رغم محاولتي التخفيف من متابعة بعض أحداث العالم وحروبها المستعرة لما تحويه من أسى وظلم يدفع ضريبتَه الأبرياء من عامة الناس مع ما يمكن أن نلحظه من تباين في موجهات هذه الحروب وتوجهاتها، ومع هذه المحاولة التي أقرُ بفشلها خصوصا في الأخبار المتعلقة بقضايا المنطقة العربية وحروبها المؤلمة؛ فلم نكتفِ بما حل وما زال يحل بغزة من إبادة جماعية يمارسها الكيان الصهيوني المتغطرس، وما حل بلبنان من وقع آلمنا جميعا، وما يحدث في سوريا من استئناف لحروب داخلية ممنهجة في أصلها بخيوط خارجية تهدف إلى التمهيد إلى «سايكس بيكو» جديد يعيد تشكيل خريطة الشرق الأوسط.

ما يهمني في هذا المقال أن نناقش آلية عمل الإعلام بتعدد قنواته ووسائله في تشكيل وعينا السياسي بشكل رئيس؛ ليعيدنا إلى دائرة التيه السياسي الذي لا يمكن أن نفرق فيه بين الحق والباطل؛ فنستوعب هذه المعادلة من الأدلجة التي تبثها وسائلُ الإعلام وتنقلها عنوةً إلى داخل عقولنا المتلهفة لمعرفة مستجدات الأحداث وأخبارها؛ فتنقلها بعينها المرتبطة بعقيدتها السياسية المنوطة بأهدافها الخاصة الساعية عن طريقها إلى تجييش المشاعر سلبا أو إيجابا دفعا لتأييد جبهة على حساب جبهة أخرى، وبكل حال لا يمكن أن نطلق تعميمنا هذا على كل الأحداث الحالية؛ فقضايا مثل حرب غزة، لا يختلف فيها اثنان على حقيقتها من حيث حدوث الإبادة؛ فيكفي أن نستدل بشهادة الإعلام الصهيوني الداخلي والخارجي لحدوث هذه الإبادة، ولكن قضايا أخرى مثل التي تحدث في سوريا التي تباينت فيها آراء الإعلام بحجم تباين الخصوم والحلفاء المرتبطين بهذه المشكلة والمؤجِجة لنارها غايةً -سياسية واقتصادية واستعمارية- في نفوسهم ؛ لتساق السرديات المؤيدة لمشروع تدمير سوريا وما بعد سوريا إلى الوعي الجمعي العربي عبر ضوابط نفسية وسياسية خادعة، وهذا ما سبق أن حدث بعمومه في معظم الدول العربية إبان ذروة ما يطلق عليه بـ«الربيع العربي» الذي أفقد المجتمعات أمنها السابق ولم يحقق لها حظها الديمقراطي المنشود بل -في كثير من حالاته- فاقم أزمات الشعوب السياسية والاقتصادية والأمنية.

