في مأزق الوعي العربي .. «الطائفية» التوظيف السلبي للذاكرة
تاريخ النشر: 7th, December 2024 GMT
لا يؤدي تفسير النتائج إلى بديهيات في العادة، فالممكن لأي عملية بحثية أن تتجه تحت ضغط فرضياتها إلى اصطناع نتائج تتباين بسبب من الطبيعة المنهجية التي تتم بها معالجة عمليات البحث في العلوم الإنسانية، ولذا فإن محاولتنا القيام بتحليل وظائف البنى الاجتماعية ينبغي أن تتجه بالدرس أولا إلى اختبار الفرضيات ذاتها، قبل القبول بهيمنتها وادعائها الاستقلالية كونها تصور لنا فقط الجانب النظري المجرد من القضية، وفي ذلك باتت العلوم الإنسانية تميل أكثر إلى مضاعفة عمليات الاستقراء حول الموضوع قبل الاستسلام للمنهج، وفي مقالنا هذا نريد أن نختبر فرضية تكامل حضورها في مقولات عابرة للوعي، وهي مقولات تنتشر بصورة واسعة داخل أطر النظر الفكري في الدرس الاجتماعي العربي، وهي مقولة: «الطائفية» وكأننا هنا أمام مفهوم مستقل تَكْوُن عبر استعارات منظمة ما سمح له في النهاية أن يملك تعريفه الخاص، وهنا مكمن الأذى.
إنه ليس من الممكن إنكار حضور الأذى من الطائفية في المجتمعات العربية، ولكننا واقعون في خطأ محاكمتها مسقطين عليها جملة من الاتهامات فقط لأنها ظلت تملك فاعليتها الخاصة وبالتالي تؤدي وظائف متعددة وبعضها قد لا يكون ضمن نطاق دورها، لكننا وحين نُفَعِل عمليات التجريم نرتكب خطأ فادحا، ذلك أننا نعتقد بامتلاك الحق في مساءلة أي بنية اجتماعية فقط كونها حاضرة وفاعلة، ونحن غير مبالين بالنظر أعمق للأسباب التي تجعل من بنية موصوفة بالتقليدية تعيش حيوات مستمرة في ظل حداثة مزعومة نقول بحضورها في الفضاءات المتعددة، والذي يغيب حقا هو أننا لا نعرف أن سلاسل التَخْلُق في الواقع الاجتماعي هي بمثابة صيغ رياضية تصدر نتائجها حسب العلاقات القياسية التي تقوم بين أطرافها، وهنا فإن بقاء هيئة أو مؤسسة اجتماعية حية ومتوفرة على الفعل لهو نتاج طبيعي لإخماد نشاط المتغيرات، وتَعَطُل قواعد العلاقات المنتجة للفعل، فهل نحاسب الطائفية على غشيانها دُور ليست من ضمن شغلها؟ أم ننظر أكثر في الأسباب التي تمدها بأسباب للحياة رغم زعومنا المتكاثرة أننا مجتمعات أصابت قدرا من الحداثة وتخلصت من التقليدية التي تجعلنا نعيش الماضي في الحاضر؟ والحقيقة أن المجتمعات التي تعجز عن فهم طبائع علاقاتها هي الأكثر عرضة للإصابة بالتفكك نظرا لغياب حساسية التفسير وانغماس فاعليها في التفسير لا التحليل، ما أقعدهم عن تحديث الواقع ومواجهة مشكلاته.
