فى الأسبوع الماضى، أطلقت المستشارة الألمانية السابقة «أنجيلا ميركل» مذكراتها التى حملت عنوان «الحرية.. مذكرات (١٩٥٤-٢٠٢١)» فى «واشنطن» بحضور الرئيس الأمريكى الأسبق «باراك أوباما».

الزعيمان السابقان كانا يتبادلان الدعابات والضحكات.. «أوباما» يسأل بالإنجليزية، و«ميركل» ترد بالألمانية رغم إجادتها للغة محاورها الذى كان يمارس هوايته فى التواصل مع الجماهير وتقديم صورة مشرقة ومحببة لمن يتحدث عنه.

فى هذه الحالة، كان «أوباما» يتحدث عن السيدة «ميركل»، التى لا تحمل جاذبيته أمام الأضواء، ولا ابتسامته الشهيرة التى أسرت قلوب ملايين الأمريكان الذين انتخبوه رئيساً لفترتين، ولا قدرته على صياغة الكلمات (مهما بلغت تفاهتها) فى ثوب أنيق جذاب، يُقنع من أمامه بأنه دائماً على حق.«ميركل»: الرئيس الروسى لم يكن ليقف ساكناً أمام انضمام أوكرانيا لـ«الناتو»

«ميركل»: الرئيس الروسى لم يكن ليقف ساكناً أمام انضمام أوكرانيا لـ«الناتو» ومناقشة الأمر كانت «لعباً بالنار»

ومناقشة الأمر كانت «لعباً بالنار»«أوباما».. المحامى السابق الذى أصبح فيما بعد رئيساً لأمريكا، كان يحاول مساندة حليفته الأوروبية السابقة فى الترويج لمذكراتها التى طُبعت بأكثر من ثلاثين لغة حول العالم، ووصلت منذ الأسبوع الأول لإطلاقها إلى قائمة أكثر الكتب مبيعاً فى ألمانيا. ومن جانبها، حاولت «ميركل» أن تلتقط عدوى الابتسام من «أوباما» لكى تقدم لـ«قرائها» صورة محببة أكثر إنسانية واسترخاءً عن الصورة التى اعتاد عليها «ناخبوها»، تلك الصورة الجادة، العملية، التى لا تبتسم إلا نادراً، ولا تتحرك إلا بحساب وحدود.

تلك الصورة التى اقترنت باللقب الذى أطلقه البعض على «ميركل» خلال فترة زعامتها لألمانيا: لقب «السيدة الوحيدة فى المكان». كانوا يشيرون بذلك إلى أن «ميركل»، بصلابتها وقوة شخصيتها، وطبيعتها التى لا تعرف الاعتذار، وطريقتها فى الثبات على موقفها مهما بلغت شراسة معارضيها، مع حرصها فى الوقت نفسه على «إدارة» الحوار مع من معها للوصول إلى حل لا يفرط فى ثوابتها، جعلها تستحق نفس القدر من الاحترام والاهتمام الذى يحظى به أقوى زعماء العالم، ممن يجتمعون معها فى أروقة الاتحاد الأوروبى وحلف «الناتو» والأمم المتحدة، وينصتون إلى قرارها وكلمتها التى لا تقل ثقلاً ولا تأثيراً عن كلماتهم، لتصبح «السيدة الوحيدة» هى عامل الحسم فى كثير من الأحيان.

«ميركل» ربما تكون قد استعانت بصديقها «أوباما» (الذى تكشف مذكراتها بوضوح عن التوافق الذى كان يحيط بقراراتهما المشتركة)، لتجذب الانتباه إليها من جديد، بعد أن اتجه هذا الانتباه منذ صدور مذكراتها إلى ما جاء فيها عن رجل قوى آخر، لا يقل (بل يزيد!) ثقلاً وتأثيراً وجاذبية عن «أوباما»، هو الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين».

