السودان وحرب اللا حل
تاريخ النشر: 7th, December 2024 GMT
السودان وحرب اللا حل
ناصر السيد النور
عادة ما تنشأ الحروب وفق تعقيدات غالبا ما يكون تقديرها مختلف عليه ويكون تفسير دواعيها مهمة يضطلع بها من غير مشعلوها من محللين وخبراء ومؤرخين وبعض من الجنرالات كما في العالم الثالث. والبعد الاستراتيجي للحرب الذي تتأسس عليه الرؤية والعقيدة العسكرية كما في استراتيجية الحرب التقليدية، ومنها حروب موطنها العالم الثالث تتساوى مع استراتيجيات الحروب الأخرى مؤداها قتل الانسان بالدرجة الأولى.
إن الحرب الجارية في السودان فيما بات يعرف بالـ”الأزمة السودانية “ظلت منذ انطلاقها منذ عام ونصف في العام الماضي في الخامس عشر من ابريل/نيسان 2023م قد انتجت نمطا جديدا من حروب البلاد المتعددة لا سوابق لها وبالتالي تعقدت أزمتها في إدارة عملياتها أو توصلا لحل يضع حدا لمآسيها الإنسانية. والواقع أن تجاوزاتها على كافة مستويات انتهاكاتها وجرائمها الإنسانية ما عرفته نزاعات الدولة الداخلية، ولأنها جسدت صراع ونوازع في السلطة والدولة والمجتمع كان من الطبيعي أن تستعصى على الحل على نحو الحلول التي يتم التوصل إليها في نهايات كل الصراعات. فما الذي يقف عائقاً أمام محاولات الحل بعد أن استنفذت الحرب كل أهدافها في التدمير ووصولا إلى ما تصنفه القوانين والأعراف من إبادة عرقية ومذابح على نحو غير مسبوق؟ ولكنها مع ذلك تواصلت وتيرتها بين طرفيها الجيش وقوات الدعم السريع وما تبع ذلك من ظهور مكونات عسكرية للطرفين على أساس قبلي وجهوي زاد من حدتها وباعد بينها وبين محاولات حلها على ما تعهده نهايات النزاعات من حوار وتفاوض وتسوية واتفاق.
وإن أكثر ما شغل السودانيين حول هذا الحريق الكبير السؤال حول من أطلق الرصاصة الأولى؟ وهو تساؤل على اجتهادات البعض من خارج دارة الطرفين وغيرهم في الإجابة عليه إلا أنه ظل تساؤلا عالقا يبحث عن إجابة عن أهمية الأسباب غير المرئية التي أدت إلى إطلاق النار ابتداء. ومع أن التساؤل نفسه يكشف عن الاستعداد والتخطيط الذي كان يعد لشن الحرب من قبل الطرفين إلا أنه بدا تساؤلا ميتافيزيقيا ينطوي على غموض أكثر منه مدعاة للبحث عن جذور الصراع. ويتضح أيضا إن من وراء السؤال نفسه طبيعة تفكير المكونات العسكرية وتوغل الأطراف السياسية على مؤسساتها. وقرار الحرب أو تعجيل المواجهة التي كانت حتمية وقتها كان لابد له من قوة عسكرية وقرار مدني سياسي أو حزبي في السياق السياسي السوداني يمثل غطاء شرعيا تلك التي تقتضيها الحرب. وما أن طالت الاتهامات الحركة الإسلامية بوقوفها خلف الجيش حتى تحول الصراع بين ما هو عسكري وأيديولوجي وبالضرورة سياسي يأخذ بكل الأسباب المنطقية منها والواهية في تبرير كل طرف موقفه في مواصلة الحرب أو الدفاع عن النفس. وبالنتيجة اتخذت الأبعاد المدنية المتحولة عسكريا من كيانات اجتماعية وقبلية وواجهات سياسية مواقف تعكس الطرق المسدودة التي توصلت الأزمة السودانية والتي باتت خارج مألوف مفاوضات السلام وتقنياتها المعرفة لها في حدود مبادئ التفاوض واعرافه.