إن الطريقة التي يعرضها الباحث الاجتماعي في وصم المجتمع أنه لم ينجو بعد من تراثه، لهي طريقة تعاني من عمليات تمثيل مؤسلبة لا تملك إلا التعييب والإشارة فاقدة الحيوية، لأنه ليس مطلوبا من عالم الاجتماع أن ينكب على الوصفية كحالة علمية للفهم، فهذا دور فضائحي في أغلبه ولا ينتج شيئا في الواقع، إن المهمة الرئيسة له أن يكون قادرا على استكناه الحادثة في معرض بحثه لا أن يجعل منها برادايما محصنا من التجريب، إن دوره القيام بتفكيك التجربة لصالح تخليصها من طقسها الذي يمارس سلطانه على التفكير للدرجة التي أحالت الفاعل الاجتماعي إلى مجرد مُعَرِف بالحالة لا محللا لها وناقدا لتهافتها، ومن ذلك أيضا ما ذكرنا من التضحية بالمفهوم لأجل الموضوع، وقولنا بأن الأزمة الاجتماعية في الوطن العربي تعود لتسيُّد أنماط متخلفة من العلاقات على الظاهرة ما أقعد بها وعَطَّل فيها إمكانية التحديث والعصرنة، إن الأمر ليس بهذا التبسيط، فما يجري هو تقصير ظل الوعي بجعل البحث ليس سوى مظهر لطقس أكاديمي يفرض نفسه على الفضاء الإنساني دون أن يعترف بقصوره الذاتي، ودونك غياب فاعلية الكليات والأقسام الجامعية عن الإدلاء بقول فصيح في الواقع والاكتفاء ببناء تجسيدات مثالية مفارقة ولا تملك سوى وضع علامات مؤقتة في طريق البحث ليست بذي فائدة مرجو منها القيام بإصلاح الواقع والتمهيد لتطويره.
إن ما نلحظه من غياب البحث في الواقع بالذات المتصل بالعلوم النفسية والاجتماعية والاقتصادية يعود إلى تجنب بناء مناهج من داخل الظاهرة وليس من أعلى، وهذا ما جعل الكثير من التحليلات المقدمة ناحية فهم الإنسان في واقعنا العربي ليست إلا رسوما كاريكاتورية عن الحقيقة، وأقوال المتمدرسة من أكاديميينا ما هي إلا خيارات نرجسية لا تتصل بالواقع، ولأن موضوعتنا تتعلق بإدانة الطائفية كونها تتصرف في الفرد وتعيد تشكيل دوره بطريقة لا تسمح لإرادته الفردية بالاستقلال فعلا، وهي إن فعلت ذلك فإنها غيبت عنه حق الاختيار، وسجته كالميت بين يدي غاسله كما في مقولة الإمام الغزالي، ونقطتنا هي أن النقد الموجه لأي شكل تقليدي في المجتمع هو نقد لا يتجاوز التعريف الكلاسيكي لمعنى النقد في القاموس العربي، أي أنه عملية تمييزية فقط وليست معرفية، ومن هنا فدعوتنا أن يتأسس بحث اجتماع عملي لا يشغله التعميم عبر تعريف القضية والسكوت عن شراكات أخرى تسهم في بنائها، ولذا فإن نقد التقليدية في السياق الاجتماعي وتحميل أفراد المجتمع مسؤولية تراجع التطور في البنية العامة فإنه لأمر لا يعدو كونه تعطيل ممنهج للتطور ذاته، بسبب الطَرْق المستمر على الأزمة لا البحث في أفق الحل واستنجاح التجارب عبر الفحص المدروس والمستمر للوعي ووظائفه. والحقيقة أن ما من خطر أكبر على المجتمعات من الطائفية.. فهي البنية التي تستطيع أن تستقطب أكثر مناطق الوعي انغلاقا وتمارس تأثيرا مخربا للوجدان، وهذا ما يجعل منها عصبية مركبة قادرة على تكسير كل تمثيل وطني للدولة، كونها أعلى درجات التعصب وأكثرها تهديدا للنسيج الاجتماعي. والحل سياسات ثقافية تحيي الحوار وتضبط الزمن الاجتماعي وتحفظه من التوظيف السلبي للذاكرة التاريخية.
إن الذي يشغلنا حقا ونحن نرنو إلى واقع عربي أكثر نضجا في مواجهة نفسه، أن تطور المؤسسات البحثية أدواتها وهي إذ تفعل ذلك تقدم الفائدة المطلوبة من عملها، ونحن نؤمن إيمانا ثقيلا بأن جملة مشاكل الواقع العربي لا تعود إلى هيمنة البنى التقليدية فيه بقدر عجزنا عن فهم أسباب استقرارها رغم الادعاء بحالات من التقدم في الظاهرة الاجتماعية ككل، إننا نرنو إلى سيسيولوجيا عربية فاعلة وقادرة على بناء مجتمعات عربية متماسكة وقادرة على تمدين حاضرها بالصورة التي تحفظ لهذه الأمة كيانها وتحقق لمجتمعاتها الاستقرار وتحصنها من التفكك، وتطرح في شرايينها دماء من وعي نافذ ومبصر للتحديات.. وأولى شروط هذا الوعي هي تمتين الانتماء وتحصين الفرد الاجتماعي من التخريب.