«بوتين» الذى كان فعلياً هو محل ترقب العالم، الذى سعى لمعرفة ما لدى «ميركل» لتقوله عنه فى مذكراتها التى تؤرخ للمراحل التى سبقت الحرب الروسية -الأوكرانية فى ٢٠٢٢، وللفترات التى شهد العالم فيها غزو الولايات المتحدة للعراق (فى عهد الرئيس الأمريكى الأسبق «جورج بوش» الابن)، وكذلك فترة ضم روسيا لجزيرة القرم، والمواجهات بين «الانفصاليين» الموالين لروسيا والقوات الحكومية فى أوكرانيا (بداية التصعيد الروسى المباشر فى عهد الرئيس الأسبق «باراك أوباما»)، ووباء «كورونا» العالمى الذى غيَّر شكل اقتصاد العالم وحساباته (عهد الرئيس الأمريكى «جو بايدن»)، وأخيراً فترة الجدل والانتقادات التى وُجهت لـ«ميركل» بتزايد الاعتماد على الغاز والنفط الروسى لسد احتياجاتها من الطاقة، والاتهامات التى وُجهت لألمانيا بضعف الإنفاق العسكرى فيما يتعلق بالواجبات الدفاعية لحلف «الناتو» فى مواجهة التهديد الروسى تحديداً (فترة الرئيس الأمريكى السابق والمنتخب من جديد «دونالد ترامب»).

جاءت «ميركل» بـ«أوباما» ليركز الأنظار عليها بدلاً من «بوتين»، فعادت الأنظار تتركز على «بوتين» نفسه من جديد! هذه المرة فيما يتعلق بمواجهاته غير المباشرة مع كل الرؤساء الأمريكان خلال فترتيه الرئاسيتين السابقتين، ثم «فترة الراحة» التى مر بها بعدها بشغله منصب رئيس الوزراء (والرجل الأقوى فعلياً فى روسيا) فى عهد نائبه ورجله المخلص «ديميترى ميدفيديف»، ثم فى الفترة التى عاد فيها من جديد لرئاسة روسيا بشعبية مستمرة وكاسحة، استند عليها مطمئناً وهو يقلب الطاولة والموازين، فى نظام عالمى جديد ما زالت ملامحه تتشكل حتى الآن.

تاهت رصانة وتحفظات «السيدة الوحيدة» وسط إثارة وتشويق حلبة الملاكمة السياسية بين الرجال الأقوى فى العالم. بين الرسائل المشفرة واستعراضات القوة الصامتة بين رؤساء أمريكا «المتغيرين» ورئيس روسيا «الثابت». لم يهتم العالم كثيراً بـ«الحسابات» الألمانية الباردة والدقيقة أمام سخونة المواجهات الروسية-الأمريكية التى دارت خلف كواليس القرارات الدولية، لتفرض على الجميع واقعاً متفجراً، يُلقى بصداه فى كل أرجاء الأرض.

واقع تدور رحاه بين رئيس روسى يصر على استعادة الهيبة الكاملة لبلاده، ولا يتهاون مع أى بادرة تُظهر عدم الاحترام إزاءه (على حد تعبير «ميركل» نفسها فى مذكراتها)، وبين رؤساء القوة العظمى الوحيدة فى العالم، الذين يريدون بقاء الحال على ما هو عليه.

وربما كانت المفارقة هنا أن «أوباما» نفسه كان بطل موقف ترويه «ميركل» فى مذكراتها، رأى فيه «بوتين» مجالاً لكى يعلم رئيس أمريكا «الأدب» فى التعامل مع روسيا الجديدة تحت حكمه، والتى لن تقل عظمةً ولا ثقلاً عن الولايات المتحدة كما يريد فى «نظامه» العالمى الجديد.

والمفارقة أيضاً أن «ميركل» نفسها تروى هذا الموقف بكل حيادية وموضوعية دون انتباه منها للرسائل المبطنة التى تحملها تفاصيله، والتى لا يمكن أن تغيب عن أى قارئ يتابع «بوتين»، ويعرف أسلوب «فك شفرة» رسائل رئيس المخابرات الروسية الأسبق الذى أصبح فيما بعد رئيساً للبلاد، لا يتحرك خطوة إلا نحو هدف مقصود، ولا يبادر بتصرف إلا لتوجيه رسالة معينة.

هذا الموقف حدث فى فبراير عام ٢٠١٥. كانت الأمور قد اشتعلت قبلها بعام فى منطقة «الدونباس» الأوكرانية، وسيطرت قوات الانفصاليين الأوكرانيين فيها على منطقتى «دونيتسك» و«لوجانسك» بعد مواجهات عنيفة مع القوات الحكومية الأوكرانية. بدا من الواضح ساعتها أن قوات الانفصاليين الأوكرانيين التى اشتهرت باسم «ميليشيا دونباس الشعبية» تحظى بدعم من روسيا على الرغم من الإنكار الروسى الرسمى لذلك، وهكذا رأت «ميركل» ومعها الرئيس الفرنسى وقتها «فرانسوا أولاند» ضرورة إطلاق مفاوضات رباعية تضمهما مع الرئيس الأوكرانى وقتها «بترو بوروشينكو» (الذى اشتهر بلقب «ملك الشوكولاتة» بسبب امتلاكه لمصنع شوكولاتة «روشن» الأوكرانية الشهيرة)، ورئيس روسيا الاتحادية «فلاديمير بوتين»، من دون أن يجتمع الرئيسان الروسى والأوكرانى مباشرة بسبب التوتر بين البلدين.