مداخل الحل للأزمة السودانية المعقدة في طبيعتها وتوصيفها لا تختلف عن طبيعة الحرب نفسها، ودائما كان تعدد الأطراف المشاركة في الحرب، فقد جاءت الحلول بذات التعدد من اختلاف المنابر واجندات التفاوض. فالإسناد الإقليمي والدولي لطرفي الحرب باعد بين محاور الحلول باختلاف الرؤى المؤدية إلى مسارات الحلول. ولم يقتصر هذا التدخل في اطاره الإقليمي العربي والأفريقي بل شمل قوى دولية مؤثرة مما يشيء بتوازنات القوة على مستوى محور النظام العالمي، وما جرى في مجلس الأمن في الثامن عشر من الشهر الماضي بشأن مشروع القرار الذي تقدمت المملكة المتحدة وسيراليون لوقف الحرب والسماح بدخول المساعدات الإنسانية الذي أبطله تصويت روسيا باستخدام حق النقض “الفيتو”. وبهذا يكون تدخل المجتمع الدولي على المستوى الأممي قد وصل بالفيتو الروسي إلى نهاية غير متوقعة مما زاد من تباعد الأزمة السودانية من طرق الحل الدبلوماسي الدولي. ويتبع كل فشل في مبادرات الحلول التي عادة ما يكون تحت رعاية أطراف خارجية ضراوة في المواجهات العسكرية بين الطرفين كما لو كان فشل في التفاوض يعني ضوء اخضرا للطرفين للمضي قدما في الانتهاكات التي يرتكبها الطرفان بحق المواطنين.
والموقف الداخلي للحرب هو ما يجرى على صعيد المواجهات العسكرية بين الطرفين ويأمل كل طرف في سحق الطرف الآخر كآخر مراحل الحل العسكري، وهو أمر فيما بدا يصعب على الطرفين تحقيقه. وعلى ما شكله اجتياح المدن والقرى خروج مدن وولايات بكاملها عن سيطرة الدولة المفترضة وسياداتها وأصبحت تحت السيطرة المباشرة لقوات الدعم السريع وفشل الأخيرة في إدارة أو التعامل مع هذا الواقع المحقق عسكريا وفق منظومة إدارة مؤسسات الدولة. وهذا الواقع العسكري انسحبت تأثيراته على الموقف من التفاوض منذ بدايته في منبر جده بعيد اندلاع الحرب برعاية سعودية أميركية. ولم تكن الاستجابة السياسية للطرفين انحيازا لسلام تقتضيه الحالة الإنسانية التي احدثتها الحرب بقدر خضوعها للضغط الدولي خاصة من الدول التي تتحكم إلى حد ما بمجريات الأمور في أزمة السودان. ويبقى الحديث عن حل عسكري في ظل الواقع الجغرافي والاستقاطابات الاجتماعية للحرب حلا بعيد المنال وثمنه أفدح من أن تحتمله الأوضاع القائمة بالبلاد.
ومن ثم فإن الحل السياسي بما يعني المحاولات المدنية للضغط على الطرفين للقبول بمبدأ التفاوض السلمي وحملها بالتالي للتنازل عن طموحهما السياسي او العسكري لصالح مصلحة وطنية عليا في وقف الحرب، فيبدو أمرا غير واقعي أو متصورا في المناخ العسكري للحرب. فلا وجود لمكونات مدنية بالبلاد على نحو ما كان قبلها والمتبقية منها في الداخل تعمل من وراء التشكيلات العسكرية التي تدعم استمرار الحرب. ولا تزال القوة المدنية ممثلة في الحركة الإسلامية بهيمنتها على الجيش وإدارة المعركة القوة المدنية الوحيدة التي لا تقبل حوارا او تفاوضا مع الأطراف المدنية الأخرى التي تقيم بالخارج مثل تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) الفصيل المدني الوحيد الذي يطرح مبادرة وقف الحرب في مواجهة الأصوات الداعمة لاستمرار الحرب. ولم يعد المجال مهيأ في الداخل على تبنى حلولا يكون مسارها مخرجات حوار مدني بخروج كافة التيارات السياسية من دائرة الفعل السياسي بخلاف تصريحاتها على وسائل الإعلام.
