يُمكن المكانَ الرّحيلُ

كلَّما رحّبتْ بنا الرّوضُ قُلنا:   حلبٌ قصدُنا وَأَنتِ السّبيلُ

فيكِ مرْعَى جيادِنا وَالمطايا    وإليْها وَجيفُنَا وَالذميلُ

قال عيسى بن سعدان الحلبي (في العصر الزنكي/الأيوبي):

یا دار «علوة» ما جيدي بمنعطف   إلى سواك ولا قلبي بمنجذب

ما مرَّ برقُكِ مجتازًا على بصري   إلا وذكّرني الداريـن مـن حلـبِ

ما كان أطيب أيامي بقربهم   حتى رمتني عوادي الدهر عن كَثب

قال جمال الدين يحيى بن مطروح (في العصر الأيوبي):

علـى حـلـبَ الـغــراءِ مـنـي تحيةٌ   لها أرَجٌ كالمسك والعنبر الورد

وما هي إلا جنة الخلد بهجةً    ولا عجبٌ شوقي إلى جنة الخلد

فما زاد قربُ الدار إلا تشوقا   على أن قرب الدار خير من البعدِ

قال الناصر يوسف الثاني (في العصر الأيوبي):

ناشدتُك الله يا هطالة السُّحُب   إلا حملتِ تحياتي إلى حلب

لا عذر للشوق أن يمشى على قدرٍ  ماذا عسى يبلغ المشتاق في الكتب

أحبابَنا لو درى قلبي بأنكمُ    تدرون ما أنا فيه لذَّ لي تعبي

قال مصطفى البابي الحلبي (في العصر العثماني):

ليت درى القاطنون في حلبٍ    حالي وما حال مَن لهم فاقدْ

يرقب وفدَ الشام ذا قلق    عسى يراهم بناظر الوافدْ

فارقتُ مثوايَ فِي رضا زمنٍ   على ذوي الفضل لم يزل واجِدْ

قال ابن سناء الملك (في العصر الأيوبي):

ومذْ رأت صَدّه عن رَبعها حلبٌ    ووصلَه لبلادٍ حُلْوة الحَلَب

بكَ العواصمُ طَابَت بعدما خَبُثَتْ    بِمَالِكِيها ولولا أَنْتَ لم تَطِبِ

قال حسين الجزري (في العصر العثماني):

كم للعواصم في قلبي مَدى أربٍ   وقلَّما يظفر الإنسان بالأرب

حلبت أشْطُر أجفاني لفُرقتها   وما درَتْ حلبٌ ما دَرَّ من حلَب

قال الصنوبري (في العصر الحمداني):

يوم كأن الشمس فيه خريدة   حسناء من خَلَلِ السُّجوف تَطلَّع

وكأن عيد الورد فيه عندنا   بل ليس يجمع عندنـا مـا يجمع

عادت به حلب إلى عاداتها   وحلا به المُصْطافُ والمتربَّع

رَحُبَتْ عليَّ وكنتُ قد ألفيتُني   منها وما فيه لرحلي موضع

الورد من أطرافها متضوّع   والشِّيح من أعطافها يتضوَّع

وفي قصيدة مترجمة إلى اللغة العربية (من القرن الثامن عشر):

إعلان

يقول الشاعر الألماني كريستوف مارتن فيلاند:

دعني أخبرك على أية حال أنتَ ابن أخي، ذاك التائق أبدا إلى التجوال.

إن اسمك هو «حسن».. و«مدينة حلب» هي موطنك

لقد نجوت – بالكاد- بحياتك، عندما تحطّمت سفينتك ها هنا.

وفي قصيدة مترجمة إلى اللغة العربية (من القرن التاسع عشر):

يقول الشاعر الفرنسي "ألفونس دي لامارتين:

من أنتِ؟ أتطلبين إلي بخور الشعر؟ أنتِ فتاة الشرق

زهرة من حدائق حلب التي اختارها بلبل لكي يغني حتى الثمالة!

فهل تُجلب الرائحةُ من البلسم الذي ينشرها؟

أو على أغصان شجرة البرتقال تعلّق ثمارها؟

وهل سنستعير نيرانًا من الفجر الشرقي؟

أو نجوماً ذهبية من السماء الزاهية في الليالي؟

لا، فقد نضب الشعر هنا!