جولات مكوكية بين «كييف» و«موسكو» لصياغة اتفاق لوقف إطلاق النار بين القوات الحكومية الأوكرانية والقوات الانفصالية الموالية لـ«موسكو»، قامت بها «ميركل» و«أولاند» فى محاولة لنزع فتيل الأزمة التى كانت نذيراً مبكراً للحرب الروسية الأوكرانية التى اندلعت بكامل قوتها بعدها بسبعة أعوام. لكن فى عام ٢٠١٥، كانت لغة الدبلوماسية تجد مكاناً لها. جلست «ميركل» مع «ملك الشوكولاتة» ليبلغها بشروط الجانب الأوكرانى، ثم اتجهت طائرتها يوم ٦ فبراير من ذلك العام إلى موسكو للاجتماع مع الرئيس الروسى الذى يدير الأمور فعلياً على الأرض.

تحكى «ميركل» عما حدث ذلك اليوم فى مذكراتها فتقول: «عندما وصلنا (الرئيس فرانسوا أولاند وأنا) إلى مقر «الكرملين»، بدأ «بوتين» فى الحديث عن الإهانات المتعددة التى تعرضت لها روسيا من وجهة نظره منذ عام ١٩٩١ (عام انهيار الاتحاد السوفيتى). لم نُبد اعتراضاً، لا أنا ولا «أولاند» على ما يقول، باستثناء ملاحظة تقول إن الصمت لا يعنى الموافقة بأى حال من الأحوال. كنا قد جئنا لمهمة محددة، ولم نرغب فى تشتيت انتباهنا عنها».

  قاموس عسكرى «روسى - إنجليزى» هدية «بوتين» لـ«أوباما» تمهيداً للحرب! 

وتواصل: «وقبل تناول العشاء، قدم «بوتين» لى ثلاث هدايا: كل منها عبارة عن قاموس عسكرى أثرى. أولها قاموس روسى -ألمانى، وثانيها روسى- فرنسى، وآخرها قاموس عسكرى روسى- إنجليزى، وكلها يعود تاريخ إصدارها إلى أواخر القرن التاسع عشر. طلب منى «بوتين» أن أقدم القاموس العسكرى الروسى-الإنجليزى نيابة عنه إلى «باراك أوباما» فى زيارتى المرتقبة لـ«واشنطن» خلال أيام».

وتتابع «ميركل» رؤيتها لمغزى تصرف الرئيس الروسى: «كان هذا مؤشراً مبطناً وساخراً إلى أن «بوتين»، على الرغم من أنه يتحدث معنا، إلا أنه فى الواقع ينظر فقط إلى الولايات المتحدة كشريك مساوٍ له فى المفاوضات. وهكذا، ولإضفاء نوع من الأصالة على الهدية (القاموس العسكرى الروسى- الإنجليزى) طلبت منه أن يكتب إهداءً على صفحة المقدمة.

 الرئيس الأمريكى الأسبق وصف روسيا بأنها «مجرد قوة إقليمية»

وبينما كان يفعل ذلك، أدركت مرة أخرى أن شيئاً لن يوقف سعيه لإظهار روسيا كقوة تقف على قدم المساواة مع الولايات المتحدة الأمريكية، فى مقابل كونها مجرد «قوة إقليمية» كما أشار إليها «أوباما» قبل ذلك بعام، خلال مؤتمر صحفى مشترك مع رئيس الوزراء الهولندى «مارك روته» أثناء القمة النووية التى عُقدت فى «لاهاى» فى ٢٥ مارس ٢٠١٤».

كان هذا هو الخطأ الذى وقع فيه «أوباما»: وصف روسيا بأنها «مجرد قوة إقليمية»، وليست قوة عالمية عظمى كما يراها ويريدها «بوتين».