فهل تركت الأزمة السودانية التي تشكل المواجهة العسكرية العنيفة لتحل نفسها بنفسها؟ فإذا ما تركت الحرب تفرض واقعها الجديد الذي تزداد معه معاناة المواطنين والنازحين في الداخل والخارج دون أن تتمكن الدولة أو المجتمع الدولي بمبادراته الكثيرة من وقفها فالراجح استمرار المعاناة وتحول مظاهرها من مجاعة وامراض تفتك بالمواطنين إلى حرب إبادة كارثية. والإشكال الآخر في مسار الأزمة أن كل الأطراف المتقاتلة تفتقد إلى رؤية أو مشروعا للوقف الحرب ومستقبل السلام فما نتجت عنها من واقع لم يكن قائما يخشى الكثير من العسكريين والسياسيين تقبله أو الاعتراف به فأصبح السلام بالتالي نفسه كابوسا لما يأتي بعده. فإذا فرضت الحرب حلولها على انتهت إليه من نتائج مؤثرة على الخارطة البلاد الجغرافية فإن حلولا مقارنة في نزاعات السودان قد تعود للظهور مرة أخرى مثلما حدث في حرب الجنوب التي انتهت بانفصال جزء 2011 من القطر كحل أخير. ومن المفارقات التأريخية أن تكون الخرطوم التي احتضنت مؤتمر القمة العربية في اعقاب نكسة حرب يونيو/تموز 1967 الذي عرف بمؤتمر اللاءات الثلاث: لا صلح لا اعتراف ولا تفاوض مع الكيان الصهيوني أن تظل هذه اللاءات مرفوعة ولكن هذه المرة في حرب أهلية.
الوسومالسودان حرب الجيش والدعم السريع قمة اللاءات الثلاث نكسة يونيو
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: السودان حرب الجيش والدعم السريع نكسة يونيو
إقرأ أيضاً:
السلاح والغذاء في حرب السودان
تدخل الحرب الأهلية السودانية اليوم (15 مارس/ آذار 2024) شهرها الرابع والعشرين. عامان من الاقتتال، بلا أفق واضح لحلّ سلمي. بحسب منظمّة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، يحتاج 30 مليون سوداني إلى مساعدات، بينما نزح 14 مليون شخص في داخل السودان وإلى خارجه. لكن المستقبل لا يبدو مبشّراً بحلول سلمية قريبة، وما زالت مرحلة انهيار الدولة وتفكّكها تتواصل رغم محاولة السلطة العسكرية التظاهر بأن الحياة تسير طبيعية، مع طلبها أخيراً من الجامعات السودانية استئناف الدراسة والامتحانات في مناطق سيطرة الجيش.
أمّا حكومة "الدعم السريع" (الموازية) فما تزال تبحث عن أرض تضع فيها رحالها، متوعّدةً بإقامة سلطة كاملة، فاتفاق نيروبي السياسي لم ينتج حكومةً بعد رغم ضجيجه كلّه، والمتحالفون مع نائب قائد "الدعم السريع"، عبد الرحيم دقلو، ما زالوا يَعدون بإعلان حكومة من داخل السودان، ويبشّرون بأسلحة جديدة تأتي، كما يحتفي أنصار الجيش بأسلحة جديدة أتت. هكذا يعيش 14 مليون نازح ينتظرون بشارات الأسلحة الجديدة. وبينما يعيش 1.3 مليون طفل سوداني في أماكن تعاني من المجاعة، يصرّح قادة الطرفَين أن الحرب ستستمرّ ألف عام حتى يأتي النصر(!).