نلحظ في مجتمعنا العربي بكل جغرافياته وعبر وسائل التواصل المتعددة اختلافا غير مسبوق في قراءة أفراده لأحداث المنطقة، وخصوصا في سوريا التي تكتوي بنار الحرب الداخلية؛ فنجد من يبرر هجوم المعارضة ويؤيد تحركهم العسكري، وثمة من يرفضه ويعتقد بحصول المؤامرة، وتلتقط مثل هذه الآراء بواسطة وسائل الإعلام التي باتت شبه مرافقة لكلا الطرفين؛ فتتنافس هذه العيونُ الإعلامية في نقل الصورة التي تريد بثها لدهماء الناس؛ فتصنع وعيًا تراكميًا جمعيًا يعيد تشكيل الصورة الذهنية للأحداث؛ فلا عجب أن تجدَ من كان مؤيدًا للنظام السوري يصبح عدوا للنظام ومؤيدا للمعارضة حسب مقتضيات المصالح المتبادلة، والعكس حادث أيضا، ومآل ذلك يعود إلى قدرة الإعلام -الذي تمتزج فيه القدرات الفنية والتأثيرات النفسية والعاطفية، وفي حالات أخرى التزييف المرئي المتعمد- على اختراق المنظومة العقلية لدى الإنسان؛ لتجعل منه كائنا يسهل أدلجته وفق التوجهات السياسية المركزية. سبق أن مارس الغرب مثل هذه الأساليب لتوجيه الرأي العام لقضايا معينة تسند توجه الحكومات الغربية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية مثل قضايا «الإرهاب» التي أسهمت في تشويه صورة الإسلام في العيون الغربية ووعيهم الجمعي، وفاقمت ظاهرة ما بات يعرف بـ«الإسلام فوبيا» «الخوف من الإسلام»، ولعل كثيرا من هذه الصور التي روج لها الإعلام الغربي في زمن غابر وحتى فترة قريبة من الزمن -قبل اختراق الإعلام الرقمي ميدان الإعلام التقليدي- لم تكن تعكس واقعا حقيقيا عن الإسلام والمسلمين؛ فنجد -على سبيل المثال وليس الحصر- جماعات إرهابية مثل تنظيم «داعش» في أصل نشأتها بأنها صناعة استخباراتية تقف خلفها منظمات -إن لم يكن دول أيضا- غربية وصهيونية باعتراف ساسة غربيين جاءت بلسانهم وفي كتبهم، وكان لعين الإعلام أن تشارك المؤسسات الاستخباراتية هذه الدراما لضخها في عقول المجتمعات الغربية رغبة في تأييد مشروعاتهم السياسية والاقتصادية. انتقلت عدوى التأثير الإعلامي الممنهج من الغرب إلى العالم العربي؛ فبات من السهل أن نرى ذلك في إعلام يسهل للفطن أن يدرك مآربه السياسية عن طريق ما ينقله لجمهور متعطش للجرعات الإعلامية التي تكسبه ثقافة غير موثوقة لا تؤكدها إلا كاميرات تنتقي جغرافيتها بعناية لتظهر ما ترغب أن يتحول إلى قناعة ولو خالطت الواقع، وهنا لست بصدد استعراض الرأي الخاص، ولكن جل ما أمكنني أن أنصح به نفسي قبل غيري أن أستفيض من المعرفة ذات البعد التاريخي والفكري والسياسي وفهم خلفية الصراعات ومآلاتها القديمة والحديثة؛ فيمكن لكل هذه المعارف أن تؤهل المرء منا أن يمتلك «مُرشحا» ننتقي بواسطته ما يردنا عبر الإعلام بوجود عين ثالثة تملك أبجديات معرفية صُلبة تستطيع أن توجه العقل إلى نظرة مستقبلية تمنحه المناعة من الوقوع في فخ الإعلام وعيونه الساحرة، ولكن سحر العين الإعلامية جعلت الناس تفترض واقعًا كأنه يقول «الإعلام أصدق أنباء من الكتب».

سبق أن تحدثنا عن الإعلام الرقمي الذي لا يتطلب أن يُدار من قبل مؤسسات إعلامية؛ إذ يتولى الأفرادُ أمرَه، ولكن تُبين لنا المظاهرُ الناتجة حصولَ التأثير الجمعي لهذا الإعلام الرقمي مثل حسابات وسائل التواصل، ولكن ما يثير دهشتنا صعود التأثير للإعلام المؤسسي خصوصا السياسي الذي من السهل أن نلحظ توجهاته السياسية عبر ما يعكسه من تحيز لطرف ضد طرف؛ فيصنع جمهوره الذي سيسهم في الترويج للسردية السياسية المنشودة، وتعددت عيون الإعلام، وبات صراعها بيّنًا، ومن هذا المنبر الإعلامي المكتوب نوجه أنفسنا وغيرنا إلى تأسيس الوعي المعرفي بكل أبعاده قبل الانجرار إلى سرديات الإعلام السياسي؛ فالقناعات التي سنتبناها في مرحلة عبر محطات الإعلام ستقودنا إلى قناعات أخرى لا نستبعد أن تعيد تشكيل نظرتنا إلى العالم ولأوطاننا استنادا إلى عين تبث صورها لنا دون وعي بمكنوناتها وغاياتها وتقنياتها النفسية والرقمية.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

اقتصادي: الجهد الذي بذله الرئيس في جولته الأوروبية سيرى النور إذا تابعته الوزارات بالشكل المطلوب «فيديو»

قال الدكتور محمد حمزة الحسيني، الخبير الاقتصادي، إن زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي للنرويج كانت مهمة للغاية، خاصة وأن النرويج تمتلك أكبر صندوق سيادي استثماري في العالم بقيمة 2 تريليون دولار، مشيرًا إلى أن هذا الصندوق هو الأول على العالم من حيث الحجم.

وأ كد محمد الحسيني، خلال حواره على فضائية «النيل للأخبار»، أن الجهد الذي بُذل من الرئيس عبد الفتاح السيسي في هذه الزيارة لن يرى النور إلا إذا تم متابعته من خلال الوزارات المهنية بالشكل المطلوب.