غسان علي عثمان كاتب سوداني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الواقع
إقرأ أيضاً:
إسرائيل تعود إلى سياسة فرّق تسد الطائفية لتفكيك سوريا
القدس المحتلة- تشهد الساحة السورية في الآونة الأخيرة تطورات متسارعة من أبرزها التدخل الإسرائيلي المتكرر لا سيما في ريف دمشق، وما يُثار حول دور تل أبيب في تأجيج الأزمة التي تمس أبناء الطائفة الدرزية في الجنوب السوري.
هذا التدخل لا يمكن فصله عن السياسة الإسرائيلية التقليدية القائمة على استغلال الانقسامات الطائفية والمجتمعية في الدول العربية، ومحاولة توظيفها لصالح مشاريع تهدف إلى إضعاف الدولة المركزية وتعميق حالة الانقسام والفوضى.
وتشير قراءات محللين وباحثين في الشأن الإسرائيلي إلى أن ما تريده تل أبيب في سوريا الجديدة برئاسة أحمد الشرع يتجاوز الاعتبارات الأمنية الظاهرة إلى أهداف إستراتيجية بعيدة المدى تتضمن تحويل سوريا إلى كيان هش أو حتى تقسيمها فعليا، بما يضمن غياب أي تهديد مستقبلي من الجبهة الشمالية، ويفتح المجال أمامها لفرض وقائع جيوسياسية جديدة في المنطقة.
اليوم، تسيطر إسرائيل فعليا على مواقع داخل جنوب لبنان، ولها حضور عسكري متزايد في مناطق سورية، فضلا عن سيطرتها على محاور إستراتيجية في قطاع غزة، مما يعكس توجها واضحا نحو تعزيز وجودها الجغرافي في محيطها المباشر، وهو ما يتقاطع مع مخططها لفرض واقع تقسيمي في سوريا.
ووفق الباحث في الشأن الإسرائيلي أنطوان شلحت، يبدو أن إسرائيل تنفذ سياسة قديمة جديدة تتمثل في إثارة النعرات الطائفية داخل المجتمعات العربية، وهذه المرة تركز على الوضع في سوريا، وتحديدا في المناطق التي يقطنها أبناء الطائفة الدرزية.
ويؤكد شلحت للجزيرة نت أن إسرائيل دأبت، منذ عقود، على استغلال التوترات الطائفية لتحقيق مكاسب إستراتيجية، إذ تسعى لبناء تحالفات مع الأقليات التي تعاني من تهميش أو تمييز داخل بلدانها، وتوظف هذا التوتر في زعزعة الاستقرار الداخلي.
إعلان
ويوضح "في الحالة السورية، تُستأنف محاولات تل أبيب لإقامة نوع من العلاقة الإستراتيجية مع الدروز، مستندة إلى تجارب سابقة في لبنان وسوريا لم تؤتِ ثمارها المرجوة".
ولفت إلى أن إسرائيل تسعى من خلال أدواتها وأذرعها الاستخباراتية إلى تعميق الانقسامات الطائفية، مما يندرج في إطار خطة أوسع لتحويل سوريا إلى دولة فاشلة، "بل إلى كيان أكثر فشلا من سابق عهدها إبان حكم الرئيس المخلوع بشار الأسد، عبر تغذية الصراعات الداخلية وضرب النسيج المجتمعي".
وبحسب شلحت، فإن المخطط الإسرائيلي بعيد المدى ويهدف إلى تقسيم سوريا وإبقائها ضعيفة، وهو جزء من صراع النفوذ الإقليمي مع كل من إيران وتركيا، اللتين تملكان تحالفات متجذرة في دمشق، على عكس إسرائيل التي تفتقر لهذا الامتداد، ولهذا تسعى لخلق نفوذ بديل عبر تحريك الفتن الداخلية.