الشاعر الأمير أبو فراس الحمداني تسكن قصائده مخيلة القارئ العربي منذ قرون، وأبو فراس منبجي المولد حلبي النشأة والشباب، وفي ديوانه من الشوق إلى حلب ما لا يتسع المجال لذكره كله.

يقول أبو فراس الحمداني في حنينه إلى حلب:

سقى ثرى حلبٍ ما دمت ساكنَها   يا بدر غَيثان منهلٌّ ومنبجِس

أسير عنها وقلبي في المقام بها    كأن مهري لثقل السير محتبَس

كأنما الأرضُ والبلدان موحشةٌ   وربعها دونهن العامر الأنِس

مثلُ الحصاة التي يُرمى بها أبدا   إلى السماء، فترقى ثم تنعكس

وكان الشاعر أبو بكر المصيصي أحد شعراء الثغور المنكوبة الذين كتبوا المراثي فيما حلّ بها سنة 348هـ، حين دمر الروم بقيادة «نقفور فوكاس» محيط حلب من مدن وقرى ورساتيق، فقال في ذلك:

لا تبكينّ خليط الدار إذ بانا   ولا المعارج مـن دعـد وأظعانــا

وابكِ الثغور التي أضحت معالمها   دوارسَا أقفــرت ربعـا وقيعانــا

أبلغ خليفتنا عنا رسالتَنا   لُقّيت يـا صـاحِ إن بلَّغت رضوانــا

خليفَة الله لو عاينتَنا لجرَتْ   منك الدمـوع لنـا سَكبـا وتَهتانـا

جرّ العدو علينــا في عساكره   كأنها قطـعٌ فـي الليـل تغشانـا

يسبي ويقتُل ما يلقاه من أحد    كأنما ألبِس الإسلامُ خذلانا

قال المُتنبِّي:

يا برقُ أسفرْ عن قُويقَ فطُرَّتيْ   حلبٍ فأعلى القصر من بطياس

عن منبتِ الورد المعصفَر صِبغه   في كلّ ضاحية ومَجنى الآس

أرضٌ إذا استوحشتُكمْ بتذكرٍ   حشدتْ عليّ فأكثرت إيناسي

قال البُحتري:

اُمرُر عَلى حَلَبٍ ذاتِ البَساتينِ   وَالمَنظَرِ السَّهلِ وَالعَيشِ الأَفانينِ

وَقُل لِدُحمانَ إِن واجَهتَ جَمَّتَهُ    تَقُل لِمُضطَرِبِ الأَخلاقِ مَأفونِ

أَمسَكتَ نَيلَكَ إِمساكَ القُمُدِّ وَلَو   أَعطَيتَ لَم تُعطِ غَيرَ القُلِّ وَالدّونِ

قال أبو العلاء المَعرّي:

حلب لِلوارِد جنَّة عدن    وهي للغادرين نار سَعير

والعظيم العظيم يكبر في عينه    منها قدر الصَّغير الصَّغير

قال البحتري:

سلِ الحلبِيَّ عن حلبٍ    عن تِركانِهِ حَلَبا

أَرى التَّطفيلَ كَلَّفَهُ    نُزولَ الكَرخِ مُغتَرِبا

أَلَستَ مُخَبِّري عَن حزم    رَأيِكَ أَيَّةً ذَهَبا

نَسيتَ المَروَزِيَّ وَيَو   مَنا مَعَهُ الَّذي اِقتُضِبا

وَقَد ذَبَحَ الدَّجاجَ لَنا     فَأَمسى ديكُهُ عَزَبا

هَلُمُّ نُكافِهِ عَمّا اِبـ    ـتَغى فينا وَما اِحتَسَبا

بِشِعرِكَ إِنَّهُ ضَمَدٌ مِنَ    الحَقِّ الَّذي وَجَبا

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات أبو فراس إلى حلب قال أبو ا بلاد

إقرأ أيضاً:

هل يكون ترامب نيكسون القرن؟

 

 

د. عماد أبشيناس **

 

وصل الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى السلطة، عبر رفع شعار المفاوضات وحل الخلافات الإيرانية مع الغرب، وكان لحضور محمد جواد ظريف -صانع الاتفاق النووي والمشهور في إيران بأنه المنادي للمفاوضات مع الولايات المتحدة- الفضلُ الأكبر لوصول بزشكيان إلى السُلطة ومعظم الذين صوتوا لبزشكيان في الواقع صوتوا للذي يقف إلى جانب ظريف.

