الذين يسعون لإسقاط الوطن السوري
تاريخ النشر: 7th, December 2024 GMT
أن يسقط النظام، أية نظام، فهو أمر وارد في كل الأوطان، أما أن يسقط الوطن فهو شيء آخر، سقوط الوطن في الحالة السورية أمر شديد الخطورة على سوريا أولا، ثم على المنطقة الإقليمية والعربية، فالمتربصون بسوريا نعرفهم ونعرف توجهاتهم، ونعرف لحساب من يعملون، فهناك جهات كثيرة موَّلت ودعَّمت ودفعت مئات الملايين منذ عام ٢٠١١، بحجة إسقاط النظام، الأنظمة تذهب أما سقوط الأوطان تحت جحافل الغوغاء والجماعات الأيديولوجية فالأمر جد خطير، خصوصا وأن هذه الجماعات المناهضة للدولة السورية تعمل لحساب قوى إقليمية ودولية، لدينا دروس كثيرة وتجارب مريرة، فقد سقط صدام منذ أكثر من عشرين عاما ولم يبرأ العراق بعد من أمراضه وأزماته، بعد أن انقسم العراقيون وفقا لمواقفهم وإيديلوجياتهم، سقط معمر القذافي وأصبحت ليبيا عصية على الوحدة، في ظل ولاءات إقليمية وجهوية، دفع الليبيون الثمن باهظا من أمنهم واقتصادهم، وتعطلت برامج التنمية في هذا البلد الذي حباه الله موارد ضخمة، لكن الموارد وحدها لا تقيم أوطانا، ثم سقط النظام في اليمن وأصبح اليمن يمنين، ودخلت البلاد في أُتون حرب أهلية عطلت الحياة، وانهارت المرافق ولم تبرأ اليمن بعد، وليس معروفا إلى أين ينتهي مصير اليمن، وفي جميع الحالات الشعب هو الذي يدفع الثمن من أمنه ورخائه.
مشاكل معظم الأقطار العربية معقدة، والأنظمة مسؤولة عن هذا التعقيد حينما راهنت على الاستقرار والأمن، بينما النيران مشتعلة في جذور مجتمعاتها، وكان أمامها فرصة الإصلاح من الداخل، وبعض الأنظمة بقيت في الحكم عقودا لكنها لم تأخذ الإصلاح بمعناه السياسي والاجتماعي على محمل الجد، وراحت تبحث عن مسكنات في السطح، ولم تتطرق إلى الإصلاح الحقيقي إلى أن جاءت الطامة الكبرى، وأصبحت الأوطان مهددة بمخاطر جسيمة، ومهما كان سوء الإدارة وعدم مقدرتها على تقديم إصلاحات حقيقية فلا يمكن أن يكون البديل هو سقوط الأوطان، لأن سقوطها ينذر بضياعها خصوصا وأن هذه الأوطان ليس لديها أحزاب سياسية ولا قوى اجتماعية قادرة على تقديم مشروع ينقذ الدولة في حالة السقوط، وكان البديل العملي والحضاري هو العمل على الإصلاح من الداخل، وكان على الأنظمة أن توجد الكيانات السياسية والحزبية المؤهلة لاستلام مقاليد الدولة، أمامنا التجارب الأوروبية والآسيوية التي واجهت مثل هذه الحالات، لكن جاء انتقال السلطة بطريقة سلسة، الكثير منها حقق نجاحات كبيرة، بينما أخفقت أوطاننا لافتقادها إلى القوى الاجتماعية والسياسية القادرة على تقديم برامج تمكن الدولة من استعادة قدرتها على الاستمرار والبقاء.