«ميركل» عن «بوتين»: لن يوقفه شىء عن سعيه لأن تكون «روسيا» على قدم المساواة مع الولايات المتحدة

ولأن «ميركل» تدرك جيداً أن وصف الرئيس الأمريكى الأسبق لروسيا بأنها مجرد «قوة إقليمية» لن يمر مرور الكرام بالنسبة لـ«بوتين»، حرصت المستشارة الألمانية السابقة على تصفية الأجواء وعلى توضيح موقفها مما حدث، فقالت: «إن كلمات «أوباما» جاءت رداً على سؤال حول ما إذا كانت روسيا تُعد أكبر عدو من الناحية الجيوسياسية للولايات المتحدة. بالنسبة لى، فإن النظر إلى عبارة «قوة إقليمية» بمعزل عن السياق المحيط بها يجعلنى أعتبرها عبارة غير موفقة. لكن النظر إليها فى السياق الذى قيلت فيه يجعلنى أشارك «أوباما» فى تقييمه، الذى فسره قائلاً بأنه على الرغم من أن روسيا تُعتبر تهديداً لجيرانها المباشرين فى المنطقة، وعلى الرغم من أن تصرفات روسيا تمثل مشكلة، إلا أنها لا تُعد التهديد الأكبر بالنسبة للأمن القومى الأمريكى. كان هذا أمراً واضحاً حتى من وجهة النظر الجغرافية».

انتهت كلمات «ميركل».

لكن «بوتين» بهديته كان لديه الكثير ليقوله لـ«أوباما»، حتى لو لم تنتبه «حاملة الرسالة» إلى المغزى الذى تحويه.

«بوتين» أهدى قاموساً عسكرياً روسياً-إنجليزياً إلى «أوباما» الذى لا يملك أى خلفية عسكرية، كما لو كان يُعلمه «مفردات» لغة لا يعرفها، كما لو كان يقول له إن أمامه الكثير ليتعلمه قبل أن يبدأ فى مجرد «الحديث» عن قوة عسكرية عظمى مثل روسيا.

القاموس «أثرى»، مطبوع فى القرن التاسع عشر، كأنها رسالة إضافية تشير إلى أن لغة القوة والسلاح والدفاع والحماية والهجوم ضد العدو، كلها أمور راسخة ومتجذرة فى العقلية والنفسية الروسية منذ زمن بعيد، وليست مجرد قوة حديثة التكوين نسبياً مثل الولايات المتحدة.

ليس هذا وحسب، بل إن الثقافة العسكرية الروسية واسعة ومتشعبة وممتدة إلى الحد الذى تحتاج فيه إلى «قاموس» كامل ومتخصص لكى تحيط بها فهماً وعلماً.

«بوتين» الحاسم، ذو التكوين المخابراتى والعسكرى، كان يوجه رسالة إلى «أوباما» المحامى الذى يتلاعب بالكلمات، فأرسل له «قاموساً» ليفهم معنى الكلمات قبل أن يقولها.. «عسكرياً» لكى يفهم لغة «الحرب» التى كان «بوتين» يستعد لإطلاقها. رجل «الأفعال» الروسى كان يحذر رجل «الأقوال» الأمريكى من أن يعود لاستخدام كلمة «غير لائقة» أو لا تُظهر الاحترام الذى يريده لروسيا.

كان «بوتين» يحذر «أوباما» من أن يقع هو نفسه فى فخ كلماته البراقة، ويتصور فعلاً أن روسيا ليست هى التهديد الأكبر بالنسبة لأمريكا. كان يحذره من الاستهانة برد الفعل الروسى الذى يمكن أن تثيره كلمة طائشة (أو «غير موفقة» لو استخدمنا تعبير «ميركل») مثل كلمة «مجرد قوة إقليمية» التى استخدمها لوصف روسيا، وأنه من الممكن جداً أن يجد الرئيس الأمريكى (وحلفاؤه الذين أهدى إليهم «بوتين» قواميس عسكرية مماثلة بلغاتهم) أنفسهم مضطرين لأن يفتحوا هذه القواميس ليترجموا «لغة الحرب» التى ستسود بينهم بدلاً من لغة المفاوضات.

وهو ما حدث بالفعل بضم «بوتين» لشبه جزيرة «القرم» التى كانت تابعة لأوكرانيا إلى روسيا عام ٢٠١٤ فى عهد «أوباما»، ثم باجتياح أوكرانيا نفسها عام ٢٠٢٢ فى عهد «جو بايدن»، نائب «أوباما» الذى أصبح رئيساً للولايات المتحدة.