لكنّه تأخّر عامين. قبل اندلاع الحرب كان الانطباع العام أنها حرب الساعات الستّ. لكن ما يبدو واضحاً بعد 24 شهراً أنها حرب أتت لتبقى. أوجدت الحرب خلال عاميها ثقافة من التوحّش، وهو أمرٌ لا يقتصر على المقاتلين، فالصحافيون الذين يغطون الحروب الأهلية يتأثّرون بثقافة الوحشية التي تحيط بهم. وثّق الذين غطّوا الحرب اللبنانية، وحرب البوسنة، التغيّرات التي مرّوا بها، وكيف أصبحوا أكثر توحّشاً وتقبّلاً للعنف. مع هذا التوحّش، تزداد الانتهاكات، ما يغذّي دائرة الانتقام، فتصبح عواقب العنف أقلّ من عواقب الحلول السلمية، فيزداد الانتقام، ويتحوّل عنفاً وقائياً.
لذلك، تقبّلت المجتمعات السودانية فكرة التسليح الأهلي، وتكوين مليشيات جديدة للدفاع عن مناطقهم، أو لضمان تمثيلهم السياسي، وهي دلالةٌ واضحةٌ على خلل التعاطي السياسي في السودان، إذ أصبحت البندقية الضامن للمشاركة السياسية. رغم أن البندقية لم تثمر في حروب السودان السابقة كلّها، لكننا ما زلنا نصرّ على أن المليشيات هي الحل، ويواصل الجيش الاحتفاظ بالسلطة السياسية مع ترحيبه بتكوين المليشيات للقتال بجانبه.
تبدو الحرب السودانية في طريقها إلى الحالة الليبية، هذا إذا نجحت مجموعة نيروبي في أن تجد مكاناً تُعلن منه حكومتها التي أصبحت محلّ تساؤلٍ، بعد تحذيراتٍ دوليةٍ عديدة من هذه الخطوة. لكن الأخطر تأثير الحرب في الإقليم ودول الجوار، فرغم أنها لم تخرج عن السيطرة، إلا أنها ما زالت تهدد المنطقة الهشّة بالانفجار، فنيران الحرب السودانية تمتدّ وتؤثّر في الدول الجارة، وتهدّد بجرّها إلى الفوضى ذاتها.
عامان من الحرب، ومن المناشدات الدولية بوقفها، لكن الجيش ظلّ يتهم العالم كلّه تقريباً بالتآمر عليه ودعم خصمه، ويرفض أيّ دعوة إلى الوصول إلى أيّ تسوية تؤدّي إلى وقف إطلاق النار، بينما ظلّت قوات الدعم السريع تقبل الدعوات كلّها، وتواصل إطلاق النار على العزّل وتدفنهم أحياء.
في إحاطةٍ، قدمها أمام مجلس الأمن، ذكر أمين عام منظّمة أطباء بلا حدود، كريستوفر لوكيير، كيف يستهدف طرفا الصراع المستشفيات، وكيف تعيق البيروقراطية وصول المساعدات إلى المحتاجين. لا تفرز هذه الدوامة من العنف إلا مزيداً من التوحّش، وتعقيد مسار الحلّ. ويتضاعف عدد المليشيات في البلاد، وتزداد سلطتها. والعجيب أن ذلك يحدث وسط تأييد شعبي غير قليل، كأنما فقد الناس قناعتهم بالدولة الحديثة وسلطتها، لكنّهم، في الوقت ذاته، يقولون إنهم يتوسّلون الوصول إلى هذه الدولة عبر طريق التسليح الشعبي، وكسر احتكار الدولة للعنف.
هكذا يجد السلاح طريقه إلى السودان ليعزّز الحرب الأهلية، لكن المساعدات تعوقها البيروقراطية، ويَجمع المجتمع الدولي التمويل لإنقاذ حياة مئات آلاف الأطفال الذين يُتوقّع معاناتهم من سوء التغذية الحادّ، بينما تَجمع المليشيات الأسلحة وتعتقل ناشطي العمل الطوعي.
فشلت المساعي لجعل الحالة الإنسانية السودانية مهمّة المجتمع الدولي، لكن لا يعاني أحد فشل توفير السلاح للمتقاتلين.
نقلا عن االعربي الجديد