ويرى شلحت أن هجوم "طوفان الأقصى" شكل نقطة تحول في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، حيث اتجهت نحو التوغل داخل أراضي الجوار (لبنان، سوريا، غزة) كخيار بديل عن التحصينات والدفاعات التكنولوجية التي أثبتت محدوديتها. كما تسعى إسرائيل إلى استغلال الروابط الطبيعية بين الدروز في الداخل السوري ونظرائهم داخل أراضيها، لتأجيج التوترات الطائفية ودفع الأزمة السورية نحو مزيد من التعقيد.
ووفقا له، لا تضع إسرائيل حدودا لتدخلها في أزمات الدول التي تعتبرها "عدوة" وعلى رأسها سوريا. ورغم أن أهدافها قد لا تتحقق بالكامل، فإن مصيرها يبقى مرتبطا برد فعل القيادة السورية ودور الحلفاء الإقليميين، خاصة تركيا وإيران، القادرين على كبح طموحات تل أبيب وتعديل ميزان القوى.
من جانبه، يرى الكاتب والمحلل السياسي طه إغبارية أن إسرائيل تسعى لأن تبقى سوريا دولة مفككة ولكن مضبوطة، فهي لا ترغب في الفوضى التي قد ترتد سلبا عليها، لكنها في الوقت نفسه لا تريد لدمشق أن تعود دولة قوية قد تشكل تهديدا مستقبليا لها. ومن هذا المنطلق، تتحرك تل أبيب بحذر في تعاملها مع النظام السوري الجديد، وتراقب التطورات عن كثب.
إعلانوقال إغبارية للجزيرة نت إن معظم التقارير والتحليلات الإسرائيلية تتعامل مع النظام السوري الحالي بقدر كبير من الحيطة والشك، خصوصا في ظل تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي أكد فيها مرارا عدم ثقته بالرئيس أحمد الشرع، متهما إياه بقيادة تنظيمات "إرهابية" تسعى للقضاء على إسرائيل.
ويعتقد أن التدخل الإسرائيلي في الأزمة السورية يأتي في إطار محاولة للهروب إلى الأمام بعد الفشل في تحقيق أهداف العدوان على غزة، ولذلك تعود لتفعيل أجندات قديمة-جديدة في الساحة السورية، في ظل الضعف العربي والإسلامي وغياب أفق سياسي لحل الأزمات في غزة ولبنان.
سياسة الفتنووفق إغبارية، تستغل إسرائيل هذه المرحلة وتعيش نوعا من النشوة السياسية والعسكرية، ويستدل على ذلك بتصريحات متكررة لنتنياهو حول إعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط بما يخدم المصالح الإسرائيلية، بما في ذلك تفكيك الدول المحيطة بها، وإبقاء دول الطوق مستنزفة وضعيفة، وهو ما يصب في خانة الحلم التوسعي بإقامة "إسرائيل الكبرى".
وفيما يتعلق بالوجود التركي في سوريا، يرى المتحدث أن إسرائيل لا تريد التورط عسكريا هناك، كما أنها تخشى ترك الساحة بالكامل لأنقرة التي تُعتبر حليفا رئيسيا للنظام السوري الجديد. وهذا يضع تل أبيب في موقف "الإمساك بالعصا من المنتصف"، إذ تسعى للتوسع وتنفيذ مشاريعها دون الدخول في صدام مباشر مع قوى إقليمية قوية مثل تركيا.
أما عن الدور الإسرائيلي في تأجيج التوترات الطائفية داخل سوريا، فقد اعتبر إغبارية أن تل أبيب تنتهج سياسة الفتن كوسيلة للضغط على الدول المعادية لها، ومن ضمن ذلك التحرك باتجاه الطائفة الدرزية، ومحاولة إضعاف تماسكها في سوريا، من خلال شخصيات دينية مثل الشيخ موفق طريف.
وأوضح أن إسرائيل لطالما وظفت الأقليات في تنفيذ أجنداتها، وتسعى حاليا إلى ربط دروز سوريا ولبنان وفلسطين ضمن مشروع يخدم مصالحها في المنطقة. وختم بأن واقع التدخل الإسرائيلي في سوريا يعكس رغبة تل أبيب في أن تبقى سوريا منقسمة وضعيفة ومشغولة بصراعاتها الداخلية، في ظل غياب أي ضغط عربي فاعل يمكن أن يردع هذا التدخل أو يحد من طموحاتها التوسعية.
إعلان