الحالة السورية معقدة .. نعم، وقد راهن النظام على الأمن منذ عام ٢٠١١، وقد حظي بدعم كبير من روسيا وإيران، لكنه لم يحظ بذات القدر من الشعب السوري، هذه حقيقة، وطوال هذه السنوات لم يقدم مشروعا سياسيا واجتماعيا يفتح المنافذ المغلقة، ولم يقدم برنامجا سياسيا يطمئن الثائرين عليه، والذين ذهبوا إلى أحضان قوى إقليمية ودولية تعمل جاهدة على إسقاط الدولة السورية، ولا أتفهم أبدا موقف بعض دولنا العربية التي دعَّمت مشروع إسقاط الدولة السورية، حتى ولو كانت سوريا قد أقامت تحالفا مع قوى إقليمية أخرى ترى بعض هذه الدول أنها تشكل خطرا سياسيا وفكريا عليها فلا يمكن أن يكون البديل هو إسقاط الدولة السورية، التي لو سقطت لكان سقوطها سببا كافيا لوجود مخاطر هائلة على كل دول المنطقة، خصوصا وأن البديل هو جماعات النصرة وفصائل الشام وغيرهما، وهي جماعات تشكل خطرا فكريا واجتماعيا وسياسيا على المنطقة العربية برمتها.
أعتقد أن الدول العربية والإقليمية عليها أن تحدد موقفها بوضوح من الأزمة السورية، فقد لاحظنا أن بعض هذه الدول قد التزم الصمت، بينما القضية بمخاطرها لا تستوجب الصمت، فالأمر جد خطير، وترك سوريا إلى مصيرها ما بين جماعات الإسلام السياسي وما بين قوى أخرى مجاورة لحدودها تتولى التمويل والتدريب وكل أشكال الدعم هو أمر خطير، لأن النيران ليست بعيدة عن كثير من الدول العربية، خصوصا أنه بات واضحا حجم المؤامرة ومن له مصلحة في إسقاط سوريا، يبدو ذلك جليا في ظل ما تتعرض له غزة من أهوال ودمار، وما يتعرض له لبنان من مخاطر، بل وما تتعرض له أوطان عربية أخرى مجاورة لإسرائيل، بعد أن أوضحت السياسة الأمريكية في ظل الإدارة القادمة عن عزمها اللامحدود في دعم إسرائيل، وقد عبر عن ذلك الرئيس الأمريكي القادم (دونالد ترامب) عن نيته في توسع إسرائيل جغرافيا، ولم يفصح عن ملامح هذا التوسع، لعل الحرب على سوريا قد تكون بداية المشروع الأمريكي الإسرائيلي، فالواقع المأزوم في المشهد العربي يعد خطيرا، لكن الخطر الأكبر هو المستقبل المجهول، الذي ينذر بأهوال يدفع السوريون ثمنها لكن سوف تدفع أقطارنا العربية الثمن باهظا هي الأخرى.
لقد ألقى البعض باللائمة على الجيش السوري وقياداته بعد أن انسحب من المواجهة مع الجماعات المتطرفة، التي استولت على شمال سوريا خلال أقل من أسبوع، ولم تلق مواجهة تتناسب وحجم المخاطر التي تتعرض لها سوريا، ويمكن أن نتفهم ذلك في ظل اتفاقات روسية تركية إيرانية على خفض التوتر في الشمال السوري، وفي ظل معاناة الجيش السوري الذي ظل يحارب أكثر من عشر سنوات، وفي ظل الحصار الدولي على سوريا، وفي غيبة الدعم الروسي نظرا للصراع الروسي الأوكراني، كما تراجع الدعم الإيراني في ظل الحصار الأوروبي الأمريكي، وهو ما أدخل إيران في أوضاع اقتصادية وسياسية معقدة، كل هذه الأسباب حالت دون تحديث الأسلحة، فضلا عن إنهاك القوات السورية التي بقيت رابضة على الحدود كل هذه السنوات، وهو وما لا تتحمله الجيوش مهما كانت قدرتها، بينما الجماعات التي تتربص بالوطن السوري تحظى بدعم إقليمي وأمريكي وإسرائيلي، يبدو ذلك في شكل المعدات والأسلحة العسكرية التي شاهدناها في حلب وحماة، وجميعها معدات حديثة، كما حصلت هذه الجماعات على قدر كبير من التدريب والتأهيل في المؤسسات العسكرية من بعض دول الجوار، وهي حقيقة لا مجال للالتباس بشأنها.