وبالفعل فإن بزشكيان وضع كل برامجه وأهدافه في سلة ظريف وكان متوقعا أن يتم تعيين ظريف في منصب نائب رئيس الجمهورية وبسبب معارضة الأصوليين المتطرفين لظريف اضطر أن يعينه مساعدا لرئيس الجمهورية للشؤون الاستراتيجية وهو منصب تم استحداثه خصيصا لظريف في حكومة بزشكيان.

وبسبب أن عبارة نائب رئيس الجمهورية ومساعد رئيس الجمهورية يتم ترجمتها في اللغة الإنجليزية بعبارة Vice President يخلط العديد من الأجانب في موضع نائب رئيس الجمهورية ومساعد الرئيس ولا يستطيعون التمييز فيما بين هذه المناصب، ولكن عموما في إيران نائب رئيس الجمهورية هو عمليًا يرأس الحكومة عندما لا يكون الرئيس موجودا ولديه سلطات تنفيذية على كل الحكومة ويمكن اعتبار قراراته هي قرارات الرئيس، في حين أن مساعد رئيس الجمهورية يكون مسؤولًا عن قسم من أعمال الرئيس فقط ويستطيع اتخاذ القرارات في ذلك الموضوع الخاص فقط.

وتسمح القوانين الإيرانية لمساعدي الرئيس ومستشاريه الحضور في اجتماعات الحكومة وإبداء رأيهم، لكن دون حق التصويت على القرارات الحكومية، التي هي محصورة بيد وزراء الحكومة؛ لأن الوزراء فقط يحصلون على ثقة المجلس، ويمكن للمجلس استجواب الوزراء فقط بشكل انفرادي أو جماعي وإعادة منحهم الثقة أو سحبها منهم.

وبسبب أن الأصوليين المتطرفين يسيطرون على مجلس الشورى الإسلامي الإيراني وهم يعارضون وجود ظريف في الحكومة، حتى إن ظريف اضطر أن يقدم استقالته من منصبه كي تستطيع الحكومة نيل ثقة المجلس، وثم يعود إلى الحكومة برفض الرئيس للاستقالة. وحاليًا يواجه بزشكيان ضغوطًا كبيرة جدًا لإقالة ظريف بسبب قانون يمنع إعطاء المناصب الإدارية العليا لأشخاص من مزدوجي الجنسية هم أو أولادهم، وابن محمد جواد ظريف كان قد حصل على الهوية الأمريكية مُستفيدًا من قانون ولادته على الأراضي الأمريكية.

ويعرف الجميع في إيران أن المقصود من هذه الهجمة الشرسة على ظريف، هو أنه موكل من الرئيس لكي يكون عرَّاب الاتفاق الجديد بين إيران والولايات المتحدة.

ولربما شرح هذا الموضوع يكفي لكي يستطيع المخاطب فهم مدى مستوى الخلافات الموجودة حاليا في ايران والذي يصل إلى أعلى المستويات في البلاد على موضوع المفاوضات مع الولايات المتحدة.

وعموما معارضو المفاوضات مع الولايات المتحدة يعتبرون أنه ما من فائدة من تضييع الوقت والدخول في هذه المفاوضات؛ لأن الولايات المتحدة لا تلتزم بأي من تعهداتها وهي تتنصل من تنفيذ كل الاتفاقيات التي تقوم بالتوقيع عليها.

ويتهم المعارضون الولايات المتحدة بأنها تسعى كي تحصل على ما لا تستطيع الحصول عليه عبر الضغط الاقتصادي والسياسي والتهديد العسكري وأن الذين يقومون بمفاوضة الأمريكيين بأنهم سذج أو حتى خونة يحرقون كل الإنجازات التي تحصل عليها إيران بمشقة في هكذا مفاوضات.

ويتخوف هؤلاء من أن الولايات المتحدة تسعى كي تسلب إيران قدراتها الدفاعية وتطبق السياسة التي قامت بتطبيقها على ليبيا إبان حكم الرئيس الراحل معمّر القذافي وتقوم بمهاجمة إيران بعد أن تسلبها كل قدراتها الدفاعية.