«بوتين» يحب أن يلعب بهذه الرسائل التمهيدية المشفرة قبل أن يبدأ فى الفعل الصريح. أرسل للأطراف الأمريكية والأوروبية قواميس عسكرية عندما كان يستعد ويمهد للحرب ضد أوكرانيا أولاً، ثم أطلق الحرب الفعلية فيما بعد. تماماً كما كان يعرف أن «ميركل» تخاف من الكلاب فأهدى لها «كلب لعبة» (قائلاً لها «إنه لا يعض»!) أولاً، ثم أدخل عليها كلبته الحقيقية «كونى» فيما بعد!

أما «ميركل» نفسها، فغالباً لم تفتح القاموس العسكرى الروسى- الألمانى الذى أهداه لها «بوتين» عندما اندلعت الحرب الروسية- الأوكرانية عام ٢٠٢٢. لم تكن تحركات الرئيس الروسى ساعتها تحتاج إلى شرح، ولم يعد هناك صوت يعلو على صوت المعركة.

لكن «ميركل» كانت تقرأ الرئيس الروسى نفسه منذ أن بدأت محاولات «أوكرانيا» فى الانضمام إلى حلف «الناتو» عام ٢٠٠٨، وبناء على هذه القراءة، وقفت المستشارة الألمانية السابقة ضد هذه المحاولات، على الرغم من الانتقادات الواسعة الموجهة ضدها.

«ميركل» فى مذكراتها كانت جاهزة بالرد. والواقع أن ردها كان منظماً، واضحاً، لا يخلو من قدرة كبيرة على تقييم الموقف بواقعية وعملية خالية من التصورات الحالمة والمثالية التى حملتها «أوكرانيا» خلال مطالباتها المتكررة بالانضمام إلى حلف «الناتو»، وهى المطالبات التى قالت «ميركل» إنها تتفهمها تماماً، لكنها تفهم أيضاً حجم الكارثة التى كان يمكن أن تؤدى إليها لو حدثت بالفعل، لأنها باختصار كانت تنظر للأمور من وجهة نظر «بوتين»، خاصة فيما يتعلق بتوازنات القوة بين أمريكا وروسيا.

تقول «ميركل»: «فى أى مرحلة لتوسيع حلف الناتو ليضم أعضاء جدداً (أوكرانيا وجورجيا فى هذه الحالة)، فإن الحلف ملزم بتقييم تداعيات هذا الانضمام، وتأثير ذلك على أمنه واستقراره. انضمام أعضاء جدد للحلف لا بد أن يزيد من فاعلية الحلف ككل، وليس مجرد تحسين الوضع الأمنى للدول التى تنضم إليه. وهكذا فإن معيار الانضمام للحلف هو تقييم القدرات العسكرية وتماسك البنية الداخلية فى الدول المرشحة للانضمام له».

وتواصل «ميركل» بنفس لهجة الحسابات الألمانية الصارمة والمحددة: «فى حالة أوكرانيا، كانت أراضيها فى ذلك الوقت تضم شبه جزيرة القرم التى يتمركز فيها أسطول «البحر الأسود» التابع للبحرية الروسية. لم يسبق لدولة مرشحة لعضوية «الناتو» أن كانت مشتبكة مع البنية العسكرية الروسية إلى هذا الحد. بالإضافة إلى ذلك، لم يساند انضمام أوكرانيا إلى حلف «الناتو» سوى أقلية من سكانها فى ذلك الوقت، وكانت البلاد منقسمة على نفسها إلى حد كبير».

وتتابع: «رأيت أن مناقشة انضمام أوكرانيا إلى خطة عمل حلف «الناتو» (وهى الخطوة التمهيدية للعضوية الكاملة للحلف) دون النظر إلى الأمر من وجهة نظر «بوتين» ستكون نوعاً من اللعب بالنار. منذ اللحظة التى وصل فيها «بوتين» إلى الحكم عام ٢٠٠٠، وهو يضع على قمة أولوياته استعادة المكانة الدولية لبلاده بحيث لا يكون فى مقدور أحد أن يتجاهل روسيا، لا سيما الولايات المتحدة. «بوتين» لم يكن يعنيه بناء أنظمة ديمقراطية ولا توفير الرفاهية للجميع، لا فى الداخل ولا فى الخارج. كان طموحه الفعلى هو مقاومة ورفض انتصار أمريكا فى الحرب الباردة. كان يريد أن تكون روسيا قطباً أساسياً فى عالم متعدد الأقطاب. ولتحقيق هذا الهدف، كان يلجأ إلى خبرته فى العمل فى الأجهزة الأمنية».