لعل ما حدث في سوريا خلال الأيام الماضية يطرح أسئلة كثيرة، من بينها: من هو صاحب المصلحة في إشعال تلك الحرب واستقدام جماعات من كل أشتات العالم لهدم الدولة السورية؟ لعل الأمر لم يعد سرا، فإسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الحلفاء الإقليميون هم أصحاب المصلحة الأهم في انهيار الدولة السورية لكي تكمل إسرائيل مشروعها في إقامة الشرق الأوسط الجديد، كما بشر به الرئيس الأمريكي القادم (ترامب)، وهو استكمال لما يحدث في غزة ولبنان، ولا نعرف غدا ماذا سيكون في أوطان عربية أخرى.
ثم هناك قوى إقليمية من مصلحتها انهيار سوريا، أولها تركيا التي تسعى لإقامة عمق جغرافي يسمح لها بالقضاء على الأكراد، وهي حقيقة لا ينكرها الأتراك، ثم هناك أطماع تركية في شمال سوريا، وخصوصا في حلب، وقد عبر عنها العديد من المسؤولين الأتراك، ثم هناك قوى إقليمية ـ للأسف عربية ـ لديها ثأر مع سوريا بسبب علاقتها بإيران، وهو سبب لا يستقيم وحجم المخاطر التي تتعرض لها سوريا، فضلا عن المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها أقطارنا العربية فيما لو سقطت سوريا، وهو أمر جد خطير، لعل العرب يتنبهون ولو في الوقت المتأخر.
د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الدولة السوریة قوى إقلیمیة تتعرض له
إقرأ أيضاً:
أساتذة علوم سياسية: ما يحدث في «دمشق» ليس مجرد أزمة داخلية بل قضية إقليمية ودولية
أكد أساتذة علوم سياسية أن الأوضاع الراهنة فى سوريا تمثل تهديداً للأمن القومى العربى، وقال اللواء الدكتور رضا فرحات إنّ الأوضاع الراهنة فى سوريا تمثل تصعيداً خطيراً على جميع المستويات، بدايةً من احتلال إسرائيل لجبل الشيخ وانتهاءً بالفوضى التى أعقبت الأحداث الأخيرة فى الداخل السورى، مشيراً إلى أن سيطرة الاحتلال الإسرائيلى على جبل الشيخ تعد انتهاكاً صارخاً للسيادة السورية وتهديداً للأمن القومى العربى بأسره، حيث يمثل هذا الجبل موقعاً استراتيجياً بالغ الأهمية، ما يعكس نوايا الاحتلال فى توسيع نفوذه والسيطرة على المزيد من الأراضى السورية.
رضا فرحات: على المجتمع الدولى التحرك العاجل لوقف حالة الفوضىوأوضح أستاذ العلوم السياسية أن هذه الخطوة من قبَل إسرائيل تأتى فى سياق استغلالها لحالة الضعف والانقسام، ما يستدعى موقفاً عربياً ودولياً حاسماً لدعم سوريا واستعادة أراضيها المحتلة، والتصدى لمحاولات فرض أمر واقع جديد فى المنطقة لأن استمرار الاحتلال فى فرض سيطرته على مناطق جديدة لن يؤدى إلا إلى مزيد من زعزعة الاستقرار وإطالة أمد الأزمة السورية.
وأشار «فرحات» إلى أن حالة الفوضى التى شهدتها سوريا مؤخراً تعيد إلى الأذهان سيناريوهات خطيرة سبق أن حدثت فى بلدان أخرى شهدت صراعات داخلية، مثل فتح السجون وهروب الجنائيين، الأمر الذى يمثل خطراً مباشراً على الأمن الداخلى السورى والإقليمى، بالإضافة إلى أن التقارير حول سرقة البنك المركزى السورى توضح أن هناك استهدافاً ممنهجاً لمقومات الدولة السورية، فى محاولة لتدمير الاقتصاد الوطنى وإضعاف المؤسسات التى تمثل العمود الفقرى لأى جهود لإعادة الإعمار أو استعادة الاستقرار.