ويعتبر هؤلاء أن إيران يجب أن تستمر بسياسة التوجه شرقًا الذي بدأه الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، وعدم التعويل على المفاوضات مع الغرب، وبعد أن تصل إيران إلى مرتبة من القدرة الاقتصادية والعسكرية والسياسية لا يمكن تجاهلها، فإن الغرب حينها سوف يسعى إلى التعامل مع إيران وليس التقابل معها.

وفي المقابل، فإن أنصار المفاوضات يعتبرون أن الخلافات مع الولايات المتحدة -التي يعتبرونها عرّاب العالم- من الضرورات اللازمة لإيران، ولا يمكن أن تستمر إيران بسياسة العداء للولايات المتحدة، وهي تخسر مكانتها الدولية وأموالًا طائلة بسبب هذا العداء.

ولربما من الطريف أن نذكر أن الذين هاجموا السفارة الأمريكية في بدايات الثورة الإسلامية وتسببوا بقطع العلاقات حينها، كانوا معظمهم من الشباب اليساري الذين تحولوا فيما بعد إلى الإصلاحيين، والعديد منهم هم الذين ينادون حاليًا بضرورة حل الخلافات وعودة العلاقات مع أمريكا.

على أي حال، فإن نتيجة الانتخابات الإيرانية كانت واضحة وعكست رؤية الشارع الإيراني الذي قام بالتصويت لبزشكيان الرافع لشعار المفاوضات والعمل على رفع العقوبات وبعكس ما كان عليه الوضع مع بدايات الثورة؛ حيث إن العداء للولايات المتحدة كان على أشده، لكن الشارع الإيراني حاليا لا يكن العداء للولايات المتحدة؛ وهو جاهز لقبول أي صفقة تؤدي إلى عودة العلاقات مع الولايات المتحدة وترفع العقوبات عن إيران؛ وذلك يعني قبول صفقة تؤدي إلى عودة العلاقات ورفع العقوبات، يمكن اعتبارها مفتاح اللغز؛ حيث إن الرئيس الإيراني حصل على موافقة المرشد الأعلى على المفاوضات، بشرط الوصول إلى هذين الهدفين.

فأي اتفاق لا يتضمن أو يؤدي إلى رفع العقوبات عن إيران لا معنى له بالنسبة للناس، وفي المقابل فإن العديد من الأصوليين يعتبرون أن الرئيس الأمريكي ليس لديه سلطة كي يستطيع أن يرفع عقوبات وضعها الكونجرس الأمريكي على إيران بسبب أن الكونجرس حاليا هو تحت سلطة اللوبي الصهيوني.

وفي المقابل يعتبر مناصرو المفاوضات بأن ترامب في ولايته الثانية مختلف عن ترامب في ولايته الأولى وهو غير محتاج للوبي الصهيوني كي يناصره؛ لأنه لا يمكنه الترشح لدورة جديدة، وترامب حاليًا يسعى كي يُسجّل اسمه في التاريخ الأمريكي بصفته الرئيس الأمريكي الذي قام بحل أزمة الخلافات مع إيران، بما يشبه ما قام به ريتشارد نيكسون في السبعينيات مع الصين، ولذا يجب على إيران الاستفادة من هذه الفرصة.

ويعتبر هؤلاء أن ما يهم ترامب حاليًا هي الكعكة الاقتصادية الإيرانية، والتي بسببها يُمكن لترامب أن يُعلِّق أو يلغي العقوبات على إيران كي يحصل على حصة الأسد من هذه الكعكة للشركات الأمريكية، وتقدر هذه الكعكة بأكثر من 20 تريليون دولار أمريكي من الاستثمارات؛ حيث إن ايران لم تستثمر في العديد من المجالات الاقتصادية منذ أكثر من 40 عامًا، وحاليًا فقط قطاع النفط والغاز الإيراني يحتاج إلى ما يصل لحوالي 5 تريليونات دولار من الاستثمارات أو مثلا قطاع الطيران المدني الإيراني يحتاج إلى أكثر من 1000 طائرة مدنية، وهذه العقود يُمكن أن تنقذ العديد من الشركات الأمريكية التي تواجه حاليا مشاكل اقتصادية كبيرة.