وتدعم «ميركل» تقييمها لـ«بوتين» بما حدث خلال مؤتمر الأمن فى ميونيخ فى فبراير ٢٠٠٧. قائلة: «فى الكلمة التى ألقاها «بوتين»، راح يتحدث عن العالم ذى القطب الواحد قائلاً إنه يشير إلى مركز واحد للسلطة، وللقوة، ولاتخاذ القرار فى عالم لا يوجد فيه سوى سيد واحد وحاكم واحد. ثم ذكر الولايات المتحدة بالاسم قائلاً: إننا نشهد تجاهلاً متزايداً للمبادئ الأساسية للقانون الدولى. دولة واحدة، هى الولايات المتحدة أولاً وقبل كل شىء، قد تجاوزت كل حدودها القومية بكل الطرق. وبالإشارة إلى حرب العراق، تحدّث «بوتين» عن «الاستخدام المفرط للقوة فيها (من قبَل الولايات المتحدة) بشكل لا يمكن احتواؤه».

وتواصل «ميركل»: «كان بإمكانى أن أراقب «بوتين» عن كثب وهو يلقى خطابه. كان يتحدث سريعاً، وأحياناً من دون النظر إلى الملاحظات التى غالباً ما كتب أكثرها بنفسه، إن لم يكن كلها. كان يقدم نفسه بالصورة التى عهدته عليها: شخص متربص دوماً بانتظار أى إشارة على وجود سلوك مهين تجاهه، فى الوقت الذى يستعد فيه دائماً لإظهار عدم الاحترام للآخرين، إما بأن يجعلهم يجلسون فى انتظاره وإما بأن يمارس معهم ألعاباً لاستعراض القوة باستخدام الكلاب (فى إشارة إلى الموقف الذى أدخل فيه «بوتين» كلبته الأليفة «كونى» على «ميركل» مع علمه بخوفها من الكلاب). يمكنك أن ترى أن كل هذه حركات طفولية، لكن روسيا تظل موجودة على الخريطة».

وتتابع «ميركل»: «ما الذى كان يعنيه انضمام أوكرانيا إلى خطة عمل «الناتو» فى ضوء ذلك؟ إن تصور أن هذا الانضمام كان يمكن له أن يحمى أوكرانيا من عدوان «بوتين» عليها، أو أنه يمكن أن يشكل رادعاً له، أو أن الرئيس الروسى سيظل ساكناً أمام هذه التطورات هو ضرب من الخيال والوهم. ولو أن الأسوأ قد وقع بالفعل، هل كان من الممكن تصور أن يكون رد أعضاء «الناتو» هو إرسال معدات عسكرية ثقيلة وقوات إلى أوكرانيا؟ ماذا كانت ستكون العواقب، ليس فقط على أوكرانيا ولكن أيضاً بالنسبة لدول حلف «الناتو»؟ إن الحصول على عضوية «الناتو» بشكل كامل يستغرق خمس سنوات على الأقل منذ خطوة الانضمام إلى خطة عمل الحلف، وافتراض أن «بوتين» سوف يجلس مكتوف الأيدى خلال هذه الفترة هو تفكير مبنى على الأمنيات».

وبهذا، قدمت «ميركل» تبريرها لرفض انضمام «أوكرانيا» للناتو، لكن مذكراتها كانت تحمل المزيد لترويه عن رئيس أمريكى آخر، لم يكن راضياً عن تعاملها مع ملف الأزمة الأوكرانية، ولا عن تعاونها مع «بوتين» فى مجال الطاقة والغاز الطبيعى، ولا عن سياساتها فى حلف «الناتو» بشكل عام.

هذا الرئيس كان يحمل اسم «دونالد ترامب».

لكن هذه قصة أخرى.