وأكد «فرحات» أن هذه التطورات تتطلب تحركاً عاجلاً من المجتمع الدولى لوقف حالة الفوضى فى سوريا، ومحاسبة الجهات التى تسعى لتأجيج الصراع على حساب الشعب السورى، كما دعا إلى ضرورة دعم المؤسسات الوطنية السورية لاستعادة دورها فى الحفاظ على الأمن الداخلى وإعادة بناء الدولة، لافتاً إلى أن ما يحدث فى سوريا ليس مجرد أزمة داخلية، بل قضية إقليمية ودولية تتطلب تضامناً عربياً ودعماً دولياً من أجل تحقيق حل سياسى شامل يحافظ على وحدة الأراضى السورية واستقلالها، ويضع حداً للأطماع الخارجية التى تهدد أمن واستقرار المنطقة بأكملها.
وتابع أن مستقبل سوريا يعتمد بشكل كبير على تضافر الجهود الإقليمية والدولية، لتحقيق تسوية شاملة تعيد بناء الدولة السورية على أسس الاستقرار والتنمية، مشيراً إلى أن الصراع الطويل الذى شهدته سوريا منذ عام 2011 تسبب فى تدمير البنية التحتية وتفكيك النسيج الاجتماعى، ما يجعل المرحلة المقبلة تحدياً يتطلب تكاتف الجميع لإعادة البناء.
طارق فهمى: الفترة المقبلة ستشهد تغيرات فى الخريطة الجيوسياسية لسورياوأكد الدكتور طارق فهمى، أستاذ العلوم السياسية، أن التطورات الحاسمة التى تشهدها سوريا ستؤثر أيضاً على البيئة المستقبلية فى المنطقة، فما حدث فى لبنان كان تمهيداً لما يحدث فى سوريا، مضيفاً أن سوريا كانت مقسمة إلى 4 قطاعات رئيسية تسيطر عليها فصائل وتنظيمات مختلفة ولكل منها توجهاتها وانتماءاتها، لذلك كان من المتوقع أن يتم التعامل مع الوضع السورى وفقاً لهذا الوضع القائم.
الدول المجاورة ستتأثر بالأحداث وهناك تخوفات من اتساع التطرف والإرهاب وعدم الاستقراروأشار «فهمى» إلى أن هناك مخاوف بشأن الاستقرار فى سوريا والمناطق المجاورة، فضلاً عن الحسابات التى ستؤثر على تحركات الأطراف الإقليمية والدولية، ليس فقط نتيجة دعم هذه الأطراف الداخلية وتقويتها بدول إقليمية وخارجية، بل لأن سوريا الآن فى مرحلة انتقالية، ويمكن قياس الأوضاع من منظور كيفية التعامل مع الأطراف الإقليمية، خاصة تركيا، التى سيكون لها موقف، فضلاً عن إسرائيل وإيران، تجاه ما يحدث، مع الأخذ فى الاعتبار أن هذه المرحلة هى مرحلة ترقب وانتظار لرصد التوجهات الإقليمية المطروحة.
وأكد أن الفترة المقبلة قد تشهد تغيرات فى الخريطة الجيوسياسية لسوريا، حيث تستهدف إسرائيل التوسع فى الجولان المحتلة بدعم من البيت الأبيض، والتخوفات المقبلة على العراق ولبنان من تداعيات التغير للخريطة الجيوسياسية، لافتاً إلى أن هروب قادة الجيش السورى إلى الحدود العراقية تم باتفاق، ولن تعود وحدة سوريا كما كانت سابقاً.
حسن سلامة: التنظيمات المسلحة والمأجورة تلعب دوراً كبيراً فى نشر الفوضى وهدم مؤسسات الدول فى الشرق الأوسط كلهمن جانبه، قال الدكتور حسن سلامة إن التنظيمات المسلحة والمأجورة تلعب دوراً كبيراً فى نشر الفوضى وهدم مؤسسات الدول فى الشرق الأوسط كله، وأوضح أن غياب الدولة يعنى أن الأنظمة تتغير، وعندما تغيب الدولة فإن مؤسساتها لا تعود، مما يؤدى إلى دوامة من الفوضى، وهذا يثير مخاوف كبيرة من التطرف والإرهاب وعدم الاستقرار، إضافة إلى عدم التنمية، مشيراً إلى أن الأحداث الجارية فى دولة ما قد تؤثر على دول أخرى فى المنطقة، وهو ما يعرف باسم العدوى الدولية، والأمثلة واضحة، مثل ليبيا والسودان وسوريا، ونماذج كثيرة أخرى.