وعلى الرغم من هذه الخلافات داخل الساحة الايرانية، فإن حكومة بزشكيان عملت بشكل جدي على عدة جبهات لكسر عقدة العقوبات على إيران؛ إذ طلبوا من أصدقائهم في سلطنة عُمان وقطر والعراق وحتى لبنان، العمل على فتح قنوات الاتصال مع فريق ترامب من جهة وبدأوا مفاوضات مع "الترويكا الأوروبية" من جهة أخرى.

واستنادًا لتصريحات محمد جواد ظريف في منتدى دافوس الأخير، فإن إيران والولايات المتحدة، في عهد الرئيس السابق جو بايدن، كانتا قد توصلتا لاتفاق غير مكتوب بينهما، لكن عملية السابع من أكتوبر في فلسطين، نسفت هذا الاتفاق، وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة من قبل الجانبين، فإن التصعيد الحاصل في المنطقة، أفشل كل محاولات التوصل إلى اتفاق جديد بينهما.

من جهة أخرى، فإنه وفي حين أن الأوروبيين مُصرِّون على ضرورة العودة إلى الاتفاق النووي وإحيائه قبل الخامس والعشرين من أكتوبر 2025، وهو موعد انتهاء فترة بند الزناد SnapBack في الاتفاق النووي، والذي بموجبه يمكنهم إعادة العقوبات الدولية على إيران، فإن الولايات المتحدة، في عهد الرئيس ترامب، لا تُصر على إعادة إحياء الاتفاق النووي، لكنها تُصر على ضرورة توقيع اتفاقية شاملة بينها وبين إيران، تضمن لها حصة الأسد في الاقتصاد الإيراني.

ولربما يمكن القول إن السبب الأساسي لانسحاب ترامب من الاتفاق النووي كان أن ذلك الاتفاق لم يضمن حصة الولايات المتحدة من الاتفاق وحصل الأوروبيون على حصة الأسد من العقود التي قاموا بتوقيعها مع إيران بعد التوقيع على الاتفاق النووي.

وعلى الرغم من أن شعار الجميع هو منع إيران من الحصول على السلاح النووي، وإيران مستعدة لتقديم كل الضمانات من أنها لا تسعى للحصول على هذا السلاح، لكن في الواقع عمليًا الجانب المقابل لإيران يسعى لاستغلال الموضوع النووي للحصول على حصة أكبر في الاقتصاد الإيراني فقط، وهم جميعهم مطمئنون من أن إيران لا تسعى كي تصنع السلاح النووي.

إنهم جميعًا يعلمون أن ايران عَبَرَتْ عما يتم تسميته "العتبة النووية"؛ حيث إنه باستطاعتها تصنيع السلاح النووي في أي لحظة تريد، لكنها لم تقم بفعل ذلك لأن استراتيجيتها الردعية كانت أصلا مبنية على أساس العبور من هذه العتبة، وتهديد الاعداء بأنهم إذا ما قاموا بمهاجمة إيران وكان الوجود الإيراني في خطر فإنها يُمكن أن تلجأ إلى خيار تصنيع السلاح، وطالما أن إيران لا تواجه خطرًا وجوديًا فإنها لن تقوم بتصنيع السلاح النووي.

** باحث وأكاديمي إيراني

** يُنشر بالاشتراك مع مركز الدراسات الآسيوية والصينية في لبنان

مقالات مشابهة

  • حفيد السلطان العثماني عبد الحميد لترامب:غزة ملك لجدي(فيديو)
  • بعدما غيّر ترامب اسمه.. خليج أمريكا يظهر على خرائط غوغل للأمريكيين فكيف يراه المكسيكيون؟
  • فاتتني صلاة الفجر عدة مرات ولا أعلم عددها فكيف أقضيها؟.. الإفتاء توضح
  • أشعار نزار قباني عن الصباح الباكر
  • بودكاست «رحالة» يكشف تفاصيل سرقة جزء من سقف معبد دندرة في القرن الـ19
  • تراجع أنشطة الصيد الجائر لوحيد القرن في جنوب أفريقيا
  • إيطاليا.. إتلاف لوحة من القرن السادس عشر بعد حادث تعثر في متحف
  • إعادة بناء المئذنة الحدباء في الموصل
  • هل يكون ترامب نيكسون القرن؟
  • الجبوري يدعو النزاهة للتحقيق بقيام عمار الحمداني بتوزيع سيارات وأموال لأعضاء مجلس بغداد