الناتج القومي للنرويج يُقدر بـ 440 مليار دولار، في حين أن عدد سكان هذه الدولة لا يزيد عن 6 ملايين نسمة، بينما الناتج القومي لمصر يُقدر بـ396 مليار، وعدد السكان يُقدر بـ110 ملايين نسمة.

استثمار الهيدروجين الأخضر في مصر

وأضاف «الحسيني» أن النرويج تُعد من أقوى وأكبر الدول في الاستثمار في الهيدروجين الأخضر، مشيرًا إلى أن الرئيس السيسي تحدث مع رجال الأعمال الدنماركيين عن ضرورة الاستثمار في مصر، خاصة في مجال الهيدرجين الأخضر الذي تتمتع فيه مصر بموارد خاصة، بالإضافة إلى أن تكلفة اليد العاملة منخفضة في مصر بصورة كبيرة.

النرويج من أوائل العالم التي لديها فائض في الطاقة المتجددة

وتابع الخبير الاقتصادي، أن النرويج من الدول النفطية، ورغم ذلك فهي دولة متطورة وتمتلك تكنولوجيا متطورة، وأصبحت من أوائل دول العالم التي لديها فائض في الطاقة المتجددة.

الثروة الحيوانية في النرويج

وذكر، أن الثروة الحيوانية في النرويج قوية جدًا، وتمتلك وفرة كبيرة من اللحوم والألبان بسبب الاعتماد على التكنولوجيا في تربية الثروة الحيوانية، لافتا إلى أن نقل هذه التكنولوجيا لمصر أمر مهم جدًا، ويُساهم في زيادة الثروة الحيوانية.

مصر أثبتت لكل للعالم أنها مستقرة

وأكد محمد الحسيني، أن مصر أثبتت لكل دول العالم أنها مستقرة، مما جعل مصر دولة محترمة من قبل كل دول العالم، وظهر هذا بوضوح في الزيارات الخارجية للرئيس عبد الفتاح السيسي.

زيارة الرئيس السيسي لأيرلندا

وواصل الدكتور محمد حمزة الحسيني حديثه، أن زيارة الرئيس السيسي لأيرلندا أمر مهم، خاصة وأنها دولة متطورة في تكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمي، مبينا أن مصر تريد الاستفادة من تجربة أيرلندا من خلال دعوة الشركات المتخصصة في التكنولوجيا للمجيء لمصر.

دور الحكومة للاستفادة من جدوى زيارة الرئيس السيسي للدول الاسكندنافية

ونوّه «الحسيني» بأن الحكومة المصرية يجب أن تتواصل بشكل مستمر مع الجانب النرويجي والدنماركي والأيرلندي لإعداد دمج بين الشركات المصرية والشركات في هذه الدول، حتى نستفيد من جدوى زيارة الرئيس السيسي لهذه الدول السنوات الأخيرة.

اقرأ أيضاًالرئيس السيسي يغادر أيرلندا في ختام جولته الأوروبية

الرئيس السيسي ورئيس وزراء أيرلندا يؤكدان حرصهما على تعزيز العلاقات الثنائية في شتى المجالات

الرئيس السيسي يؤكد ضرورة مواصلة العمل لتعزيز العلاقات بين مصر وأيرلندا في كافة المجالات

مقالات مشابهة

  • ما الذي يجري في سوريا؟!
  • اقتصادي: الجهد الذي بذله الرئيس في جولته الأوروبية سيرى النور إذا تابعته الوزارات بالشكل المطلوب «فيديو»
  • مركز أبحاث أمريكي: ما التحديات التي ستواجه ترامب في اليمن وما الذي ينبغي فعله إزاء الحوثيين؟ (ترجمة خاصة)
  • ما هو سباق التسلح الجديد والخطير الذي يسيطر على صناعة السلاح عالميا؟
  • ما المكاسب الاقتصادية التي ستجنيها السعودية من مونديال 2034؟
  • روسيا: نحافظ على اتصالات مع جميع القوى السياسية الموجودة حاليا في سوريا
  • الهلال الأحمر يكرم متطوعين في العين
  • ترحال.. ما الذي يجعل إسطنبول وجهة السياح الأولى؟
  • (كأس العالم والتعاطي الإعلامي)
  • أحمد الشرع.. الطبيب "أبو محمد الجولاني" الذي قاد حربًا لإسقاط الأسد وتصدر المشهد السياسي