عرض وترجمة: يسرا زهران

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: أمريكا روسيا ميركل الولایات المتحدة انضمام أوکرانیا الرئیس الروسى أوکرانیا إلى على الرغم من قوة إقلیمیة فیما بعد مجرد قوة التى کان الذى کان روسیا ت یمکن أن التى لا من وجهة من جدید لم یکن فى عهد ما حدث

إقرأ أيضاً:

تسير في الاتجاه الصحيح.. إشادات دولية بالإجراءات المصرية بمجال حقوق الإنسان آخر 10 سنوات

لقيت الإجراءات التى اتخذتها مصر فى ملف حقوق الإنسان خلال السنوات العشر الماضية إشادات دولية واسعة من مؤسسات وشخصيات بارزة، ما يعكس التقدير العالمى للتحولات الإيجابية التى حققتها الدولة المصرية فى المجال الحقوقى.

وأشاد خبراء دوليون بالتقدم الملحوظ الذى أحرزته مصر، خصوصاً فى مجالات الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، مؤكدين نجاح العديد من المبادرات، وفى مقدمتها مبادرة «حياة كريمة» التى أحدثت نقلة نوعية فى تحسين حياة المواطنين فى المناطق الأكثر احتياجاً.

«الاتحاد الأوروبى»: مصر تسير فى الاتجاه الصحيح

وأشاد الاتحاد الأوروبى لحقوق الإنسان بالخطوات الملموسة التى اتخذتها مصر فى هذا المسار، واصفاً إياها بـ«خطوات ذات مصداقية» سواء على المدى القصير أو المتوسط. أعرب إيمون جيلمور، الممثل السابق للاتحاد الأوروبى لحقوق الإنسان، عن إعجابه بالتطورات التى شهدتها مصر فى مجال حقوق الإنسان، خاصة فيما يتعلق بضمانات المحاكمة العادلة التى نصت عليها الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان.

وقال: «لا توجد أى دولة فى العالم تمتلك سجلاً ناصعاً فى حقوق الإنسان، بما فى ذلك دول الاتحاد الأوروبى، لكن التطورات فى مصر تظهر أنها تسير فى الاتجاه الصحيح، خاصة مع ارتباط حقوق الإنسان بأهداف التنمية المستدامة».

وأكد المرصد العربى لحقوق الإنسان التابع للبرلمان العربى تقديره للخطوات الرائدة التى اتخذتها مصر لتعزيز منظومة حقوق الإنسان، واعتبر إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان نموذجاً يُحتذى به فى المنطقة. وأشاد بالجهود الإصلاحية المتتالية التى تُعزز من الحقوق المدنية والاجتماعية.

«الحر»: مصر شهدت تغيرات ملحوظة على مستوى الإصلاحات التشريعية

من جانبه، قال د.عبدالمنعم الحر، رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان فى ليبيا، إن تطور حقوق الإنسان فى مصر شهد تغيرات ملحوظة على مر السنوات الماضية، موضحاً أن ملف حقوق الإنسان يظل مثيراً للجدل فى كثير من الأحيان ما بين الإيجابيات والتحديات.

وأوضح «الحر» أن مصر شهدت تطويراً واضحاً وملحوظاً على مستوى الإصلاحات التشريعية والقانونية فى المجال الحقوقى، حيث تم تشريع بعض القوانين التى تهدف لحماية حقوق الإنسان وخاصة الفئات الهشة «المرأة والأطفال»، وأيضاً تم العمل على ملف زيادة الوعى ونشر ثقافة حقوق الإنسان وهناك جهود متزايدة بالتنسيق مع المنظمات الدولية كمنظمة العربية لحقوق الإنسان ونشر تلك الثقافة بالعديد من المحافظات.

وتابع: «خلاصة القول إنه توجد تغيرات إيجابية، ولكن تبقى هناك تحديات كبيرة تحتاج إلى معالجة لضمان التقدم فى حقوق الإنسان وفقاً لمقتضيات الاستراتيجية الوطنية المصرية لحقوق الإنسان».

«نصرى»: مصر تلقت إشادات دولية فى تعاملها مع اللاجئين ومكافحة الهجرة غير الشرعية

بدوره، قال أيمن نصرى، رئيس المنتدى العربى الأوروبى للحوار وحقوق الإنسان بجنيف، إن الدولة نجحت بشكل كبير بتوجيهات من الإدارة السياسية بتحويلها إلى دولة تدار من خلال مؤسسات، وبالتالى قضت على مركزية إدارة الدولة بتوفير حماية وصلاحية كاملة للسلطتين التشريعية والقضائية، وهو الأمر الذى انعكس على أداء الحكومة المصرية وأجهزتها التنفيذية المختلفة والتى أعطت أولوية لتعزيز الحقوق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وتعتبر ترسيخاً قوياً وترجمة لفكرة حقوق الإنسان على الأرض وهو الأمر الذى يوليه المجلس الدولى لحقوق الإنسان اهتماماً خاصاً.

وأكد «نصرى» أنّ التقدم الملحوظ فى ملف حقوق الإنسان بمصر انعكس على الإشادات الدولية التى تلقتها مصر، وهو ما حدث من الدول الأعضاء بالمجلس الدولى أثناء خضوع مصر لفحص شامل للملف الحقوقى المصرى على مدار 4 سنوات، وذلك من خلال آلية العرض الدورى الشامل فى نوفمبر الماضى، كما لاقت إشادات من 111 دولة من 133 دولة بنسبة تخطت 82% وهى نسبة كبيرة.

واستكمل: تركزت هذه الإشادات فى ملفات مختلفة أهمها على المستوى الداخلى «تعزيز مبدأ المواطنة وتمكين المرأة اجتماعياً وسياسياً ومحاربة البطالة من خلال إطلاق الحكومة عدداً من برامج التنمية المستدامة، والتى تتمثل فى تدريب شباب للحصول على فرص عمل»، كما حصلت مصر على إشادة مهمة بالتحسن الكبير الذى طرأ على المنظومة الصحية لتشمل نسبة كبيرة من الشعب المصرى مع الاهتمام الواضح بتعزيز منظومات الإسكان وتوفير عدد كبير من الوحدات السكنية لمحدودى الدخل والشباب».

ونوه «نصرى» بأنّ مبادرة حياة كريمة بمرحلتيها أحدثت نقلة نوعية على المستويين المحلى والإقليمى بالارتقاء بالريف بالوصول إلى الأماكن الأكثر فقراً والأكثر احتياجاً وتقديم الدعم الأساسى لهذه المناطق كما لعبت دوراً ومحورياً فى تخفيف المعاناة عن مواطنى قطاع غزة من خلال تقديم المساعدات المستمرة حتى فى أشد الظروف الأمنية تعقيداً وخطورة.

وأكد أنّ الدولة ساهمت بشكل كبير فى إعادة إحياء عمل المجلس القومى لحقوق الإنسان بتذليل كل العقبات، من أجل إعلان تشكيل المجلس الحالى والذى ظل معطلاً لفترة زمنية، وساهم هذا التعطيل فى ارتفاع وتيرة الهجوم على الدولة المصرية حقوقياً فى المجلس الدولى لحقوق الإنسان، من خلال بعض المنظمات الحقوقية التى تحمل صبغة سياسية، استطاعت أن تمرر بعض الشكاوى الكيدية ضد مصر، ولكن الوضع الآن اختلف كلياً بعد إعادة تفعيل عمل المجلس باللجان المختلفة والتى تتواصل بشكل مباشر من لجان المفوضية السامية، وهو الأمر الذى أسهم فى إعادة تفعيل حلقة الوصل بين الدولة والمجلس الدولى لتقديم صورة حقيقية عن أوضاع حقوق الإنسان فى مصر.

واستكمل حديثه بأنه على المستوى الدولى، قدمت مصر مردوداً قوياً وحصلت على إشادات أوروبية ودولية فى تعاملها مع اللاجئين من أكثر من 61 دولة دون قيد أو شرط أو دعم مادى، فى الوقت الذى بذلت جهوداً كبيرة فى مكافحة الهجرة غير الشرعية والتى تهدد الأمن القومى لدول الاتحاد الأوروبى كما بذلت الدولة المصرية مجهودات كبيرة لمكافحة الإرهاب محلياً وإقليمياً.

مقالات مشابهة

  • إعادة إحياء «شباب امرأة»
  • المخطط بات واضحًا
  • الديمقراطية الزائفة «2»
  • سقوط بشار.. ماذا تبقى بعد قتل الدولة؟!
  • الصداقة الزائفة
  • سوريا الماضى والمستقبل
  • تسير في الاتجاه الصحيح.. إشادات دولية بالإجراءات المصرية بمجال حقوق الإنسان آخر 10 سنوات
  • روسيا تعلن القضاء على 1530 جنديًا أوكرانيًا خلال 24 ساعة من المواجهات
  • الثقافة ليست مسئولية الدولة فقط
  • الكرملين: بوتين هو من قرر منح بشار الأسد حق اللجوء في روسيا